الدرس الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
نبدأ ـ إن شاء الله تعالى ـ بشرح منظومة ابن أبي داوود، المشهورة بالمنظومة الحائية، وبين يدي ذلك أحب أن أذكر بأن تحصيل العلوم الشرعية من أعظم ما يتقرب به إلى الله ـ تعالى ـ في هذا الزمان؛ وذلك أن العلم هو ميراث النبوة، فأعظم ما ورثه الأنبياء هو العلم بالله ـ تعالى ـ والعلم بالطريق الموصل إليه، فالاشتغال بتحصيل هذين النوعين من العلم هو أشرف ما اشتغل به المشتغلون، فكل خير يكون في الناس فهو فرع من العلم بالله ـ تعالى ـ وعن العلم بالطريق الموصل إليه.
ولذلك ـ يا إخواني ـ كان العلم لا عدل له، كما قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته ؛ وذلك أن بالعلم يعرف العبد ما لله ـ عز وجل ـ من الكمالات، وبه يعرف ما له من الحقوق ـ جل وعلا ـ والعلوم على شتى صنوفها وتنوعها، يجب أن يستحضر المتعلم فيها أنها تحقق أحد مقصدين:
المقصد الأول: العلم بالله تعالى.
المقصد الثاني: العلم بالطريق الموصل إليه.
ولذلك كل علم من علوم الشريعة تتعلمه، انظر مدى ما يحقق لك من هذين المقصدين وهاتين الغايتين، فبقدر ما يتحقق هذان المقصدان، وبقدر ما تحصل من هاتين الغايتين يعلو شرف العلم، ولذلك كان أعظم العلوم علم الكتاب والسنة، فالعلم بالقرآن هو أعظم العلوم ؛ لأنه يحقق هذا على وجه الكمال، فإن القرآن جاء مُعرِّفا بالله ـ تعالى ـ ولهذا كان مليئاً بذكر ما يتعلق بالتوحيد، وما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وما يتعلق بالأفعال التي تضاف إلى الرب ـ جل وعلا ـ على وجه ينجلي به ما لله ـ تعالى ـ من الكمالات التي تعقلها الأذهان وتدركها العقول.
ولذلك كان القرآن في غالبه خبراً عن الله ـ تعالى ـ وخبراً عما له من الكمالات، وخبراً عمن دعوا إليه، وخبراً عن آياته الآفاقية، وآياته الخلقية، وآياته الكونية: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾فصلت: 53فالعلوم بشتى صنوفها يجب أن ينظر إليها بهذا الميزان، مدى ما تحقق لك من العلم بالله ـ تعالى ـ ومدى ما تحقق لك من العلم بالطريق الموصل إليه ؛ لأن العلم بالله هو أصل العلوم، والعلم بالطريق الموصل إليه هو حق الله ـ تعالى ـ على العباد، فإذا علمت ما له من الكمالات تبادر السؤال كيف أوفيه حقه؟ وكيف أقوم بما له من الحقوق؟ لا يمكن أن يتحقق هذا إلا من طريق العلم بالطريق إلى الله جل وعلا.
والشريعة بناؤها على إصلاح المقاصد، وبيان الطريق الموصل إلى الله ـ جل وعلا ـ وهذا الأصلان الكبيران يضمهما أو يختصرهما حديثان:
الحديث الأول: ما افتتح به البخاري صحيحه، وهو قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:((إنما الأعمال بالنيات))صحيح البخاري في باب بدء الوحي برقم(1) ، وفي رواية: (النية)، فهذا يضبط ما يتعلق بمقاصد وعمل القلب.
الحديث الثاني: العمل المتعلق بالسير إلى الله ـ تعالى ـ يضبطه ما رواه البخاري ومسلم من حديث القاسم بن محمد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))صحيح البخاري برقم (2499).
ففي الحديث الأول يتبين أن العلم يتعلق بالقلوب إصلاحاً وتزكيةً، ولا يصلح القلب ولا يزكو ولا يطيب إلا بالعلم بالله ـ تعالى ـ وفي الثاني ضبط ما يكون من عمل الجوارح، ولا يكون ذلك إلا بأن يكون على وفق ما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والناس ـ يا إخواني ـ في هذا الزمان في غاية الضرورة والحاجة إلى العلم، هذه حاجتهم منذ أن خلقهم الله ـ تعالى ـ لكن في هذا العصر الذي تشعبت فيه الطرق، وتشتت فيه الآراء، وتنوعت فيه الأفكار، واضطرب الأمر على الناس، حتى اختلط الحق بالباطل في كثير من الأحيان، لا يمكن أن يميز الحق من الباطل إلا بطريق واضح جلي، وهو كتاب الله ـ تعالى ـ وهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلذلك كل جهد مبذول في العلم بالله ـ تعالى ـ والعلم بما كان عليه رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو جهد مبرور، لا يعدله جهد المجتهدين، أو عمل العاملين، سواء كان ذلك في دعوة أو إغاثة، أو إحسان إلى الخلق بشتى صنوف الخير وأبواب البر، لا يعدلها شيء، ولا يقوم مقام هذا العمل عمل من الأعمال، بل حتى الطاعة الخاصة، من الصلاة والزكاة والصدقة وإغاثة المستغيثين وإطعام الجائعين، كل هذا لا يكون إلا عن علم، ولهذا العلم هو أفضل الفضائل، كلها تدرك بالعلم، ما أدركنا فضل الصلاة إلا بالعلم، ولا أدركنا فضل الإحسان إلى الخلق إلا بالعلم، فلذلك كان العلم أفضل ما ينبغي أن تصرف فيه الأوقات.
والمشاهد أن العلم ينصرف عنه الناس كثيراً ؛ وذلك بسبب أن العلم فيه من الثقل ما يحتاج إلى تهيئة، والله ـ تعالى ـ يقول لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾كل هذا لماذا؟ ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾المزمل: 1 إلى 5وهو القرآن العظيم الذي تضمن العلوم ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾العنكبوت: 49
هذا الثقل للعلم يجعله محلاً لأشرف النفوس، وأعلى القلوب تحملا له، ولذلك العلم ينفي كل من دخله بغير نية سليمة، وكل من سلكه لغرض دنيء، لا يتحقق العلم إلا لمن أخلص القصد لله ـ تعالى ـ وأخلص الطلب له، ولذلك ـ يا إخواني ـ من المهم أن نهيء قلوبنا للعلم.
وإذا نظرت فيما أخبر الله ـ تعالى ـ عن القرآن وإنزاله، تجد أن الله ـ تعالى ـ أنزله على قلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالقلب هو محل العلم:﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ﴾النحل: 102.﴿نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾البقرة: 97، وهذا يدل على أنه محل العلم، ولذلك في سورة النور:﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِه﴾ النور: 35، هذه الآية مضروبة لمثل العلم في قلب العبد المؤمن، ولذلك ـ يا إخواني ـ يجب أن تهيأ هذه القلوب حتى تدرك هذه العلوم، فينبغي لنا أن نعتني بقلوبنا، وأن نعتني بشرف ما نشتغل به، هذه هي الخلاصة التي نريد أن نصل إليها، والحديث في هذا الموضوع حديث ذو شجون، وحاجة الناس إلى العلم اليوم من أكبر ما ينبغي أن يُبين لطلبة العلم المشتغلين به ؛ لأنه يحفزهم على بذل الجهد والصبر والمصابرة في تحصيل العلوم، والمكابدة في إدراكها؛ فإن الإشتغال بالعلم أعظم ما يحتاجه الناس اليوم.
الناس لا يحتاجون إلى أطباء وإلى مهندسين وإلى مثقفين وإلى دعاة وإلى واعظين، بقدر ما يحتاجون إلى أهل العلم الذي يبينون الحقائق، ويكشفون ما في هذا القرآن من الأسرار، وبه يكمل الوعظ والدعوة، وتكمل كل العلوم، حتى علم الطب وعلم الهندسة وسائر العلوم الدنيوية لا تكمل إلا إذا كمل العلم بالله ـ تعالى ـ وبقدر ما يحصل عند الناس من نقص في العلم بالله، والعلم بالطريق الموصل إليه، بقدر ما يحصل عندهم من الاختلال، وحتى يتبين لك هذا انظر إلى ما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من علامات الساعة، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة وغيره ذكر جملة مما يكون بين يدي الساعة، ومنها رفع العلم وظهور الجهل، وانتشار الزنا، وكثرة الهرج، كل هذا ناشيء عن قلة العلم، فإذا فشا العلم وانتشر في بلاد، كان ذلك من دواعي الخير والبركة على أهلها في عقائدهم وأعمالهم، بل في دينهم ودنياهم ؛ لأن من الناس من يظن أن العلم فقط لإقامة الدين، والحقيقة أن العلوم تقيم الأديان وتعمر البلدان، فالله ـ تعالى ـ بعث الرسل لإصلاح المعاد وإقامة المعاش.
ولا يدرك الإنسان العلم إلا بالصبر، الله ـ تعالى ـ يقول:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ آل عمران: 200، هذا لا يمكن أن يكون إلا لمن قصد مقصدا عاليا، والعلم أعلى المقاصد وأكبرها، يقول الله ـ تعالى ـ: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر﴾العصر: 1 إلى 5، فالوصية بالصبر لتحقيق المراتب كلها، الإيمان، العمل الصالح، التواصي بالحق، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.
درسنا هذا سيكون ـ إن شاء الله تعالى ـ في المنظومة الحائية، وهو اسم أطلقه بعض العلماء على ما نظمه أبو بكر عبد الله بن سليمان الأشعث السجستاني، في السنة، أي: فيما يجب اعتقاده في الله جل وعلا.
العلم مأخوذ من الكتاب والسنة، وتناقله علماء الأمة طبقة عن طبقة، وجيلا عن جيل، ولما كثرت العلوم وتنوعت، عمل العلماء على تقريبها وتسهيلها وتذليلها للطالب، وكان من جملة وسائل التسهيل النظم، فالمنظومات هي إحدى الوسائل التي سلكها العلماء قديما في تقريب العلوم للمتعلمين.
وتقريب العلم عبادة وطاعة جليلة؛ لأنه تيسير للشريعة، يقول الله ـ تعالى ـ عنها:﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ القمر: 17، وهذا تيسير لحفظ الكتاب، وتيسير لما تضمنه من المعاني، فالشريعة بناؤها على التيسير والتسهيل والتقريب، ولذلك كان القرآن الذي هو مصدر العلوم موصوفا بهذا الوصف، وكان عمل العلماء من صدر الأمة على هذا النحو من تسهيل العلوم وتقريبها؛ لأنه وسيلة لحفظها ولضبطها والاستكثار منها.
والنظم أن تجمع المعاني الكثيرة في فن من الفنون بلفظ موزون مقفى يسهل حفظه، ومن المنظومات التي عنت بتيسير العلم منظومة ابن أبي داوود ـ رحمه الله ـ وهي من أوائل النظم؛ إذ أنها في القرن الثالث الهجري، على أن من الباحثين في المنظومات من يقول: إن أول نظم محفوظ كان في القرن السادس الهجري، لكن الصحيح أنه وجد قبل القرن السادس بكثير، وما يشاع من أن النظم إنما كان في فترة انحطاط الأمة وضعفها، ودعوى إغلاق باب الإجتهاد، فهو غلط أيضا، فالنظم كان قبل ذلك.
ومن أوائل المنظومات في العلم هذه المنظومة، وقد سبقها نظم معروف من كلام الشافعي في جمع بعض الأحكام وضبطها وما إلى ذلك، لكن منظومة متكاملة في علم معين، يظهر أن منظومة ابن أبي داوود من أوائل المنظومات، ولا نقول: أول منظومة، ولكن هي من أوائل النظم الذي حفظ ونقل إلينا.
هذه المنظومة سميت حائية ؛ لأن قافيتها تنتهي بالحاء، والقافية هي اسم للحرف التي ينتهي به البيت الشعري، والغالب في المنظومات التي يتداولها طلاب العلم وتحفظ بها المتون العلمية، أن تكون على بحر الرجز، وهو بحر من بحور الشعر، إلا أن هذه المنظومة هي على غير المألوف، فهي من البحر الطويل، ومعرفة هذا مفيد لمعرفة ما تميزت به هذه المنظومة عن سائر المنظومات، فقد تميزت بأنها من البحر الطويل خلافا لما جرى عليه عرف الناظمين في المنظومات العلمية من اختيار بحر الرجز.
وأبيات هذه المنظومة اختلف العلماء في عدها، فمنهم من قال: إنها ستة وثلاثون بيتاً، ومنهم من قال أقل من ذلك، وهي فيما يبدو ثلاثة وثلاثون بيتا، وقد زيد فيها ما ليس منها، إلا أن هذه المنظومة من حيث الأصل محفوظة عن مؤلفها، حتى إن الذهبي قال: هي منظومة متواترة الحفظ عن صاحبها، وبيّن صحة نسبتها لمؤلفها.
المؤلف هو أبوبكر عبد الله بن سليمان السجستاني، فهو ابن الإمام أبي داوود صاحب السنن المشهورة، ومن أصحاب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أثنى العلماء على عبد الله ثناء عطراً، وذكروا له من الفضائل والمناقب، والحرص على العلم والتعليم، ونشر السنة والشريعة، ما حفظته كتب السير، ودونته دواوين أهل العلم، ممن ترجموا للأئمة والأعلام، ولا نقف عند هذا طويلا؛ لأنه مما يعرف ويدرك.
هذه المنظومة لها شروحات كثيرة من أبرزها وأوسعها "لوائح الأنوار الثنية ولواقح الأفكار السنية شرح المنظومة الحائية"، وهو شرح مطبوع محقق متقدم، للإمام السفاريني صاحب المتن المشهور في الاعتقاد "الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية" المشهور بعقيدة السفاريني، وشرحه "لوامع الأنوار البهية"، ومعلوم أن السفاريني ـ رحمه الله ـ يتميز بطول الباع، وسعة الاطلاع، وتنوع المصادر في الاستشهاد من الكتاب والسنة وأقاويل السلف ونقولات أهل العلم إلى عصره، وشرحت شروحات أخرى، كشرح ابن البنا، وشرح ابن بطة، وغيرهما، واختصرت اختصارات كثيرة.
أبيات هذه المنظومة تضمنت جملة من مسائل الاعتقاد، إلا أنها لم تستوعب جميع ما يتعلق بمسائل الاعتقاد؛ لأن المؤلف اقتصر على أبرز المسائل التي تحتاج إلى إيضاح وبيان، ويبدو ـ والله أعلم ـ أنه جمع مسائل جرى فيها الخلاف في زمانه.
ابتدأ المؤلف بوصية جامعة،وهذا محله البيت الأول والثاني، ثم بعد ذلك من البيت الثالث إلى الخامس، تكلم عن مسألة القرآن وأنه كلام الله غير مخلوق، ثم بعد ذلك من البيت السادس إلى التاسع تكلم عن مسألة رؤية الله ـ جل وعلا ـ وفي البيت العاشر تكلم عن صفة اليد لله ـ جل وعلا ـ وفي البيت الحادي عشر إلى الرابع عشر تكلم عن صفة النزول، وفي البيت الخامس عشر إلى الواحد والعشرين تكلم عن مراتب الناس في الفضل بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي البيت الثاني والعشرين والثالث والعشرين تكلم عن الصحابة وما يجب اعتقاده فيهم، وفي البيت الرابع والعشرين تكلم عن القدر، ومن البيت الخامس والعشرين إلى الثامن والعشرين تكلم عن مسائل تتعلق باليوم الآخر، ومن البيت التاسع والعشرين إلى الثالث والثلاثين تكلم عن مسائل الإيمان، الأسماء والأحكام، وبيان من ضل في ذلك، وفي البيت الرابع والثلاثين إلى السادس والثلاثين ذكر وصية وخاتمة ختم بها هذا النظم، فهذه عشر نقاط وخاتمة.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ولا تك بدعيا لعلك تفلــح
ودن بكتاب الله والسنن التي أتت عن رسول الله تنجو وتربح
وقل غير مخلوق كلام مليكنا بذلك دان الأتقياء وأفصحـوا
في بعض نسخ ابتدأ المؤلف بالبسملة، والبداءة بالبسملة سنة نبوية، فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كان يبدأ كتبه بالبسملة، كما أنه سنة قرآنية، فالله ـ تعالى ـ افتتح كتابه الحكيم بالبسملة، بل افتتح سور القرآن العظيم بالبسملة إلا سورة براءة، وجاء في ذلك الحديث المعروف المشهور: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع))أخرجه أبو داود (4840)، والنسائي في السنن الكبرى (10328)، وابن ماجه (1894) ، إلا أن هذا الحديث لا يثبت من جهة الإسناد، ويكفي في ثبوت هذه السنة ما جاء في القرآن العظيم من افتتاح السور بالبسملة، وما جاء في هدي النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من افتتاح الكتب بالبسملة.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (تمسك بحبل الله واتبع الهدى)، (تمسك) فعل أمر، والتمسك مأخوذ من الإمساك بالشيء، وهو دال على شدة الأخذ بالشيء وشدة الاعتناء به.
قال: (بحبل الله) هذا الأمر الأول، ثم قال: (واتبع الهدى) هذا الثاني، ويحتمل أنه عطف على التمسك، أي: تمسك باتباع الهدى، ويمكن أن يقال: إنه عطف على الفعل (تمسك)، فيكون أمر بالتمسك وبالاتباع، ويكون المُتمسَّك به والمتبع شيئا واحدا، هو الهدى.
فما المقصود بحبل الله؟ الحبل يطلق على السبب؛ لأنه يوصل إلى الغاية والمقصود، ولذلك يستعمل الحبل لاستخراج الماء وغير ذلك، والمقصود به هنا السبب الذي يوصلك إلى الله تعالى، فهو من باب إضافة الشيء إلى صاحبه، وحبل الله هو القرآن العظيم، قال الله ـ تعالى ـ:﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾آل عمران: 103، وقد جاء في تفسير هذه الآية أن حبل الله هو القرآن، في قول عامة أهل التفسير، وقيل: حبل الله الطاعة، وقيل: حبل الله الجماعة، والذي يظهر أن القرآن يشمل ذلك كله؛ لأن التمسك بالقرآن، هو تمسك بالطاعة، وتمسك بالجماعة، وتمسك بكل خير؛ إذ القرآن يهدي للتي هي أقوم، كما قال الله ـ تعالى ـ:﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾الإسراء:9 وجاء في صحيح مسلم من حديث زيد بن أرقم في وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه في غدير خم أنه قال: :((ألا وإني تارك فيكم ثقلين كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة))صحيح مسلم: (4425) ، وهذا يدل على أن القرآن حبل الله ـ تعالى ـ وجاء ذلك أيضا فيما رواه أصحاب السنن وأحمد عن علي ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((ستكون فيكم فتنة)) قالوا: فما المخرج منها؟قال: ((كتاب الله، فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، وفصل ما بينكم)) ثم ذكر في أوصافه ((هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم))سنن الترمذي باب فضل القرآن برقم (2831).
قوله: (واتبع الهدى) الاتباع هو لزوم الطريق، وذلك بأن يكون الإنسان على وفق طريق من اتبعه.
والهدى هنا المقصود به ما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العلم يقول الله ـ تعالى ـ:﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ التوبة: 33، وقد فسره جماعة من أهل العلم بأنه العلم النافع، فقوله: (الهدى) أي: العلم، وهذا يشمل ما في القرآن، فيكون تأكيدا للتمسك بحبل الله، ويشمل ما كان من هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويمكن أن يقال: إن الأمر باتباع الهدى توضيح لمعنى التمسك بالقرآن ؛ لأن التمسك ليس بأن يلزم الإنسان الشيء دون أن يعمل به، بل لابد من العمل، فلا يتحقق تمام التمسك بالشيء إلا بالعمل.
ويمكن أن يكون قوله:(تمسك بحبل الله) أي: القرآن، وقوله: (واتبع الهدى) يعني هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيكون أمر بلزوم الكتاب والسنة، اللذين بهما سعادة البشرية، وخروجها من الظلمات إلى النور.
قال:(ولا تك بدعيا) البدعة تقابل التمسك بحبل الله واتباع الهدى، فإما أن يكون الانسان متمسكاً بكتاب الله ومتبعا هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإما أن يكون خارجا عن ذلك، فيكون بدعيا، فهو ـ رحمه الله ـ أمر بالشيء ونهى عن ضده، ونص على الضد تحقيقا لما أمر به.
وقوله:(ولا تكن بدعيا)البدعي نسبة للبدعة، ويقابله السني، والبدعة طريق مخترع ليس له مثال سابق في القول والعمل، هكذا قال جماعة من أهل العلم، ويمكن أن يقال: البدعة إحداث في الدين، سواء كان ذلك في مسائل الاعتقاد أو في مسائل العمل، لا فرق، وجماع البدعة هو الخروج عما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه رضي الله عنهم.
يقول: (لعلك تفلح) أي: رجاء أن تفلح، والفلاح هي أوسع كلمة في لسان العرب للدلالة على الخير المطلق، فإن الفلاح هو إدراك المرغوب، والأمن من المكروه.
ثم قال ـ رحمه الله ـ:
ودن بكتاب الله والسنن التي أتت عن رسول الله تنجو وتربح
بعد أن بين في البيت الأول المنهج على وجه الإجمال، جاء بالتفصيل في هذا البيت فقال: (ودن بكتاب الله) أي: انقد وذل واعتقد ما في كتاب الله، فقوله: (دن) مأخوذ من الديانة، والديانة تدور على معنى الذل والانقياد، ولذلك سمي الدين دينا، وسمي ما يأخذه الإنسان على وجه القرض دَيْنًا؛ لأنه يذل به الإنسان، وقد قيل: الدَّين ذل في النهار، وهمّ في الليل.
قال: (والسنن التي أتت عن رسول الله) السنن جمع سنة، وهي لغة الطريقة، وشرعاً يشمل كل ما جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الهدي، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالأعمال، أو فيما يتعلق بالعقائد، ما يتعلق بالواجبات أو بالمستحبات، وليس المقصود اصطلاح الفقهاء من أن السنة ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، فهذا اصطلاح خاص حادث.
وقوله: (والسنن التي أتت عن رسول الله) هذا فيه وجوب العناية بثبوت هذه السنن ؛ لأنه قال: (السنن التي أتت) أي: ثبتت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي القرآن لم يذكر المؤلف ما يتعلق بالثبوت؛ لأن ثبوته قطعي، فالقرآن منقول بالتواتر، أما السنن فلا بد من ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (تنجو وتربح) النجاة اسم جامع للسلامة من كل ما يكرهه الإنسان، والربح جامع للفوز بكل ما يحبه الإنسان، والإنسان في سعيه يقصد غرضين:
الأول: أن يسلم من المكروهات.
الثاني: أن يفوز بالمحبوبات.
وهذان الغرضان والمقصدان يتحققان بالانقياد للكتاب والسنة، فإنه يحصل له النجاة، فيسلم مما يكره، ويحصل له الربح، فيفوز بما يحب ويرغب، وقد ذكر الله ـ تعالى ـ هذا الوصف في التقوى التي بها يتحقق للعبد الانقياد للكتاب والسنة، فقال ـ جل وعلا ـ:﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون﴾ الزمر:61 هذا في جانب السلامة، وفي جانب الفوز بما يرغب وتحصيل ما يحب قال الله ـ تعالى ـ:﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً﴾ النبأ:31 وبهذا يتبين أن التزام الكتاب والسنة اعتقاداً وعملاً، يتحقق به للعبد هذان المقصدان: النجاة من المكروهات، والفوز بالمحبوبات.
وافتتح المؤلف ـ رحمه الله ـ هذه المنظومة بهذين البيتين؛ لبيان سبيل النجاة فيما ذكر، وفيما لم يذكر؛ لأن المؤلف لم يذكر جميع ما يتعلق بمسائل الإعتقاد، إنما ذكر نبذا وشذرات متفرقة، وتفصيل ذلك وبيانه مبسوط في كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكر المؤلف المنهج العام الذي يجب أن يلتزمه المؤمن في كل أمر، وإذا تتبعنا كلام العلماء فيما ألفوه في مسائل أصول الدين تجدهم يحرصون على التقعيد في أولها، ولهذا ينبغي العناية بهذه الوصايا الجامعة، والجمل الماتعة، التي بها يحصل تمييز طريق الحق عن طرق الضلال، وتمييز طريق أهل السنة عن طرق غيرهم ـ والله أعلم ـ ويأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ ما يتعلق ببقية أبيات هذه المنظومة في الدروس القادمة، وصلى الله على نبينا وسلم.