بسم الله الرحمن الرحيم
يقول المؤلف ـ رحمه الله ـ:
وقد ينكر الجهمي أيضا يمينه وكلتا يديه بالفواضل تنفح
وقل ينزل الجبار في كل ليلة بلا كيف جل الواحد المتمدح
إلى طبق الدنيا يمن بفضله فتفرج أبواب السماء وتفتح
يقول ألا مستغفر يلق غافرا ومستمنح خيرا ورزقا فيمنح
روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا
هذا المقطع من كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ تضمن تقرير أمرين مما يتعلق بصفات الله ـ جل وعلا ـ:
الأمر الأول: تقرير صفة اليد للرب جل وعلا.
والأمر الثاني: تقرير نزوله سبحانه وبحمده للسماء الدنيا.
قوله ـ رحمه الله ـ: (وقد ينكر الجهمي) قد هنا للتحقيق؛ إذ إن الجهمية ينكرون هذه الصفة، والمؤلف ـ رحمه الله ـ كرر ذكر الجهمية في هذا النظم في كل ما مضى من الصفات التي قررها، وبين عقد أهل السنة والجماعة فيها، فذكرهم في صفة كلام الله ـ تعالى ـ حيث قال: (كما قال أتباع لجهم وأسجحوا)، وكذلك في صفة الرؤية قال:(وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا بمصداق ما قلنا حديث مصرح)، وفي صفة اليد يقول: (وقد ينكر الجهمي أيضا) يعني إضافة إلى ما تضمن من الصفات التي سبق تقريرها، وبيان ما جاء فيها عن سلف الأمة، وفقا لكلام الله ـ تعالى ـ وسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن الجهمية ينكرون صفة اليد.
والإنكار هنا بمعنى الجحود، والجحود طريق من الطرق التي يسلكها من يعطل الله ـ تعالى ـ عن صفاته، وقد يكون الإنكار أيضا بالتأويل، وبالإعراض، وبالتجهيل، كل هذه الطرق من الطرق التي تؤدي في نهاية المطاف إلى إنكار ما أثبته الله ـ تعالى ـ لنفسه، وقد جمعها ابن القيم ـ رحمه الله ـ في النظم فقال:
الجحد والإعراض والتأويل والتجهيل حظ النص عند الجاني
وهذا على خلاف ما عليه أهل السنة الذين عظموا الكتاب والسنة، فقابلوهما بالتسليم والقبول، وفي ذلك يقول ابن القيم:
لكن لدينا حظه التسليم مع حسن القبول وفهم ذي الإحسان
(حظه التسليم) أي: نصيبه الانقياد، (مع حسن القبول وفهم ذي الإحسان) فهو تسليم مع قبول وحسن فهم، وفق ما يقتضيه النص من إثبات الكمالات لله ـ جل وعلا ـ وبهذا يتميز طريق أهل السنة والجماعة عن غيرهم.
فقول الناظم ـ رحمه الله ـ: (وقد ينكر الجهمي) إشارة إلى ما انتهى إليه طريقهم، سواء سلكوا في ذلك الجحود والتكذيب، أو الإعراض وعدم الاهتمام، أو نسبة النصوص إلى الجهل، وأنها لم تخبر عن الله ـ تعالى ـ بما هو أهله من الكمال، أو بالتأويل المذموم الذي حقيقته التحريف، فمنتهى هذه الطرق كلها التعطيل وجحد صفات الله تعالى.
يقول ـ رحمه الله ـ: (يمينه) أي: صفة اليد لله ـ جل وعلا ـ وقد جاء الخبر عن هذه الصفة في كلام الله ـ جل وعلا ـ وفي سنة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وتواردت على ذلك أقاويل السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أهل القرون المفضلة، كلهم يثبث أن لله يدا تليق بجلاله ـ سبحانه وبحمده ـ والذي جاء في القرآن من الخبر عن هذه الصفة على طرق ثلاثة:
الطريق الأول: إضافة اليد إلى الله تعالى مفردة، ومن ذلك قوله ـ جل وعلا ـ: ﴿بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾الملك: 1، وقوله ـ تعالى ـ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ﴾المائدة: 64، ومن ذلك قول الله ـ جل وعلا ـ: ﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾الفتح: 10، فكل هذه النصوص جاء الخبر فيها على هذه الصفة مضافة إلى الله ـ تعالى ـ على وجه الإفراد.
الطريق الثاني: صيغة التثنية، كما في قوله ـ تعالى ـ: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾المائدة: 64، وقول الله ـ تعالى ـ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ص: 75.
الطريق الثالث: صيغة الجمع، وذلك في قوله ـ تعالى ـ:﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾يس: 71، وليس من هذا قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾الذاريات: 47، بل الأيد هنا معناه القوة، وليس هذا تأويلا بل هو مقتضى اللغة العربية، ويؤكد ذلك أنها لم ترد مضافة لله تعالى.
وهل بين هذه النصوص تعارض؟ الجواب: لا، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾النساء: 82لكنه من الله ـ سبحانه وبحمده ـ الذي يقول: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾هود: 1أي: أتقنت، ومن اتقانها سلامتها من التعارض والتناقض، فما الجمع بين هذه الصيغ ؟ وهل لله يد واحدة، أو له يدان، أو له أيد؟
الجواب: أن أهل السنة والجماعة على أن لله يدين، وذلك أن التثنية نص في العدد، بخلاف صيغة الإفراد، وصيغة الجمع، فإنهما ليستا نصا في العدد، لاسيما إذا كانتا مضافتين، فمثلا قول الله ـ تعالى ـ: ﴿بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾، يد مفرد مضاف، والمفرد المضاف يفيد العموم، فيشمل يدا ويدين وأكثر من ذلك، كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾الضحى: 11نعمة مفرد، هل ذلك يعني أن ليس هناك إلا نعمة واحدة؟ لا، المقصود به كل نعم الله ـ تعالى ـ ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾إبراهيم: 34.
فعلم من هذا أن صيغة الإفراد لا تعارض التثنية، ولا تعارض الجمع؛ لأن المفرد المضاف يفيد العموم، فيدل على الواحد وعلى الاثنين وعلى الثلاث وما إلى ذلك.
وكذلك صيغة الجمع لا تعارض الإفراد؛ لأن الجمع يأتي في كلام العرب ويراد به التعظيم، من ذلك قول الله ـ جل وعلا ـ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾الحجر: 9والذي أنزل الذكر هو رب العالمين ـ جل وعلا ـ وقوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾النحل: 102فهومنزل من الله ـ جل وعلا ـ فأخبر عن نفسه بصيغة الجمع مع أنه هو واحد، ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾النحل: 22، ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾الإخلاص:1، وما أشبه ذلك من النصوص الدالة على انفراده جل وعلا.
وإذا تبين أن الإفراد لا يعارض التثنية والجمع، وإذا كان الجمع لا يعارض الإفراد، فمن باب أولى أن لا يعارض التثنية، لكن التثنية لا يمكن أن يفهم منها إلا العدد، ويؤكد هذا أن السنة دالة على أن لله يدين اثنتين.
وأهل العلم يقسمون الصفات من حيت ثبوتها، أي: من حيث طريق ثبوتها إلى قسمين: صفات سمعية خبرية، وصفات معنوية، والفرق بينهما أن الصفات المعنوية يمكن للعقل أن يستدل عليها ويثبتها، مثال ذلك: صفة الحياة، فقد ثبتت بالكتاب والسنة، وهذا واضح، وهل يمكن إثباتها بالعقل؟ نعم؛ إذ أنه لا يمكن أن يكون المتكلم السميع البصير الكامل في صفاته إلا حيا، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إن الله لاينام ولا ينبغي له أن ينام))صحيح مسلم (263)؛وذلك لكمال حياته، وكمال قيومته.
وأما الصفات الخبرية السمعية فهي الصفات التي لا طريق لإثباتها إلا النص، والخبر عن الله وعن رسوله، ومن ذلك صفة اليد، والوجه، والنزول، والاستواء، فإنه لولم يأتنا الخبر عن الله وعن رسوله في إثباتها لم يمكن إثباتها بالعقل، لكن هل ثبوتها بالنص ينافي العقل؟ الجواب: لا، فلا مدخل له في الإثبات.
والصفات الخبرية قدتكون صفات ذاتية، وهذا تقسيم آخر للصفات، فما كان من الصفات متصفا به على وجه الدوام يسمى صفة ذاتية، وما كان من الصفات يتصف به الله متى ما شاء سمي صفة فعلية.
فالصفة فد تصنف بأنها خبرية، وتقرأ في موضع آخر أنها ذاتية، فهل هذا تناقض؟ لا، فهذه تقسيمات باعتبارات مختلفة، فمثلا هذه المجموعة من الحضور يمكن أن نقسمها وفق العمر إلى قسمين: ما تحت العشرين وما فوق العشرين، ويمكن أن نقسمها من حيث الجنسيات إلى أقسام عديدة من الشمال والجنوب والشرق والغرب، فالذي تحت العشرين هل يمكن أن تجده في القسمة الثانية؟ ممكن، فتقول مثلا: هذا شمالي دون العشرين، فهما وصفان لا تعارض بينهما، فكذلك الأمر في الصفات، فاليد صفة ذاتية ؛لأن الله لم يزل ولا يزال متصفا بها، وهي خبرية سمعية؛ لأن ثبوتها كان بالخبر والسمع.
قوله: (يمينه)هذا مستفاد من النصوص، فقد جاء في الصحيحين من طريق معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((إن يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة))صحيح البخاري (6983)، أي لا تنقصها نفقة، كما قال ـ جل وعلا ـ: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾المائدة: 64، فوصف يده باليمين، وفي الصحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ـ عز وجل ـ وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا))صحيح مسلم (3406).
وقوله: ((وكلتا يديه يمين)) أي: ليس فيهما نقص، بل كلتاهما فيها الخير والبركة، ولذلك قال المؤلف: (وكلتا يديه بالفواضل تنفح)لنفي توهم النقص في اليد الأخرى، أو في اليد الشمال كما جاء ذلك في بعض الاحاديث.
قوله: (بالفواضل)الفواضل جمع فضل، وهو الإحسان والمنح والعطايا، وقوله: (تنفح)أي: تعطي وتمنح، وهو دال على كثرة العطاء وجزيل المنح.
هناك انحرافات وقعت في صفة اليد، قمن أهل الأهواء من أنكرها بالكلية، ومنهم من قال: إن المقصود بها النعمة أو القدرة، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، فإن الله ـ تعالى ـ قال:﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ولا يمكن أن تفسر في هذا المقام بقدرتين ولا بنعمتين، فنعم الله كثيرة، والذي حمل على هذا التأويل الباطل هو توهم التشبيه، فجمعوا بين سوأتين: التشبيه والتعطيل، وهذا معنى قول العلماء: كل معطل ممثل أو مشبه ؛ لأنه ما انتهى إلى التعطيل إلا بعد توهم التشبيه، وإلا لو أجرى النص على ظاهره الذي يليق بالله ـ تعالى ـ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، لسلم له دينه ولم يقع في هذا الانحراف.
ثم انتقل المؤلف لصفة النزول فقال:
وقل ينزل الجبار في كل ليلة بلا كيف جل الواحد المتمدح
قوله:(قل)هذا مثل ما تقدم فيه الأمر بالاعتقاد والنطق، إلا أنه في صفة اليد لم يأت بهذه الصيغة، فقال: (وقد ينكر الجهمي أيضا يمينه)، وإنما ذكر ذلك فيما أسهب فيه وأطال، ففيما يتعلق بالقرآن ذكر ثلاثة أبيات، وفيما يتعلق بالرؤية ذكر أربعة أبيات، وفيما يتعلق بالنزول ذكر أربعة أبيات أيضا، فلما تكون القضية كبرى يبسط الكلام فيها بخلاف غيرها.
يقول ـ رحمه الله ـ: (وقل ينزل الجبار في كل ليلة) في هذا إثبات صفة النزول لله ـ تعالى ـ وهي ثابتة ثبوتاً لا مرية فيه، فقد جاءت الأحاديث في ذلك عن جماعات من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "وأحاديث النزول متواترة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رواها أكثر من عشرين نفسا من الصحابة بمحضر بعضهم من بعض، والمستمع لها منهم يصدق المحدث بها ويقره، ولم ينكرها منهم أحد"، وهذا يدل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تكلم بذلك كلاما بينا تلقاه عنه أصحابه، ويقول الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ: أحاديث نزول الباري متواترة، ويقول أيضا: قد سقت طرقها وتكلمت عليها بما أسأل عنه يوم القيامة، وهذا يدل على أنه بالغ في تقريره وتحريره وتوضيحه بما يسره أن يلقى الله ـ تعالى ـ به يوم القيامة، فهذه الصفة ثابتة ثبوتا قطعيا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وقل ينزل الجبار في كل ليلة)فأخبر عن النزول وعن وقته، وأنه كل ليلة، وهذا ما جاء به الحديث الذي سيشير إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ في منظومته.
وأضاف النزول إلى الجبار فقال: (وقل ينزل الجبار)وهو اسم من أسماء الله العظيمة، يقول الله ـ تعالى ـ:﴿الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾الحشر: 23، وقرن بين هذين الاسمين؛ لكمال العظمة بهما.
ولماذا أضاف المؤلف ـ رحمه الله ـ هذه الصفة لهذا الاسم؟ لقد بحثت على ذلك في الأحاديث التي وقفت عليها فلم أجد إضافة صفة النزول للجبار، وكلها وردت بلفظ (ينزل ربنا) أو (ينزل الله)، لكن جاء عن بعض السلف إضافة النزول إلى الجبار.
وأما مناسبة اختيار المؤلف لهذا الاسم ـ فيما يظهر ـ أن الجبار من معانيه العلو، فأراد أن يبين أن نزول الله ـ جل وعلا ـ لا ينافي علوه.
والجبار يأتي في أوصاف الله ـ تعالى ـ على ثلاثة معان، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
وكذلك الجبار من أوصافـه *** والجبر في أوصافه قسمان
جبر الضعيف فكل قلب قد غدا *** ذا كسرة فالجبر منه دان
وهذا المعنى يغيب عن كثير من الناس، فالجبار الذي يجبر قلوب عباده، ويلم شعثها، ويسكِّن مخاوفها، ومنه قول الشاعر :
كل كسر فــإن الدين يجبـــره *** وما لكسر قناة الدين جبران
إذا انكسر دين العبد فلا يجبر إلا بالتوبة.
فالمعنى الأول هو جبر الضعيف وجبر المنكسر بتسكين مخاوفه وإنالته ما يطلب، قال:
والثاني جبر القهر بالعز الذي ** لا ينبغي لسواه من إنسان
فمن معاني الجبار القهر، ثم ذكر المعنى الثالث فقال:
وله مسمى ثالث وهو العلو ** فليس يدنو منه من إنسان
من قولهم جبارة للنخلة الـ ** عليا التي فاتت لكل بنان
النخلة إذا علت وارتفعت، ولم يطلها الناس قالوا عنها: جبارة، والله ـ تعالى ـ في علوه لا يناله ولا يدنو منه إنسان، إذا اختيار هذا الاسم لإثبات علو الله ـ تعالى ـ وأنه ينزل بالرحمة وبالإحسان وبالخير العميم لعباده، كل هذه المعاني مستفادة من نزوله، وهي دالة على كماله سبحانه وبحمده.
والنزول معناه في اللغة أن يكون من علو إلى سفل، ولذلك يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "النزول المعقول عند جميع الأمم" يعني الذي تدركه عقولهم أن يكون من علو إلى سفل، لكن هل هذا يعني أن يكون نزوله ـ جل وعلا ـ كنزولنا؟ الجواب: لا، فإن الله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، وهل يلزم من هذا أن يكون نزوله نقصا؟ الجواب: لا، فهو العزيز الحكيم، الكامل في صفاته ـ سبحانه وبحمده ـ وهل يلزم من هذا أن يحيط به شيء من خلقه؟ الجواب: لا، وهل يلزم من هذا أن تنفى عنه صفة العلو؟ الجواب: لا، فكل هذه اللوازم التي يذكرها من يذكرها، هي لوازم مُتخيَّلة، جاءت بها الأفهام السقيمة، والآراء الفاسدة، وإلا فمن سلم للنصوص، وأحسن النظر فيها، علم أنه لا يلزم من هذا أيّ لازم باطل، ولو كانت ثابتة لنفاها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو أنصح الخلق للأمة، وأعلم الخلق بربه، وأعظمهم بيانا وفصاحة، إذا فلا يلزم على هذه الصفة أيّ لازم باطل، بل هي صفة كمال للرب جل وعلا.
ولذلك قال المؤلف: (بلا كيف) لنفي كل توهم باطل يمكن أن يتطرق إلى الذهن من ثبوت هذه الصفة، ثم بيّن ما فيها من الكمال فقال: (جل الواحد)أي: علا وتنزه، (المتمدح) يعني الموصوف بالمدائح والمستحق لها على وجه الكمال، ولذلك كان ـ جل وعلا ـ يحب المدح؛ لأنه ليس أحد أحق بالمدح منه.
ثم المؤلف بيّن معنى النزول، كما جاء في النص فقال:(إلى طبق الدنيا)أي: السماء الدنيا كما جاء ذلك في الأحاديث، والسماء يطلق عليها طبق، كما في قوله ـ سبحانه ـ: ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً﴾نوح: 15 ، ووصف السماء الأولى بالسماء الدنيا جاء في القرآن الكريم في مواضغ عديدة، من ذلك قول الله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾الملك: 5والمقصود بالدنيا القربى؛ لأنها أقرب السموات إلى الخلق.
وما حكمة هذا النزول وغايته؟قال: (يَمُنُّ بفضله) أي: ينزل للمنّ بعطاياه وإحسانه وفضله.
يقول ـ رحمه الله ـ: (فتفرج أبواب السماء وتفتح)هذا لدفع توهم أن تكون السموات فوقه، يعني لا يلزم من نزوله إلى السماء الدنيا أن تكون السموات الست فوقه، بل هو العلي الأعلى، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وليس لك أن تسأل كيف؟! فإن هذا رب العالمين، الذي ليس كمثله شيء، والعقول لا تحيط به علما، ولا تدرك ما له من الكمالات، ولذلك ينبغي أن ينفر المؤمن عن هذا السؤال، ولا يلتفت إليه، ولذلك لما قيل لأحد السلف: كيف ينزل؟ قال: كيف هو لأخبرك كيف ينزل؟! فالحديث عن الصفات فرع عن الحديث في الذات، وذاته لا تعلم كيفيتها بالاتفاق، فكذلك صفاته، وقد قال بعض المبتدعة " كفرت برب يتحول عن مكانه " فرد عليه الإمام إسحاق ابن رهويه قال:" آمنت برب يفعل ما يشاء " وهذا كان بين يدي الأمير عبد الله بن طاهر فألجمه بالحجة، وألقمه حجرا انقطع به قوله؛ لأنه أيهما أكمل، أن تسلم بأن الله فعال لما يريد، أو أن تحكم بعقلك الخاطئ الضعيف، فتقول: له كذا، وليس كذا؟! لا شك أن الأكمل التسليم للنصوص؛ فقد جاءت النصوص لأنه من معصوم يعرف ما هو كمال لله ـ تعالى ـ وما ليس كذلك.
يقول المؤلف:
يقول ألا مستغفر يلق غافرا ومستمنح خيرا ورزقا فيُمنح
قائل هذا هو رب العالمين، وهذا دال على عظيم ما لله ـ تعالى ـ من الرحمة، وكمال الربوبية، فهو القائم على كل نفس بما كسبت، الذي يوصل إلى عباده كل خير من غير سؤال ومن غير طلب، لكن من عظيم إحسانه وكرمه، أن ينزل إلى السماء الدنيا، يعرض رحمته لعباده، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في بيان هذه المعاني العظيمة التي تضمنها هذا الحديث: ملأ سبحانه سمواته من ملائكته، واستعملهم في الاستغفار لأهل الأرض، واستعمل حملة العرش منهم، وهم أشرف الملائكة للدعاء لعباده والاستغفار لذنوبهم، ووقايتهم عذاب الجحيم، والشفاعة لهم أن يدخلهم الجنة...فانظر إلى هذه العناية وهذا الإحسان، وهذا التحنن والعطف، والتحبب إلى العباد، واللطف التام بهم، ومع هذا كله، بعد أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته وآلائه، ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا يسأل عنهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله، فيدعو مسيئهم إلى التوبة، ومريضهم إلى أن يسأله أن يشفيه، وفقيرهم إلى أن يسأله غناه، وذا حاجتهم أن يسأله قضاءها.
فإذا عقل العبد وفهم ما لله ـ تعالى ـ من الكمال العظيم، فلا يجد إلا غاية المحبة ومنتهى التعظيم لهذا الرب، وبهما تتحقق العبودية.
العباد يعصونه ليلاً ونهاراً، ثم هو يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وهذا هو ثمرة الإيمان بما لله من الكمالات في أخبار الكتاب والسنة، فينعكس هذا على القلب بهاء وطهرا، وإجلالا وتعظيما ومحبة وخوفا من هذا الرب الكريم ـ سبحانه وبحمده ـ وهذه المعاني تغيب عن كثير من الناس عند دراستهم لمسائل الاعتقاد، ويظنون أن العقائد مجرد تقريرات نظرية ليس لها تمار عملية تنعكس على القلوب والأعمال.
يقول ـ رحمه الله ـ: (ألا مستغفر) أي: طالبا المغفرة، بأيّ لفظ كان، ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾الأعراف: 23، أستغفر الله، أو غير ذلك من العبارات، والمغفرة تدور على معنيين:
الأول: أن يتجاوز عنك ويصفح.
والثاني: أن يسترك ولا يفضحك.
وبهما تكمل المنة، لوتصورت أنه سيسترك لكن لم يتجاوز عنك تخاف، ولو تصورت أنه يستجاوز عنك ولكن سيفضحك تخاف، ولذلك كانت المغفرة متضمنة الستر والصفح والتجاوز.
قوله: (يلقى غافرا) أي: يجد غافرا، يستر ذنبه ويتجاوز عه، وهذا مطابق للحديث ((هل من مستغفر فأغفر له))أخرجه أحمد (16280) .
قوله: (ألا مستمنح) أي: طالب المنح والعطاء، وهذا يشمل خير الدنيا وخير الآخرة.
قوله: (ورزقا)يشمل رزق القلوب ورزق الأبدان، رزق القلوب بالهداية والاستقامة، ورزق الأبدان بالكفاية والغنى.
قوله: (فيمنح) أي: فأعطيه، وهذا ما جاء به الحديث في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وغيره ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة إذا بقي ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه))أخرجه أحمد (16280) فذكر ثلاث قضايا:
القضية الأولى: الدعاء، القضية الثانية: الاستغفار، والقضية الثالثة: السؤال، فإن قلت: السؤال والاستغفار لا يخرجان عن كونهما دعاء، فلماذا نص عليهما؟ الجواب: نص عليهما لضرورة الناس إليهما.
يقول: (روى ذاك) أي: روى هذا الخبر (قوم لا يرد حديثهم) هذا يدل على أنه خبر صحيح، وهو متواتر كما تقدم نقلنه عن الأئمة.
وقوله: (قوم) وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا) لأنهم يكذبون ما لا يجوز تكذيبه، وهو الخبر المتواتر الثابت عن من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.