الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد..
فقد كنا قد بدأنا التعليق على قول المؤلف ـ رحمه الله ـ:
وبالقدر المقدور أيقن فإنه دعامة عقد الدين والدين أفيح
وذكرنا تعريف القدر ومنزلته وذكرنا أيضا مراتب الإيمان به، وقلنا: إن الإيمان بالقدر لا يتحقق إلا بالإيمان بأربع مراتب: علم الله، وكتابته، ومشيئته، وخلقه، وذكرنا أدلة هذه المراتب، وأن عقد أهل السنة والجماعة استقر على الإيمان بهذه المراتب بدلالة الكتاب والسنة، لا خلاف بينهم في ذلك.
وأول ما حدث من الضلال في القدر، ما كان من معبد الجهني؛ حيث قال: لا قدر، والأمر أنف، أي: إن الله ـ تعالى ـ لا يعلم الحوادث قبل وقوعها، وهذا يتبعه أنه لم يشأها ولم يخلقها، فنفوا المراتب كلها، وهؤلاء ظهروا في زمن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولما جاء خبرهم إلى جماعة من الصحابة أنكروا عليهم ذلك، منهم عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ فإنه لما حُدِّث عن هؤلاء الذين يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، قال: ((إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه، حتى يؤمن بالقدر))، وجاء مثله عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.
وهؤلاء رد عليهم سلف الأمة وبينوا بطلانه، وفسروا من قال إن الله لم يعلم ما يكون من الحوادث قبل وقوعها، وذلك لتكذيبه ما في القرآن وما في السنة، وما أجمع عليه سلف الأمة من أن الله ـ تعالى ـ علم كل شيء، علم بالحوادث قبل وقوعها ـ سبحانه وبحمده ـ فمن أنكر ذلك فقد كفر ؛ ولذلك جاء عن الإمام الشافعي وغيره من الأئمة مناظرة هؤلاء بالعلم، قالوا ناظروهم بالعلم فإن كذبوه كفروا. يعني من كذب علم الله السابق للحوادث، فإنه كافر ؛ لأنه مكذب ما تواترت النصوص وتظاهرت الأدلة وكان علماً ضرورياً عند عموم الأمة أن الله ـ تعالى ـ عالم بالأشياء قبل حدوثها.
فلما تبين لهؤلاء شناعة قولهم وقبح ما صاروا إليه من قول تركوا مسألة العلم، فقالوا إن الله ـ تعالى ـ علم الأشياء وكتبها، لكنه لم يشأها ولم يقدرها. وهؤلاء هم الذين عرفوا بالقدرية الذين يقولون إن أفعال العباد ليست خلقا لله ـ تعالى ـ ولا يشاؤها. وانظر إلى تناقضهم، فإنهم استدلوا على أن القرآن مخلوق بقوله ـ تعالى ـ: ﴿اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾الرعد:16ثم في مسألة القدر أخرجوا أفعال العباد من هذا العموم في قوله ـ تعالى ـ: ﴿اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾. وهذا يدل على ما في قلوبهم من زيغ وما فيه من ضلال، حيث أدخلوا ما ليس داخلا وأخرجوا ما هو داخل في الآية.
وقد رد عليهم الأئمة وفندوا قولهم وبينوا بطلان عقدهم، ومخالفة ذلك للكتاب والسنة بياناً واضحاً جلياً، وقابل هؤلاء الجبرية، فهؤلاء أيضا من الفرق التي ظلت في القدر حيث غلوا في إثبات مشيئة الله ـ تعالى ـ وخلقه، وألغوا مشيئة الإنسان وفعله فقالوا: إنه لا مشيئة له، بل هو كريشة في مهب الريح، وهذا يكذبه النصوص ويكذبه الواقع، فإن أفعال الناس تنقسم إلى قسمين:
الأول: أفعال لهم فيها اختيار ولهم فيها إرادة.
الثاني: أفعال لا خيار لهم ولا إرادة.
فحركة قلوبهم ليس بإرادتهم، ما أحد يتحكم في هذا ولو أوكل هذا للإنسان لما عاش، وهذا من رحمة الله بعباده، لكن حركة يد الإنسان قيامه وقعوده كلامه هذا كله باختياره، فلا يسوى رعشة المريض الذي لا يستطيع إيقاف حركة يده، وبين حركة الصحيح الذي يحرك يده كما يشاء. هناك فارق بين هذا وذاك. فالجبرية لا يفرقون بين رعشة المريض وبين حركة الصحيح، فعندهم هذا وذاك كله سواء. وهذا مما ترده العقول وتأباه الفطر السليمة المستقيمة، كما أنه تكذبه النصوص، مع إثبات ذلك يعتقد أهل السنة والجماعة مع إثبات الخلق والمشيئة، يعتقد أهل السنة والجماعة أن للعباد مشيئة ولهم فعلا ينسب إليهم، عليه يجري الجزاء والثواب، وهو محل الوعد والوعيد.
لكن هذا الاختيار لا يلزم منه أن يكون خارجا عن إرادة الله ـ تعالى ـ وتقديره ومشيئته، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ـ سبحانه وتعالى ـ كما قال ـ جل وعلا ـ: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾الإنسان:30فأثبت للعباد مشيئة ثم أخبر ـ جل وعلا ـ بأن مشيئته لا تخرج عن مشيئته، وهذا مما ينبغي أن يعلم أنه من أسرار الخلق، فإن الله ـ تعالى ـ ليس كمثله شيء. أضاف للعباد مشيئة بها يختارون وقوة بها يفعلون، لكنهم لا يخرجون عن مشيئته سبحانه وبحمده.
وحتى يستقيم إيمان العبد فيما يتعلق بهذا الأصل، وهو ما يتصل بالقدر يجب عليه أن يعتقد ما ذكره أهل العلم، من أن القدر سر الله في خلقه، ولهذا كانت كلمات الإمام الطحاوي ـ رحمه الله ـ في عقيدته بلسما شافيا لكل من في قلبه ريب أو شك في مسألة القدر، فكان من جملة ما قال ـ رحمه الله ـ: وأصل القدر سر الله في خلقه لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل فهو سر. والسر لا يمكن أن يكشف، لكن يجب أن توقن بأن الله حكم عدل ـ سبحانه وبحمده ـ وينبغي للمؤمن أن يكف النظر عن التعمق في هذا الأمر، وأن يسلم لله ـ تعالى ـ ما دلت عليه النصوص وأن يعلم أن ربه حكيم خبير وهو على كل شيء قدير.
وذلك أن التعمق يفضي إلى الارتياب والشك، ولهذا كان من كلام الطحاوي ـ رحمه الله ـ: والتعمق والنطر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان. ثم قال ـ رحمه الله ـ: فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة. وهذا تحذير من الخوض في هذا الأمرـ فإن الله طوى علم القدر عن آنامه ونهاهم عن مرامه. أي ونهاهم عن طلبه، كما قال ـ تعالى ـ:﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾الأنبياء:23.
فيجب على المؤمن أن يسلم لله ـ تعالى ـ هذا الأمر، وألا يلج في القدر برأيه وعقله، بل يجب أن يسلم ما دلت عليه النصوص من أن الله علم بالأشياء قبل وقوعها وأنه كتبها ـ جل وعلا ـ: ﴿إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾الحج:70يقول ـ جل وعلا ـ: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾الحديد:22﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ فأخبر ـ جل وعلا ـ عن علمه وعن كتابته، وأخبر أن ذلك عليه يسير، ثم المؤمن يمتلئ قلبه طمأنينة وانشراحا ويقينا بما جاءت به الآيات والأحاديث، وينتفي عنه الريب والشك.
وقد جاء رجل إلى جملة من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يسألهم عن القدر، فردوه إلى ما علموه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تفويض الأمر لله، واعتقاد كمال عدله ـ جل وعلا ـ ففي السنن ومسند أحمد من حديث عبد الله بن الديلمي أنه جاء إلى جملة من الصحابة، زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبي بن كعب يسألهم عن القدر، قال: حدثوني بشيء ينفعني الله به؛ فإن في نفسي شيئا من القدر فقالوا: ((اعلم أن الله ـ تعالى ـ لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولكن عافيته أوسع لهم، واعلم أنك لو أنفقت مثل أحد ذهبا ثم لم تؤمن بالقدر لم ينفعك ذلك، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك))أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد (2803) .
هكذا تواطأت كلماتهم فيما نقلوه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تقرير هذا الأمر، وهو أن طمأنينة القلب فيما يتعلق بالقدر، أن يعلم أن الله ـ تعالى ـ ليس بظلام للعبيد ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾فصلت:46 ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً﴾يونس:44، فإذا أيقن العبد واستقر قلبه على هذا العقد، انتفى عنه كل ريب فيما يتعلق بالقدر، وهذه المسألة جليلة كبيرة مهمة، ينبغي للمؤمن أن يعتني بها من حيث تقرير ما جاءت به النصوص، لا أن يتعمق وينظر ويفكر ويوسوس فيما يتعلق بالقدر.
بعد هذا ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ جملة من المسائل المتصلة بالإيمان باليوم الآخر فقال ـ رحمه الله ـ:
ولا تنكرن جهلا نكيرا ومنكرا ولا الحوض والميزان إنك تنصح
شرع المؤلف ـ رحمه الله ـ بذكر ما يتصل بمسائل الإيمان باليوم الآخر، والإيمان باليوم الآخر أصل من أصول الإيمان التي دعت إليها الرسل قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً﴾المائدة:69فتواطأت كلمة الرسل على دعوة الناس إلى الإيمان بهذا الأصل، وجاء في هذا الدين الحنيف من بيان ما يتعلق بهذا الإيمان تفصيلاً وبسطاً وإيضاحاً وشرحا ما لم يأت في شرائع وأخبار الأنبياء من قبل، الأنبياء كلهم دعوا الخلق إلى الإيمان باليوم الآخر، لكن الذي تميزت به هذه الشريعة وهذا الدين هو التفصيل والبسط والبيان والإيضاح الذي لم يأت مثله ونظيره في سائر الشرائع، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾المائدة:3وإكمال الدين في الأحكام والأخبار التي تصلح بها شؤون العباد.
والإيمان باليوم الآخر يشمل كل ما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يكون بعد الموت، هذا هو الإيمان المجمل الذي يجب أن يقر في قلب كل مؤمن، فاليوم الآخر يبتدئ بموت الإنسان، فما يكون في القبر والبرزخ وما يتعلق بالجنة والنار، فكل هذا يتصل بالإيمان باليوم الآخر.
قال: (ولا تنكرن جهلا نكيرا ومنكرا) الإنكار هو الجحود، هكذا عرفه جماعة من أهل العلم، ولعل الجحود أبلغ صور الإنكار، وإن كان يصدق على ما دون الجحود، فالتكذيب إنكار، والرد إنكار، والتحريف إنكار، والتأويل إنكار؛ لأن حقيقة التحريف والتأويل المذموم تكذيب لما جاءت به النصوص، لكنه تكذيب بمراوغة والتفاف، ولهذا عد التحريف جناية على النصوص، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
فالجحد والإعراض والتأويل والتـ جهيلحظ النصعند الجاني
وكثير من بُلي بالتأويل في الأسماء والصفات، سلم من التأويل والتحريف فيما يتعلق باليوم الآخر، بل أقروا به، لكن فئة من المنحرفين دخلوا فيه بالتأويل فقالوا: إن ما أخبر به الأنبياء مما يكون في اليوم الآخر ليس بحقيقة وإنما هو تخييل، أي: أن الأنبياء خيلوا للناس حوضاً وميزاناً وصراطاً وجنةً وناراً، وإلا فلا حقيقة لهذا.
وهؤلاء هم الفلاسفة الذين اتهموا الرسل بالكذب، ولطفوا العبارة فقالوا: إنهم خيلوا، ومعنى التخييل هو الخبر عما لا واقع له، يعني أنه كذب، وقد أجمعت الأمة على اختلاف فرقها وتنوع فئاتها ومذاهبها على كفر من قال هذا القول؛ لأن مقتضاه هدم الشريعة، وتكذيب الرسل جميعاً ؛ لأن الرسل جميعاً دعوا إلى الإيمان باليوم الآخر.
والمؤلف يحذر من هذا المسلك في أفراد مسائل، لكن هو تحذير في الكل؛ لأن التكذيب في الأفراد يفضي بالإنسان إلى أن يكذب بالمجموع، فالضلال والانحراف يبدأ صغيرا ثم يكبر.
قوله: (جهلا) أي: حال كونك جاهلاً، وهل هذا معناه أنه يمكن أن يكون إنكار بعلم في هذا المقام؟ الجواب: لا، فهذا القيد قيد كاشف، والأوصاف تنقسم إلى قسمين:
- أوصاف كاشفة.
- أوصاف مقيدة.
الأوصاف الكاشفة هي التي تبين حقيقة الواقع ولا تفيد تقييداً، فليس لها مفهوم، مثل قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾المؤمنون:117فقوله: (لا برهان له به) هل يمكن أن يأتي أحد بإله آخر له فيه برهان؟! كل من عبد غير الله فلا برهان له في عبادته، فهذا ليس وصفاً مقيداً، لكنه وصف كاشف، ومثله الجهل هنا.
والجهل في كلام الله ـ تعالى ـ وكلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشمل أمرين: يشمل عدم العلم، وعدم العمل بالعلم، قال الله ـ تعالى ـ:﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ﴾النساء:17 جهالة منه بعاقبتها، وإيجابها لسخط الله وعقابه، وجهل منه بنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه، فكل عاص لله، فهو جاهل بهذا الاعتبار، وإن كان عالما بالتحريم، بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبا عليها، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: ((إنك امرؤ فيك جاهلية))صحيح البخاري (29)فالجاهلية هنا ليست عدم العلم، إنما هي عدم العمل بالعلم.
قوله: (نكيراً ومنكراً) هذان اسمان لملكين شريفين مهمتهما سؤال العباد وفتنتهم في القبور، أي: لا تنكر ما جاء في شأن هذين الملكين، وليس مراد المؤلف النهي عن إنكار هذين الاسمين؛ فإن أهل العلم اختلفوا في صحة تسمية الملكين، لكنه أشار باسميهما إلى عملهما، فالبحث هنا ليس في الاسمين فحسب، بل البحث في عملهما وهو الفتنة.
وفتنة القبر تواترت فيها الأخبار عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاءت من طرق كثيرة، ولذلك أجمعت الأمة على أن الناس يفتنون في قبورهم، ولكن هناك مسائل اختلف فيها العلماء، مثلا اسم الملكين هل هو منكر ونكير؟ ومنها هل الفتنة عامة لكل الأمم، أو لهذه الأمة فقط؟ ومنها هل هي عامة لجميع أمة النبي صلى الله عليه وسلم أم هناك استثناءات؟
ومن الأحاديث المشهورة في إثبات فتنة القبر، ويردده المؤمنون في صلواتهم: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال))أخرجه البخاري (2823)، ومسلم (2706) فإن فتنة الممات يدخل فيها فتنة القبر.
وقوله: (نكيرا ومنكرا) نكير على وزن فعيل، ومُنكر على وزن مُفعَل، وقد ورد هذان الاسمان فيما رواه الترمذي وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، ويقال للآخر: النكير))سنن الترمذي (991)، وقال طائفة من أهل العلم: إسناده ضعيف، كما أن في متنه نكارة؛ فإن هذين الاسمين لا يليقان بالملائكة.
ولكن هذا الاعتراض ليس في محله؛ لأن الاسم هنا نسبي، فهو باعتبار حال من يقدم عليه؛ فإن الإنسان إذا كان في قبره وأتاه هذان الملكان على هذه الصفة أسودان أزرقان، أنكرهما أشد النكير، فإذا ثبت الحديث كما هو قول جماعة من أهل العلم، لم يكن في ذلك تنقص للملائكة.
وقد جاء في حديث أن من يتولون الفتنة أربعة، وهم: منكر ونكير ونكور ودرمان، لكنه حديث موضوع، والثابت أنهما ملكان كما جاء في الصحيح لحديث أنس: ((إذا مات ابن آدم آتاه ملكان يقعدانهفيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟))أخرجه البخاري (1369)، ومسلم (2871)، والترمذي (3120)، والنسائي (2057)، وابن ماجه (4269)، وأحمد (18575) هذا محور الفتنة والابتلاء والاختبار، فيُسدد المؤمن ويوفق ويثبت، فيقول: الله ربي، والإسلام ديني، ونبيي محمد، وأما المرتاب المنافق فلا يتمكن من الجواب، فيقول: لاأدري فيقال له: ((لا دريت ولا تليت))، وهذا أول منازل الآخرة.
وهذه الفتنة لكل ميت قبر أو لم يقبر؟ إنما أضيفت للقبور بناء على الغالب، وإلا فإن الذي يحرق ويذر في الريح، أو تأكله السباع، أو يغرق فتأكله الأسماك والحيتان، كل هؤلاء يجري عليهم ما يجري على المقبورين. وإنما ذكرت في القبور ؛ لأنه الغالب في حال بني آدم، ومن لايقبر فهم نذر قليل خلاف الأصل.
ثم الصحيح أنها تعم هذه الأمة وغيرها من الأمم، فكل أمة تسأل عن نبيها، وأيضا بالنسبة لهذه الأمة تعم كل الأمة، إلا الشهداء، فقد جاء استثناؤهم، وأيضا الصغار؛ لأنهم غير مكلفين، وكل هذه المسائل مما جرى فيها أخذورد بين أهل العلم، وكل له دليله.
قال ـ رحمه الله ـ: (ولا الحوض)أي: ولا تنكر الحوض، والحوض هو مجمع الماء، والمراد هنا الحوض المورود الذي وعد به خير الآنام نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم القيامة، وقد رواه أكثر من خمسين صحابيا، فثبوته بالتواتر، ولذلك لا مرية ولا ريب في ثبوته، وهو كرامة من الله لنبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكرامة لأمته، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾الكوثر:1، والكوثر هو الخير الكثير، ومنه النهر الذي في الجنة، ومنه أيضا الحوض الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا فرطكم على الحوض))صحيح البخاري (6089)يعني أنا أمامكم على الحوض، وهذا الحوض ترده أمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو لمن كان متبعا ملتزما سنته، ولذلك جاء في أحاديث عديدة عن سعد وابن عباس وأبي هريرة وأنس وغيرهم من الصحابة في الصحيحن وغيرهما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر عن فئات من الأمة يذادون عن الحوض فيقول:((أصحابي أصحابي)) وهذا في قوم عرفهم صلى الله عليه وسلم فيقال له:((إنك ما تدري ما أحدثوا بعدك، فقد غيروا وبدلوا، فأقول: سحقاً سحقاً))صحيح البخاري (6097)وهذا في حق من ارتد من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وإذا كان هذا في حق أصحابه الذين تشرفوا برؤيته، لكن غيروا بعده وتركوا دينه، فغيرهم ممن لم يصحبه من باب أولى أن يكون مذادا عن حوضه.
هذا الحوض جاءت النصوص في بيان صفته، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((حوضي مسيرة شهر))وهذا في بيان اتساعه وكبره، فهومن حيث طوله مسيرة شهر، قال: ((ماؤه أبيض من اللبن))وهذا في بيان لونه، ((وريحه أطيب من المسك))، وفي رواية مسلم من حديث ثوبان وأبي ذر:((وأحلى من العسل))،وفي حديث عبد الله بن عمر: ((وكيزانه عدد نجوم السماء))أي: أكوابه التي يشرب بها((من شرب منه لا يظمأ بعده أبدا))صحيح البخاري (6093)، نسأل الله أن نكون ممن يرد الحوض ويشرب.
وهل يكون الشرب في يد النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: ليس على هذا دليل، ولهذا من يقول في دعائه: اللهم إني أسألك شربة هنيئة من يده الشريفة، لا حجة له، فلا يشرع مثل هذا الدعاء.
ونحن نقف حيث وقف النص، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع، ولا شك أنه لو ثبت الشرب من يد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكان أهنأ وأكرم وأطيب، لكن ليس لنا أن نخترع صفة أو نقترح طريقة لم تأت بها النصوص؛ إذ مسائل الغيب مبناها على السمع، فما جاء به الخبر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ آمنا وصدقنا، وما لا وقفنا ولم نتكلم.
وقد اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ هل لكل نبي حوض؟ جاء في الترمذي أن لكل نبي حوضاً، ولكن الذي تميز به حوض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أعظمها وأكبرها وأنه أكثرها وارداً.
وهنا مسألة وهي هل الحوض مستطيل أو مربع أو دائري؟ هذه المسألة يذكرها بعض الباحثين، وفيما يبدو لي أن هذا نوع من التعمق، قد يلجأ إليه بعض أهل العلم، فيتكلم عنه جوابا لسؤال، وإلا فالأصل أن يترك الأمر كما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه قال: ((حوضي مسيرة شهر))، وفي رواية مسلم في حديث عبد الله بن عمر قال: ((زواياه سواء))صحيح مسلم (4244)أي: زواياه متساوية، وفي رواية مسلم من حديث ثوبان قال:((طوله شهر وعرضه شهر))، وهذا يبين أن له طولاً وعرضاً وهذا يشعر بأنه مربع على أن من العلماء من قال: إن قوله زواياه سواء لا يصدق إلا على الدائري، لكن في الحقيقة أن الدائرة ليس فيها زوايا، وعلى كل حال هذا بحث لا حاجة إليه، ونقتصر في هذا على ما جاءت به النصوص، أما كيفية الحوض على وجه التحديد فهذا مما لا يعلمه إلا الله؛ لأن مسائل الغيب لا تدرك بالعقول.
قال: (والميزان) أي: ولا تنكر الميزان جهلا، وهذه المسألة الثالثة التي ذكرها المؤلف من مسائل الإيمان باليوم الآخر، والمقصود به ما توزن به أعمال العباد، قال ـ جل وعلا ـ: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ﴾الأنبياء:47أي: العدل، وقال ـ جل وعلا ـ: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾القارعة:6و﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾القارعة:8، وقوله: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾الأعراف:8وقوله: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً﴾الكهف:105، وقدتواترت بذلك النصوص من الكتاب والسنة، وأجمع عليه علماء الأمة.
وهو ميزان حقيقي خلافاً لمن قال من المعتزلة: إنه كناية عن العدل، وهذا ليس بصحيح؛ فالعدل لا يحتاج إلى ميزان، وإنما وصف الميزان بالعدل؛ لأنه أداته ووسيلته، وقد أخبر الله ـ تعالى ـ عن كمال عدله، وعن تنزهه عن الظلم، وأخبر أنه يقيم الوزن يوم القيامة، ومعنى هذا أن هناك شيئا يوزن.
وهذا الميزان يوزن به العمل، وتوزن به سجلات العمل، أي: الدواوين التي تكتب فيها الأعمال، ويوزن به العمال، كل هذا جاءت به النصوص، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))صحيح البخاري (5927)، وفي حديث أبي مالك الأشعري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((والحمد لله تملأ الميزان)) أخرجه مسلم (223) وهذان دليلان على وزن الأعمال.
ومن الأدلة على وزن سجلات الأعمال، ما في جامع الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟! أظلمك كتبتي الحافظون؟! فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء))سنن الترمذي (2563) ، وهذا يدل على أن دواوين العمل التي يكتب فيها أعمال العباد توزن.
وأعمال العباد تكتب في دواوين، كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾الجاثية:29، وقوله ـ تعالى ـ:﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ق:18، فهذا الرقيب العتيد يقيد ويسجل ما يكون من العبد، والأدلة في هذا كثيرة، فيسجل على الإنسان ما كان من خير وشر، وقد أخبر الله ـ تعالى ـ عن أخد الناس لكتبهم: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)﴾الانشقاق:7، 12 ، وقال: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ﴾الحاقة:25، فبعض الناس يأخذ كتابه بيمينه، ويعضهم يأخذه بشماله، نسأل الله ـ تعالى ـ أن نكون ممن يأخذ كتابه بيمينه.
القسم الثالث مما يوزن العامل، يقول الله ـ تعالى ـ عن الكافر: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً﴾ الكهف:105، هذا يشمل أيضا أنه لا يقيم له وزنا في عمله؛ لأنه قال:﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً﴾الفرقان:23؛ لأنه قد حبط عمله، ولا يقيم له وزناً في ذاته؛ لأنه ليس له عند الله ـ تعالى ـ وزن، ولهذا جاء في البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((يؤتى بالرجل الكافر العظيم السمين يوم القيامة، فلا يزن عند الله شيئا، وقرأ قول الله ـ تعالى ـ:﴿فلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً﴾))صحيح البخاري (4360).
وجاء عن علي ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر عبد الله بن مسعود أن يجني له أراكاً، فخرج يجني أراكاً، فكانت ريح فتمايل لها ابن مسعود فضحك الصحابة من دقة ساقه ـ رضي الله عنه ـ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((أتضحكون من دقة ساقيه!إنهما في الميزان أثقل من جبل أحد))أخرجه أحمد (3991)، وابن حبان (7069) ، الله أكبر! هذا ثقل الإيمان والعمل والصلاح، ليس ثقل اللحم والعظم، وهذا يدل على أن العمال يوزنون يوم القيامة، فكل هذا مما جاءت به النصوص، وتواردت عليه كلمات أهل السنة والجماعة.
بعد هذا قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ( إنك تُنصح) أي: إنني ناصح لك بهذا النهي، فالتزمه واقبله.
نقف على هذا ونكمل في الدرس القادم، والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد.