بسم الله الرحمن الرحيم
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
وقل يـخرج الله العظيم بفضلـه من النـار أجساداً من الفحم تـطرح
على النهر في الفردوس تـحيا بمائه كحب حميل السـيل إذ جاء يطفـح
وإن رسول الله للخلق شافــع وقــل في عذاب القبر حق موضـح
المؤلف ـ رحمه الله ـ ذكر في بيتين وشطر ما يتعلق بمسألة الشفاعة، وابتدأ ذلك كسائر ما ابتدأه من الأصول التي قررها في هذا النظم بالأمر بالقول فقال: (وقل)بقلبك ولسانك معتقداً مبيناً.
قوله: (يخرج الله العظيم بفضله)أي: بإحسانه وكرمه وجوده، لا باستحقاق أحد.
قوله: (من النار) (من) لابتداء الغاية، (أجسادا) أي: حال كونهم أجسادا، (من الفحم) أي: صارت فحما، فـ(من) هنا بيانية، (تطرح) أي: تلقى (على النهر) (أل) هنا للعهد الذهني الذي جاء به الخبر، وهو نهر الحياة في الجنة، ولذلك قال: (على النهر في الفردوس) فمكان النهر في الفردوس، وتقدم لنا أن الفردوس يطلق على عموم الجنة، ويطلق ويراد به أعلى منازل الجنة، ومما يراد به عموم الجنة قول الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾الكهف: 107.
قوله: (تحيا بمائه)أي: تعود لها الحياة، وذلك أن هذه الأجساد تموت في النار، وهذا من منّة الله ـ تعالى ـ على هؤلاء؛ إذ إن الموت نوع إراحة، حيث إنه يخف عليهم العذاب بموتهم، وفي صحيح مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم ـ أو قال بخطاياهم ـ فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما إذا بالشفاعة))صحيح مسلم (271)، وهذا خبر من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهم يموتون، وأما الكفار فقالاللهـ تعالى ـ فيهم:﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾طه: 74، أي: لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة يتلذذ بها، وهذا يدل على دوام التعذيب.
ولكن هذه الإماتة مختلف فيها، هل هي إماتة تفارق فيها الروح الجسد مفارقة تامة، كالتي تكون في الدنيا، أو هي إماتة كالنوم الذي يصيب الإنسان؟ فإن الموت يطلق على النوم، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى﴾الزمر: 42، وعلى كل حال نؤمن بما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أنها إماتة، وأما حقيقتها فالله أعلم بها.
لكن هذه الإماتة يحتاجون معها إلى حياة، ولذلك قال المؤلف: (تحيا بمائه) ولهذا سمي هذا النهر نهر الحياة، وفي بعض الروايات ((نهر الحيا)).
ويسمون الجهنميين كما جاء ذلك في حديث عمران وأنس في الصحيحين، وفي حديث أبي سعيد عند مسلم يدعون الله ـ تعالى ـ أن يرفع عنهم هذا الاسم بعد أن يدخلهم الجنة فيرفعه عنهم.
يقول: (كحب حميل السيل إذ جاء يطفح) أي: حياة هذه الأجساد التي تفحمت، كنمو حب السيل، بكسر الحاء وفتحه، والحِب جمع حبة، وهو بذر النبات، فالحب هو جمع بذر النبات، ويقال بالفتح، ويفرقون بينه وبين الحَب، لأن الحَب من القمح والشعير والحِب من بذر سائر النبات، ومنهم من يقول: إن الحِب هو بذر الصحراء مما ليس بقوت، يعني ما ينبت في الصحراء مما لا يؤكل، والمقصود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شبه حياة هؤلاء بعد موتهم بحياة الحب.
وقوله:(حميل السيل) فعيل بمعنى مفعل، أي: محمول السيل؛ وذلك أن السيل إذ جاء جرف معه زبدا، ومن هذا الزبد ما يكون حبا ينبت.
قوله: (إذا جاء يطفح) أي: إذا جاء السيل يفيض.
قال: (فإن رسول الله للخلق شافع) أي: لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، وذلك في شفاعته لأهل الموقف، وهو المقام المحمود.
بعد أن تطرقنا إلى ما ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ في النظم، نعود إلى تقرير الأصل المتعلق بهذا المقطـع، وهو الشفاعة، والشفاعة مأخوذة في اللغة من الشفع، وهو جعل الفرد زوجا، فضد الشفع الوتر، وأما معناها في اللغة وفي الاستعمال الشرعي فهو السعي في جلب خير أو دفع ضر عن الغير، وبعضهم يقول: الوساطة أو التوسط في جلب خير أو دفع ضر عن الغير، ومفهومها واحد مهما تنوعت العبارة، وهو السعي في إيصال الخير ودفع البلاء عن الغير.
والشفاعة الثابتة يوم القيامة أنواع، منها ما هو متفق على ثبوته، لا خلاف بين أهل القبلة فيه، وهو الشفاعة العظمى، فهذه الشفاعة يثبتها أهل الإسلام للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهي المقام المحمود الذي قال فيه رب العالمين لنبيه:﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾الإسراء: 79فالمقام المحمود هو المقام الذي يحمده فيه الخلق كلهم، وهو ذلك المقام الذي يكون فيه الشفاعة العظمى.
وقد أشار المؤلف ـ رحمه الله ـ إلى هذا النوع من الشفاعة بقوله: (فإن رسول الله للخلق شافع)، وإنما أخّر المؤلف رحمه الله ذكر هذه الشفاعة مع كونها أعظم الشفاعات الثابتة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسعتها ولأنها المقام المحمود، ولأنه لا يتأهل لها أحد سواه، وبها يظهر شرفه على الناس كلهم، فأخرها لأنها محل اتفاق.
ويدل عليها ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: أُتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوما بلحم فرُفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة فقال: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟! ألا ترون ما قد بلغكم؟! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟! فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي! نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض، وسماك الله عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي! نفسي! اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضلك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي! اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله، وكلمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنبا، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد، فيأتوني فيقولون: يا محمد أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا لربي، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تُشَفَّع، فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة، لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى))صحيح مسلم (287)، وجاء مثل هذا في الصحيحين من حديث أبي سعيد وأنس، وغيرهم من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو متواتر، لا خلاف بين أهل العلم في إثباته.
ثم هذه الشفاعة نفعها للناس كلهم، فهي شفاعة لعموم الخلق كما قال المؤلف: (فإن رسول الله للخلق شافع) إذ إنها تريح الناس من شدة الكرب في الموقف، لكن المنتفع الحقيقي بهذه الشفاعة هم أهل الإيمان؛ لأنهم يخرجون منها إلى فرج وفسحة وراحة، وما أعد الله ـ تعالى ـ لأوليائه وعباده، وأما أهل الكفر فإنهم ينتقلون منها إلى ما هو أشد سوءا وعذابا، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا يصدق قول الله ـ تعالى ـ: ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾المدثر: 48، فإن هذه الشفاعة وإن كانت تدفع عنهم شر ذلك اليوم، وشدة ذلك الموقف لكن ينتقلون إلى ما هو أشد وأشر.
أما النوع الثاني من الشفاعة، فهو ما أشار إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ من شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوم دخلوا النار أن يخرجوا منها، وهذه الشفاعة هي معترك الخلاف بين أهل السنة والجماعة وغيرهم من أهل البدعة، فإن المبتدعة المخالفين لمنهج أهل السنة والجماعة ينكرون هذا النوع من الشفاعة، وإنكار هذا النوع من الشفاعة ليس حديثا بل هو قديم؛ حيث إن المعتزلة والخوارج، وهم الوعيدية، أي الذين يغلبون نصوص الوعيد على نصوص الوعد، هؤلاء يقولون: ليس هناك شفاعة ينجو بها من دخل النار من النار، ويستدلون بآيات من الكتاب الحكيم على قولهم، فهم ممن آمن ببعض الكتاب وأعرض عن بعض، فيستدلون بمثل قوله الله ـ تعالى ـ:﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا﴾الحج: 22.، وما أشبه ذلك من النصوص التي فيها أن أهل النار لا يخرجون منها، وهم بهذا يعطلون النصوص المتواثرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إخراج قوم من النار بشفاعته وشفاعة النبيين وغيرهم ممن يإذا الله تعالى له بالشفاعة، فإن من يستحق النار يقضي الله ـ تعالى ـ بخروجه إما بشفاعة، أو بغيرها من أسباب الخروج من النار.
ويوافق الوعيدية في إنكار هذا النوع من الشفاعة، المرجئة الذين يقولون: لا يدخل مؤمن النار أصلا، فلا حاجة إلى الشفاعة، فلا يضر مع الإيمان معصية، وإلى هذا أشار إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ بقوله:
وقل يخرج الله العظيم بفضلـه من النار أجسادا من الفحم تطرح
على النهر في الفردوس تحيا بمائه كحب حميل السيل إذ جاء يطفـح
وأيضا هناك أيضا نوع آخر من الشفاعة يكذبون به، وهو الشفاعة في قوم استحقوا النار بذنوبهم ومعاصيهم ألا يدخلوها، فهذان النوعان من أنواع الشفاعة يكذب بهما هؤلاء، والأدلة من الكتاب والسنة متظافرة متواترة على ثبوت شفاعة الشافعين، وأعظمهم شفاعة خاتم النبيين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إخراج من استحق النار، جاء ذلك في حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وعمران، وأنس، وأحاديثهم في الصحيحين وغيرهما من دواوين السنة، فثبوتهما أمر لا ريب فيه.
فتلخص لنا ثلاثة أنواع من الشفاعة:
- الشفاعة الأولى: الشفاعة العظمى وهذه محل اتفاق.
- الشفاعة الثانية: الشفاعة في قوم دخلوا النار أن يخرجوا منها.
- الشفاعة الثالثة: قوم استحقوا النار، يشفع فيهم ألا يدخلوها.
ثم هل هذه هي الشفاعات فقط الثابتة يوم القيامة؟ الجواب: لا، للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على وجه الخصوص ثلاث شفاعات، يعني شفاعات تخصه لا يشاركه فيها أحد:
الأولى: الشفاعة العظمى
الثانية: شفاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة وذلك كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أنس: ((أنا أول شافع في الجنة))صحيح مسلم 292، يعني أنا أول من يشفع في دخولها، وفي حديث آخر: ((آتي باب الجنة فأستفتح فيقال: من؟ فأقول: محمد، فيقال: بك أمرت، فلا أفتح لأحد قبلك))صحيح مسلم (292).
الثالث: شفاعته في بعض أهل الكفر أن يخفف عنهم العذاب، كشفاعته في عمه أبي طالب، فإن العباس قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار))أخرجه البخاري (6208)، ومسلم (209) ، والضحضاح هو الطبقة الرقيقة من الماء التي تبلغ الكعبين، فهو في نار تبلغ كعبيه.
أما الشفاعات التي للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولغيره، فهي الشفاعة في قوم دخلوا النار أن يخرجوا منها، هذا له وللمؤمنين وللملائكة، والشفاعة في قوم استحقوا النار ألا يدخلوها.
من الشفاعات العامة أيضا، الشفاعة في رفع المنازل في الجنة، ودليل هذا النوع من الشفاعة قوله تعالى:﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾الطور: 21، واستدلوا له بدعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي سلمة كما في الصحيح من حديث أم سلمة أنه قال:((وارفع درجته في المهديين))صحيح مسلم (1528)، ويستدل له أيضا بما في الصحيحين من حديث أبي موسى في قصة أبي عامر لما أصيب في غزوة حنين فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بماء فتوضأ منه ثم رفع يديه ثم قال:((اللهم اغفر لعبيد أبي عامر، حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قال: اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك، أو من الناس))صحيح مسلم (4554)، وهذا شفاعة في رفع المنزلة.
وهل هناك قوم يخرجون بلا شفاعة؟ الجواب: نعم، ولهذا قال المؤلف: ((وقل يخرج الله العظيم بفضله)) فيدخل في ذلك من يخرجه الله بالشفاعة، ومن شاء الله ـ تعالى ـ إخراجه من غير شفاعة، وذلك ما جاء في صحيح الإمام مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في سياق الشفاعة: ((يقول الله ـ تعالى ـ بعد أن يشفع من يشفع: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيقبض الله ـ جل وعلا ـ بيده قبضة فيخرج قوما من النار لم يعملوا خيرا قط))صحيح مسلم (269)، وهؤلاء يخرجون بغير شفاعة، إنما يخرجون برحمة أرحم الراحمين، وبفضله ـ سبحانه وبحمده ـ وهؤلاء هم من قصرت حالهم، ونزل مقامهم عن أن يشفع فيهم أحد، وذلك لما يحاج أهل الإيمان الله ـ تعالى ـ في إخوانهم فيقولون كما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن محاجتهم لله، ((وأنهم أشد محاجة له من كل صاحب حق في حقه، فيقولون: إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويحجون معنا، فيقول لهم رب العالمين: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم من النار، فيخرجون ويعرفونهم بآثار السجود، فإن النار تأكل من ابن آدم كل شيء إلا أثر السجود، ثم يعودون فيقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة، يعني وزن ذرة من إيمان، ثم يعودون فيخرجون فيقولون: أخرجنا من أمرت، حتى يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان))صحيح البخاري (6956)، والخردلة ليس هناك ميزان يزنها، لكن يوم القيامة يقيم الله ـ تعالى ـ الموازين:﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾الأنبياء: 47فيوززن كل ما يمكن، حتى ما لا يمكن وزنه في الدنيا يوزن في الآخرة.
وقوله: ((العظيم)) ذكر صفة العظمة هنا ؛ لأن هذا الإخراج دال على عظيم ما لله ـ تعالى ـ من الكمالات، وما له من الصفات العليا.