بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير، والسراج المنير، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد
فإن الناظر في فتنة كثير من الناس في هذا العصر، يجد أن لها اتصالاً وارتباطاً بهذا الأصل، وهو موضوع التكفير، وقد جانب الصواب فيه طائفتان: قوم غلوا في تكفير المخالفين لهم، وقوم قابلوا هذا الغلو بغلو آخر، فأثبتوا الإسلام لكل أحد، ولو كان ممن لا يتصف به، بل إن منهم من غالى غلوا فاحشا فجعل كل من تدين بدين فهو على طريق صحيح، ولو كان هذا الدين غير دين الإسلام، كما هو مذهب غلاة المرجئة والجهمية الذين يجعلون الإيمان مجرد المعرفة، كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ في مسألة الإيمان، وبين هذين الطريقين المتقابلين طريق أهل السنة والجماعة، الذي يجمع بين العلم والعدل.
فإن البلاء الواقع في هذا الأمر وغيره ينشأ عن أمرين: الجهل والظلم، وقد سلّم الله ـ تعالى ـ طريق أهل السنة والجماعة من هاتين اللوثثين والآفتين، فهم أهل عدل وعلم بالكتاب والسنة، وبما جاء عن سلف الأمة من فهم لكلام الله، ولكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقضية التكفير هي أول البدع التي وقعت في الأمة؛ فإن بدعة الخوارج التي ظهرت في زمن علي ـ رضي الله عنه ـ كانت منطلقة من التكفير والذين خرجوا على علي هم فئة ممن شايعوه وتحزبوا له، فلما قبل التحكيم مع المخالفين خرجوا عليه، ورأوا كفره وكفر من قابله بناء على أنهم رضوا بحكم غير الله تعالى.
ولم يأت في النصوص النبوية تحذير من بدعة على وجه الخصوص، مثل ما جاء في بدعة الخوارج، فقد نص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على خروجهم وعلى حكمهم من حيث القتل، وعلى التحذير من فتنتهم، وبيان أوصافهم، كل هذا لخطورة هذه الفتنة، ولكونها تمتد وتستمر إلى ما شاء الله ـ تعالى ـ والله أعلم، ولهذا لم تنطفئ هذه الفتنة من أيام الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وبقيت متجددة عبر الزمان، كلما ماتت دواعيها واندثرت أسبابها انبعثت من جديد.
والمشكلة أن هؤلاء الذي يتبنون منهج الخوارج التكفيري، يعتمدون على ظواهر النصوص، ولكن ينزلونها في غير مواضعها، ولهذا لما سئل عنهم ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: "هم شرار الخلق، عمدوا إلى آيات نزلت في أهل الكفر، فجعلوها في أهل الإسلام"، وهذا تشخيص دقيق لهذه الفتنة ودواعيها، وإذا نظرت في مسلك الذين يكفرون في هذا العصر، يكفرون العلماء والحكام، ويكفرون الأمة على وجه العموم، وجدتهم يستدلون بآيات من الكتاب أو نصوص في السنة، وينزلونها على غير أهلها.
وهذا هو المفتاح الذي تفهم به إشكاليات هؤلاء القوم، وهو المدخل الذي تعالج به فتنتهم، فإن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ وقع على الداء وشخصه تشخيص العالم الفقيه في تلك الفتنة ودواعيها، وهذا من حيث المبدأ الذي انطلقوا منه، لكن من حيث الثمرة والنتيجة التي نتجت عن هذا، جاء بياها في حديث أبي سعيد في الصحيحين: ((يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان))صحيح البخاري (3095) ، حتى قاتلوا وقتلوا طائفة من صحابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهؤلاء لا شك أنهم مباينون لطريق أهل السنة والجماعة.
ولما كانت البدعة بدعة سواء تسمى أصحابها باسم من أظهرها وتبناها أول الأمر، أو تغيرت الأسماء فإنه يجب التحذير من هذه البدع، سواءا حملت الاسم الأول ـ الخوارج ـ أو تغيرت، يعني لو فتشت فلن تجد أحدا ينتسب إلى هذه البدعة بهذا الاسم الظاهر؛ لأنها بدعة تواطأت كلمة السلف على التحذير منها، وتواترت نصوص الكتاب والسنة على بيان خطرها، لا سيما النصوص الصريحة في كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التحذير من هذه الفتنة.
لذلك لا عبرة للأسماء، يعني الآن الذين يكفرون الحكام ويكفرون العلماء ويكفرون الأمة على وجه العموم، هؤلاء لا يقولون: نحن خوارج، بل يقولون: نحن أهل القرآن والسنة، نخن منتسبون إلى طريق السلف، نحن الفرقة الناجية، وهلم جرا من هذه الأوصاف التي تعمي بدعتهم، وتوهم فئاما من الناس أن هذه البدعة، هي منهج أهل السنة والجماعة، فيوصف أهل السنة والجماعة بأنهم تكفيريون، أو بأنهم يعتمدون هذا المنهج، ولذلك من الحق الذي ينبغي أن يظهر ويجهر به، أن هذا منهج مخالف لطريق أهل السنة والجماعة.
ولما كان هؤلاء يعتمدون على نصوص بعض العلماء والأئمة، ممن دانت القلوب لمحبتهم، وأخذ الناس بأقوالهم، وكان لهم من لسان الصدق في الأمة ما أوجب تعظيمهم وإجلالهم، كان لزاما على أهل العلم أن يبينوا أن هؤلاء أخذوا كلام هؤلاء ووضعوه في غير موضعه، وإذا كان ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال عن الخوارج: "إنهم عمدوا إلى آيات من كتاب الله ـ تعالى ـ نزلت في الكفار فوضعوها في أهل الإسلام"، وكلام الله ـ تعالى ـ محكم ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾هود:1، ومع هذا نزله هؤلاء على غير موضعه، فكيف بكلام البشر الذي فيه من القصور والنقص ما هو من طبيعة الناس؟! ومع أن كلام أهل العلم لا يسوغ بدعتهم، ولكن لا بد أن ينظر في كلامهم، ويبين أنهم بريئون من أقوال هؤلاء التكفيريين وعقائدهم.
من أبرز من يعتمد هؤلاء على كلامه في مسألة التكفير، شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ولا شك أن هذا اعتماد على غير معتمد؛ إذ إن الشيخ ـ رحمه الله ـ له من الكلام البين الواضح ما يسقط كل دعاوى هؤلاء في الاحتجاج بكلامه، ونحن لما نقول هذا الكلام لا ندافع عن الشيخ فحسب، بل نرد البدعة والشبهة، ونوضح الحق من كلام من اعتمد هؤلاء في تكفير من يكفرون لأي سبب من الأسباب التي يجعلها هؤلاء مسوغة لإطلاق الكفر على الحكام، وعلى من كان تحتهم من المجتمعات، وإذا كفر الحكام والعلماء والمجتمع، استبيحت الأموال والدماء، وجرى من الفساد ما هو معروف ظاهر، ولشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ كلام عن هؤلاء يبين خطورتهم، مما ينبغي أن يشهر ويظهر.
يقول ـ رحمه الله ـ في كلامه عن الخوارج في منهج أهل السنة النبوية: "فإنهم ـ أي: الخوارج ـ لم يكن أحد شراً علىالمسلمين منهم، لا اليهود ولا النصارى، فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم، مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفرين لهم، وكانوا متدينين بذلك؛ لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة"، هذا بيان وتوصيف لخطورة هذه البدعة، إذا نظرت في هذا الوصف من كلام شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ تجده منطبقاً على هاته الجماعات المتشرة في العالم الإسلامي، وخارج العالم الإسلامي، التي تدعو إلى القتل والتدمير، وتبرر ذلك بإخراج الغزاة من بلد المسلمين، أو تبرر ذلك بالنصر لقضية من قضايا المسلمين، أو تبرر ذلك بالجهاد، أو تبرر ذلك بظلم الظالمين، أو ما إلى ذلك من المبررات التي يذكرونها ويظهرونها في كلامهم حتى يروج باطلهم، ويقبل قولهم ؛ لأنه ما من أحد إلا ويأمل أن تنكشف الغمة عن أهل الإسلام، وأن لا يتسلط عليهم أحد من الكفار.
هذا أمر تتفق عليه القلوب، وتجتمع عليه الأفئدة من كل المشارب والمذاهب والفرق، لكن ليست الإشكالية في صحة الدعوى، أو سلامة الادعاء، إنما ما وراء هذا من المضمون، هم يقولون: نحن نقتل هؤلاء لنخرج المحتلين من بلاد الإسلام، ثم تجد أن القتلى هم من المسلمين، والمدمر من أموال المسلمين، كيف يكون هذا عزة للإسلام أونصرا له؟! فهؤلاء الخوارج لم يكن أحد شرا منهم على المسلمين، حتى من اليهود والنصارى؛ فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم، مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفرين لهم، والمشكلة فوق هذا كله أنهم كانوا متدينين بذلك؛ لعظم جهلهم، وهذا يبين خطورة هذه البدعة العظيمة التي ينبغي أن يحذر منها، وأن يبين للناس أنها من الإسلام براء، وأنها من طريق أهل السنةوالجماعة براء، وأنه ليس في كلام العلماء الذين لهم لسان صدق في الأمة ما يسند قولهم أو يسوغ تصرفاتهم وأفعالهم.
ومن كلام شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ الذي يبين سلامة منهج أهل السنة والجماعة من بدعة التكفير قوله رحمه الله في منهج السنة النبوية: "فأهل السنة يستعملون معهم ـ يعني مع مخالفيهم سواء كانوا من أهل البدع، أو من أهل المعاصي ـ العدل والإنصاف ولا يظلمونهم؛ فإن الظلم حرام مطلقا، كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض" ـ يعني الطوائف الخارجة عن طريق سلف الأمة، تجد بينهم من المناحرة والمذمة، بل والتكفير ما لا يكون من أهل السنة والجماعة لهؤلاء، فلذلك أهل السنة خير للناس كلهم حتى لمخالفيهم، فهم يعدلون ويرحمون.
ولذلك كان من الصفات البارزة لأهل السنة والجماعة، أنهم يعظمون الحق؛ لأنه الذي يجب أن يعظم ويحفظ، ويرحمون الخلق؛ لأن هذه الرسالة رسالة رحمة، كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾الأنبياء:107، فأهل السنة والجماعة لا يكفرون إلا من كان متورطا فيما ظاهره الكفر البيّن، وقامت عليه الحجة.
ويقول ـ رحمه الله ـ أيضا في منهاج السنة النبوية: "بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضا" ثم يقول: "ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم" انظر إلى الصفات التي ذكرها: العلم والعدل، فهما أصل السلامة في هذا الباب وغيره؛ فإن العلم والعدل بهما تقوم الأمانة، ولذلك لما ذكر الله ـ تعالى ـ الأمانة قال: ﴿فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾الأحزاب:72، فكل خلل في الأمانة، ينشأ عنه خلل في هذين الوصفين، أن يكون متصفا بظلم أو أن يكون متصفا بجهل، فمن كمل علمه قام بالأمانة على الوجه الذي يرضى الله ـ تعالى ـ به عنه.
استمع إلى ما يقول ـ رحمه الله ـ: "والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة، ومن لم يكفر فسق، وكذلك أكثر أهل الأهواء، يبتدعون رأيا ويكفرون من خالفهم فيه" فإذا لم يكفروا أهل السنة فهم يفسقون، ومثلهم أهل التكفير في هذا العصر، فمن لم يوافقهم على التكفير يصفونه بالكفر، ثم يقول: "وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول، ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم للخلق".
وقال في الرد على البكري: وأئمة السنة والجماعة، وأهل العلم والإيمان، فيهم العدل والعلم والرحمة"، فهذه سمات أهل السنة والجماعة، فالعلم ضده الجهل، والعدل ضده الظلم، والرحمة ضدها العنف، يقول الله ـ جل وعلا ـ في وصف نبيه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾آل عمران:159، ويقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾الأنبياء:107، ويقول الله ـ تعالى ـ: ﴿كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾المائدة:8، أي: لا تحملنكم العداوة الشنآن على ترك العدل.
يقول: "ويرحمون الخلق، فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون لهم الشر ابتداءا" ثم يقول: "فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم" فالتكفير ليس سلاحا تواجه به من خالفك، وخرج عن الصراط الذي ارتضيته، قال: "لأن الكفر حكم شرعي" فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، فلا يقول: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه﴾النحل:126 ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾البقرة:194﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾الشورى:40، هذا لا يدخل فيه الحكم بالكفر؛ لأن الحكم بالكفر حكم شرعي، يجب أن يلتزم فيه ما جاء عن الله وعن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس سبّة تقابل بها سبّة، مثلا لو قال شخص لآخر: يا حيوان، فرد عليه الآخر: يا حيوان، فلا بأس به ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾، لكن لو قال له: يا كافر، فلا يجوز أن يرد عليه ويقول: يا كافر؛ لأن هذا حكم شرعي، فلا يجوز أن ترد به، ولهذا يقول المؤلف: "لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، أو زنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، وتزني بأهله؛ لأن الكذب والزنى حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله ـ تعالى ـ فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله"، وهذه ضع عليها خطا لبيان أهميتها، فالتكفير حق لله وليس لأحد من الخلق، ولهذا لا يجوز لأحد أن يكفر أحدا إلا ببينة وبرهان، ولابد أن يكون ظاهرا في كلام الله ـ تعالى ـ وكلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالتكفير ليس من منهج أهل السنة والجماعة، بل من عيوب أهل الأهواء والبدع تكفير بعضهم لبعض، يقول ـ رحمه الله ـ: "ومن ممادح أهل السنة ـ يعني مما يمدحون به ومن فضائلهم ـأنهم يخطِّئون ولا يكفرون" أي: يحكمون على الفعل أو القول بأنه خطأ وخلاف قول الله، وخلاف قول رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن لا يكفرون؛ لأن التكفير حق لله تعالى.
وهذا يشمل جميع المسائل في الأصول والفروع، من الناس من يقول: هذا فقط في مسائل الفروع، أما مسائل الأصول فلا، والصواب أنه لا فرق، وتقريرا لهذا سننقل ـ إن شاء الله تعالى ـ طرفاً من كلام شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في أهل البدع، وأقوام أقوالهم موغلة بمجانبة الحق، وقد نطق الأئمة قديماً وحديثاً على كفر هذه الأقوال، مع هذا الشيخ ـ رحمه الله ـ يقرر أنه ليس من منهج أهل السنة والجماعة تكفير أعيان هؤلاء، حتى تقوم عليهم الحجة التي يكفرون بمثلها.
فمثلا الشيخ ـ رحمه الله ـ في ختام كلام له على مسألة تكفير أهل البدع والأهواء، كالجهمية والخوارج والرافضة ومن شابههم، يقول: "وإذا عرف هذا، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية، التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر"، يعني قد يقول الإنسان قولا لا يرتاب أحد في أنه كفر، لكن يبقى التفريق بين القول وبين القائل، فقد يكون القول كفرا لا خلاف فيه بين علماء الإسلام، لكن لا يلزم منه كفر قائله.
وهذا في جميع البدع التي أدركها، أو التي جدّت وحدثت كالعلمانية، أو اللبيرالية، أو ما أشبه ذلك من المذاهب الفكرية التي جدّت وفيها ما يخالف الإسلام، فتكفير أعيان المنتسبين لها ليس بسبيل قويم، حتى تقوم عليهم الحجة الرسالية.
يقول: "وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين، مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين".
وبماذا يعرف الإسلام؟ يعرف إسلام الشخص بأن يدين بالشهادتين، وأن يقيم الصلاة، كما في الصحيحين من حديث أنس أ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((من استقبل قبلتنا، وذبح ذبيحتنا، وصلى صلاتنا، فهو المسلم الذي له ذمة الله وذمة ورسوله))وفي رواية: ((ذلك المسلم الذي له ما لنا وعليه ما علينا))صحيح مسلم (116).
يقول ـ رحمه الله ـ: "فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط، حتى تقوم عليه الحجة، وتبين له المحجة"، ثم أعطى قاعدة في هذا الباب، سبق أن أشرنا إليها، ولكن اسمعها من كلام الشيخ: "ومن ثبث إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك" هذه قاعدة في هذا الباب، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.
إذا عندنا أمران: إقامة الحجة، وإزالة الشبهة، فلا يكفي فقط أن تقيم الحجة مع وجود الشبهات، بل لابد من إزالة الشبهة.
يقول ـ رحمه الله ـ: "لكن بكل حال، المسلمون المظهرون للإسلام قسمان: إما مؤمن، وإما منافق، فمن علم نفاقه لم تجب الصلاة عليه والاستغفار له، ومن لم يعلم ذلك عنه صلي عليه".
وهل يمكن العلم بنفاق شخض ما؟ الغالب أنه لا سبيل للعلم، ولذلك عمر ـ رضي الله عنه ـ كان لا يجتهد في هذا الأمر، بل يتبع ما يقوم به حذيفة ـ رضي الله عنه ـ أمين سر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان إذا رأى حذيفة صلى على الرجل صلى عليه، وإذا لم يصل عليه حذيفة ترك الصلاة عليه، فلم يعتمد على اجتهاده ورأيه في تحديد من هو من أهل النفاق ممن ليس من أهل النفاق؛ لأن النفاق الاعتقادي ـ الذي يكون صاحبه من أهل الكفر ـ عمل قلبي لا يظهر، ولهذا الأصل أن تصلي على كل أحد ما لم يعلم نفاقه بأمر ظاهر كالشمس، بأن يقول: إنه منافق، لا يؤمن بقلبه، وفي هذه الحال قد انكشف حاله، المهم أنه لابد من العلم الذي تزول به الشبهة، وإلا فالأصل الصلاة على كل مسلم.
ولذلك روي ((صلوا على من قال لا إله إلا الله))، وهو وإن كان ضعيفا فمعناه مما اتفق عليه أهل العلم.
قال ـ رحمه الله ـ: "ولا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل؛ ـ انتبه لهذا الكلام المهم وما فيه ـ فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة".
فمثلا قول الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾النساء:10وعيد على أكل مال اليتيم بغير حق، فإذا رأيت رجلاً يأكل مال اليتيم بغير حق، هل تقول: أنت ممن يأكل في بطنه ناراً يوم القيامة؟! هذا لا يجوز بالاتفاق؛ لأنك لا تدري هل توافرت فيه الشروط أو لا؟ وهل انتفت عنه الموانع أو لا؟ فكذلك الحكم بالكفر.
وهذا لا شك لا سبيل إلى العلم به، إلا إذا تيقن توافر الشروط وانتفاء الموانع، ومن الموانع أن يكون له عذر يرفع عنه العقوبة، ولذلك يقول: "وذلك له شروط وموانع، كما بسطناه في غير هذا الموضع"، قال: "وإذا لو يكونوا في نفس الموضع كفارا لم يكونوا منافقين، وإذا كان من قامت به البدعة، ولم تقم عليه الحجة، لم يكن كافرا"، فإذا انتفى عنهمالوصفان الكفر والنفاق، فماذا يكونون؟ يقول: "يكونون من المؤمنين، فيستغفر لهم ويترحم عليهم".
قال وهو يتكلم عن الفرق المشهورة في زمانه المخالفة لأهل السنة: "فما من فرقة إلا فيها خلق كثير ليسوا كفارا، بل مؤمنون فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد، كما يستحقه عصاة المؤمنين".
الشيخ ـ رحمه الله ـ تجاوز كل هذا التنظير والتأصيل إلى التطبيق العملي، يقول في جماعة من الرافضة الذين حصل منهم أنواع من الأدى يقول في منهاج السنة: "وحضر عندي جماعة منهم، وجرت بيني وبينهم مناظرات ومفاوضات يطول وصفها...فلما فتح المسلمون بلدهم، وتمكن المسلمون منهم، قد نهيتهم عن قتلهم وعن سبهم" فعاملهم معاملة المسلمين، ولو كانوا كفارا لما منع عنهم القتل والسبي، قال: "وأنزلناهم في بلاد المسلمين متفرقين لئلا يجتمعوا" فأمر بتفريقهم حتى تخف بدعتهم، ولا يكون لهم تجمع يحصل به على المسلمين أذى.
أيضا يقول في كتاب الرد على البكري:"ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية" وهم من غلاة الجهمية، ومن أهل العلم من أخرجهم من فرق الإسلام، يقول: "ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية، والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم، كنت أقول لهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال".
فهذا كلام شيخ الإسلام للجهمية الحلولية! وهل هذا لعامتهم؟! يقول ـ رحمه الله ـ: "وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم" فإذا كان يقول لهؤلاء الذي قام عندهم من العلم والمعرفة ما يمكنهم من الاطلاع على سبيل أهل السنة والجماعة، ومع ذلك لا يكفرهم، فما بالكم بعوامهم؟! لا شك أن هذا تقرير وتبيين لمنهج عملي بعد التقعيد والتنظير والتأصيل العلمي.
خذ هذه أيضا في جماعة من الذين يستغيتون بالأموات ويسألونهم قضاء الحاجات، وهذه فتنة منتشرة في بلاد المسلمين، يقول ـ رحمه الله ـ في رده على البكري يقول: فإن بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة ـ أي: علما لا يحتاج إلى نظر وتأمل ـ أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدا من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها" هذا مما يعلم من الدين بالضرورة، يقول: كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ـ تعالى ـ ورسوله" انتبه الآن لهذا الاستدراك، يقول: "لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لن يمكن تكفيرهم، مع كونهم يدعون غير الله، ويستغيثون بغير الله، ويسجدون للأحياء، أو يسجدون للأموات، ورغم ذلك لا يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه".
فهل يمكن بعد هذا الكلام أن يقال: إن كلامه يصلح أن يجعل مستندا لهؤلاء التكفيريين، الذين يكفرون الأمة في مسائل خلافية؟! يعني أيهما أوضح في الكفر، مسألة دعاء غير الله ـ تعالى ـ أو مسألة الحكم بغير ما أنزل الله؟! لا شك أن مسألة الاستغاثة بغير الله ـ تعالى ـ أوضح وأظهر، وهو من العلم الضروري الذي ثبت بالكتاب والسنة، وأجمع عليها أهل العلم، وأما التكفير بمسألة الحكم بغير ما أنزل الله، وهي ما إذا كان يعتقد أن غير حكم الله أفضل من حكم الله، أو يستبيح حكم غير الله ـ تعالى ـ ويقول: يجوز الحكم بغير ما أنزل الله، هذه الصورتان التي اتفق عليهما العلماء أنهما من مسائل الكفر، كما سيأتي توضيح ذلك، لكن بقية الصور محل خلاف بين العلماء فيها أخد ورد ومنا قشات، ومع هذا الشيخ ـ رحمه الله ـ يقول في الذين يستغيتون بغير الله، ويدعون غير الله، ويسجدون لغير الله، سواء من الأموات والأحياء لا يمكن تكفيرهم إلا بأمرين: إقامة الحجة وإزالة الشبهة.
آخر نقل في قوم اعتقدوا في رجل اسمه يونس القَتَّات، أنه يخلص أتباعه ومريديه من سوء الحساب يوم القيامة، ويعتقدون أنه ينجيهم من العذاب الأليم، وعندهم تحريم للمباحات، واستحلال للمحرمات، استمع إلى ما يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى: وأما من كان فيهم من عامتهم، لا يعرفون أسرارهم وحقائقهم، فهذا يكون معه إسلام عامة المسلمين، الذي استفاده من سائر المسلمين" فلا يحكم له بكفر.
هذا جملة من كلام الشيخ ـ رحمه الله ـ كنت قد جمعتها عام ألف وأربعمائة وعشرين، وعرضتها على شيخنا العثيمين ـ رحمه الله ـ وهي في ثلاثة أوراق فيها مقولات أكثر مما عرضناه، لكن الذي ذكرناه يكفي في التأصيل.
ذكرنا في حديثنا اليوم قسمين:
القسم الأول: التأصيل من خلال ما نقل عن شيخ الإسلام.
القسم الثاني: التطبيق من خلال ما نقلناه عن الشيخ في حكمه على طوائف وأقوام له أقوال وأعمال لا ريب أنها من الكفر.
نقتصر على هذا في درسنا لهذا اليوم، ونكمل ـ إن شاء الله تعالى ـ ما يتعلق بهذه المسألة في الدرس القادم، والله ـ تعالى ـ أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.