×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / دروس المصلح / العقيدة / المنظومة الحائية / الدرس (10) من شرح المنظومة الحائية لابن أبي داود

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:547

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد..

فما زال البحث في قول المؤلف ـ رحمه الله ـ:

ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا *فكلهم يعصي وذو العرش يصفح

وتكلمنا فيما تقدم عن مسائل تتعلق بالتكفير، وما يجب مراعاته من أصول وقواعد، وكنا قد وقفنا على أنه لا يثبت حكم التكفير على المعين إلا بثلاثة أمور:

الأول: إثباث أن الفعل كفر.

الثاني: توفر الشروط.

الثالث: انتفاء الموانع.

فلابد أولا من النظر في الفعل هل هو كفر أو لا؟ فقد يوصف الشيء بأنه كفر وهو ليس بكفر، ثم ثانياً لابد من النظر في توافر الشروط، وثالثا لابد من انتفاء الموانع، والمقصود بالشروط التي يجب أن تتوفر هي شروط الأهلية والتكليف، وهي البلوغ والعقل والعلم الذي تقوم به الحجة، وبعضهم يزيد في الشروط فيقول: انتفاء الإكراه، وانتفاء الجهل، وانتفاء التأويل.

ولكن هذه في الحقيقة إذا عدت من الشروط، فلا نحتاج إلى ذكر الموانع ؛ لأن الموانع هي انتفاء الشروط مع أمور زائدة، فمن لم يكن بالغا انتفى فيه شرط، وقام فيه مانع، من كان جاهلا فات فيه شرط، وقام فيه مانع، فالشروط والموانع بينهما تداخل، وإن كان أهل العلم يذكرون كلا منهما على وجه الانفراد.

والموانع التي يذكرها العلماء في مسألة التكفير هي الجهل، والإكراه، والتأويل، كأن يعتقد إباحة ما حرم الله ـ تعالى ـ ورسوله، لكن بتأويل، كما جرى من قدامة بن مضغون ـ رضي الله عنه ـ ومن معه في تأويل إباحة الخمر استنادا إلى قول الله: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْالمائدة:93قالوا: ليس بعد التقوى والإيمان والإحسان إثم فيما يطعم ويشرب، وأدخلوا الخمر في عموم هذه الآية، إلا أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ راجعوهم وبينوا لهم خطأ تأويلهم، ولم ينزلوا عليهم حكم الكفر باستباحة الخمر؛ لأنهم كانوا متأولين، وإن كان تأويلا ضعيفا، إلا أنه من التأويل الذي يرتفع به حكم الكفر.

هناك مسألة يكثر كلام بعض من يشتغل بالتكفير في الوقت المعاصر، يشتغلون بذكرها وإعادتها وتقريرها ويستدلون بها على كفر الحكام وكفر العلماء وكفر عموم الأمة، قد يتوسع بعضهم وبعضهم يضيق، لكن هي من الحجج التي يستند إليها كثير من الناس في التكفير، وهي مسألة الحكم بغير ما أنزله الله، وهي مسألة حصل فيها كلام طويل، وبحث كثير، وتوضيح غير يسير في كلام أهل العلم؛ فإن أهل العلم أفضوا فيها، وكتبوا فيها مؤلفات، وجرى فيها توضيحات لبيان ما هو كفر في هذه المسألة، مما ليس بكفر، فإطلاق القول بأن الحكم بغير ما أنزل الله كفر، سبب للالتباس والاشتباه، الذي أوقع كثيراً من الناس في التكفير، والمجازفة في إطلاق الحكم على من حكم بغير ما أنزل الله في كل قضية، وفي كل حالة، في حين أن العلماء حرروا هذه المسألة تحريراً بيّناً ووافياً، ميّزوا فيه الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفراً، ومتى يكون فيها معصية دون الكفر.

هذا الحكم ينبغي أن تراعى فيه قيود تكفير المعين، فيحتاج أولا إلى بيان أن الفعل كفر، ثم بعد ذلك النظر في توافر الشروط وانتفاء الموانع.

وتنبيها على خطورة هذه المسألة، وبيانا لها، كتب جماعة من أهل العلم المعاصرين كتابات توضيحية، من أبرز ذلك ما كتبه الشيخ محمد نصر الدين الألباني محدث العصر ـ رحمه الله ـ وكان جوابا لسؤال حول فتنة التكفير، فيه نوع تفصيل وإيضاح، وقد علق على هذا الجواب الشيخ عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد بن صالح العثيمين ـ رحمهما الله ـ بل إن شيخنا العثيمين قرئ عليه الجواب في هذا المجلس، مع تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز، وأضاف ـ رحمه الله ـ بياناً وتوضيحاً ينقطع به الاشتباه، ويزول به اللبس.

فتوى الشيخ محمد نصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ فيها من نوع من البسط والطول، وفي تعليق الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ ما يلخص مضمون تلك الفتوى، فنقرأ ما علق به الشيخان ابن باز وشيخنا ابن عثيمين.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد..

فقال سماحة الإمام عبد العزيز بن عبدالله بن باز ـ رحمه الله تعالى ـ تعليقا على فتوى الشيخ ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد

فقد اطلعت على الجواب المفيد القيم الذي تفضل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصرالدين الألباني وفقه الله، المنشور في صحيفة المسلمون، الذي أجاب به فضيلته من سأله عن تكفير من حكم بغير ما أنزل الله من غير تفصيل، فألفيتها كلمة قيمة، أصاب فيها الحق، وسلك فيها سبيل المؤمنين، وأوضح وفقه الله أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يُكَفّرَ من حكم بغير ما أنزل الله بمجرد الفعل، من دون أن يعلم أنه استحل ذلك بقلبه، واحتج بما جاء في ذلك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وعن غيره من سلف الأمة.

ولاشك أن ما ذكره في جوابه في تفسير قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَالمائدة:44، وقوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وقوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَالمائدة:47، هو الصواب.

وقد أوضح وفقه الله أن الكفر كفران: أكبر وأصغر، كما أن الظلم ظلمان، وهكذا الفسق فسقان: أكبر وأصغر.

فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله، أو الزنى، أو الربا، أو غيرها من المحرمات المجمع على تحريمها، فقد كفر كفرا أكبر، وظلم ظلما أكبر، وفسق فسقا أكبر، ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفرا أصغر، وظلمه ظلما أصغر، وهكذا فسقه؛ لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))صحيح مسلم (97)أراد بهذا ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفسق الأصغر، والكفر الأصغر، وأطلق العبارة تنفيرا من هذا العمل المنكر.

وهكذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت))صحيح مسلم (100)أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))صحيح البخاري (118)أخرجه البخاري ومسلم من حديث جرير ـ رضي الله عنه ـ والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

المعنى ما هو؟ إطلاق الكفر على جملة من المعاصي والسيئات التي لا يخرج بها فاعلها عن الإسلام، فالواجب على كل مسلم ولا سيما أهل العلم التثبت في الأمور، والحكم فيها على ضوء الكتاب والسنة، وطريق سلف الأمة، والحذر من السبيل الوخيم الذي سلكه الكثير من الناس لإطلاق الأحكام وعدم التفصيل.

وعلى أهل العلم أن يعتنوا بالدعوة إلى الله ـ سبحانه ـ بالتفصيل، وإيضاح الإسلام للناس بأدلته من الكتاب والسنة، وترغيبهم في الاستقامة عليه، والتواصي والنصح في ذلك، مع الترهيب من كل ما يخالف أحكام الإسلام.

وبذلك يكونون قد سلكوا مسلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومسلك خلفائه الراشدين، وصحابته المرضيين في إيضاح سبيل الحق، والإرشاد إليه، والتحذير مما يخالفه؛ عملا بقول الله ـ سبحانه ـ: ﴿وَمَنْأَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَفصلت:33، وقوله ـ عز وجل ـ: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَيوسف:108، وقوله ـ سبحانه ـ: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُالنحل:125، وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله))صحيح مسلم (3509)، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا))صحيح مسلم (4831)أخرجه مسلم في صحيحه، وقول النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ لعلي ـ رضي الله عنه ـ لما بعثه إلى اليهود في خيبر: ((ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم))صحيح البخاري (2724)  متفق على صحته.

وقد مكث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى توحيد الله، والدخول في الإسلام بالنصح والحكمة والصبر والأسلوب الحسن، حتى هدى الله على يديه وعلى يد أصحابه من سبقت له السعادة، ثم هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام، واستمر في دعوته إلى الله سبحانه، هو وأصحابه رضي الله عنهم، بالحكمة والموعظة الحسنة، والصبر والجدال بالتي هي أحسن، حتى شرع الله له الجهاد بالسيف للكفار، فقام بذلك ـ عليه الصلاة والسلام ـ هو وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ أكمل قيام، فأيدهم الله ونصرهم، وجعل لهم العاقبة الحميدة.

وهكذا يكون النصر وحسن العاقبة لمن تبعهم بإحسان، وسار على نهجهم إلى يوم القيامة، والله المسؤول أن يجعلنا وسائر إخواننا في الله من أتباعهم بإحسان، وأن يرزقنا وجميع إخواننا الدعاة إلى الله البصيرة النافذة، والعمل الصالح، والصبر على الحق حتى نلقاه سبحانه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

هذه الفتوى ختمها الشيخ ـ رحمه الله ـ بهذا البيان، وهو في الحقيقة نوع من التنبيه على سبب تورط بعض الناس في مسألة التكفير، وهو استعجالهم؛ إذ إن من الناس من يرى المعصية والمخالفة فلا يتمكن من التحمل، فيطلق مثل هذه الألفاظ وهو يمضي ما في نفسه من غيرة أو غضب على غير الوجه الذي شرعه الله، ولذلك يجب على المؤمن أن يحبس لسانه، وأن يصبر نفسه على ما يكره، وأن لا يطيش عقله، ويتكلم بما ليس بحق في ثورة غضب، ولهذا كان من المسائل الحميدة جدا التي تصمنها حديث عمار ـ رضي الله عنه ـ: ((أسألك كلمة الحق في الغضب والرضى)).

فكلمة الحق قد تسمح بها النفس وقت الرضى، لكن في وقت الغضب قد يبرر الإنسان لنفسه شيئا من التجاوز؛ بناءا على أن هذا من باب الغيرة لله ـ تعالى ـ والانتصار لحدوده، وهذا لا شك أنه خطأ، فلابد من الصبر، ولابد من الدعوة بإحسان، ولابد من التريث، ولا بد من النظر الفاحص المتأني فيما يتعلق بالأحكام، لاسيما إذا كانت هذه الأحكام مما يمتد أثره، ويطول تأثيره في حياة الناس كلهم، فهذه المسألة من المنزلة ما أوجب لها التنبيه الطويل، والتعقيب المبسوط، بعد تقرير أن الكفر فيما يتعلق بمسألة الحكم بغير ما أنزل الله من النظر بالاستحلال، والاستحلال هو الاستباحة، بأن يرى أنه حلال، وهذا عامل مؤثر في الحكم بالكفر على من حكم بغير ما أنزل الله.

في تعليق شيخنا محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ ما قد يكون فيه مزيد من التوضيح لهذه المسألة، قال الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ:

بعد أن قرأنا كلمة الشيخين ـ أي: الألباني وابن باز ـ فقد فهمنا من كلامهما أن الكفر لمن استحل ذلك، وأما من حكم به على أنه معصية مخالفة، فهذا ليس بكافر؛ لأنه لم يستحله، لكن قد يكون خوفا أو عجزا، أو ما أشبه ذلك، وعلى هذا فتكون الآيات الثلاث ـ من سورة المائدة ـمنزلة على أحوال ثلاث:

1- من حكم بغير ما أنزل الله مستبدلا به دين الله، فهذا كفر مخرج عن الملة؛ لأنه جعل نفسه مشرعا مع الله ـ عز وجل ـ وهذا كفر في الربوبية وقد يكون كفرا في الإلهية إذا شرع عبادات يتعبد الناس بها.

2- من حكم به لهوى في نفسه، أو خوفا عليها، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يكفر، ولكنه ينتقل إلى الفسق.

3- من حكم بغير ما أنزل الله  عدوانا وظلما ـ وهذا لا يتأتى بوضع القوانين، ولكنه يتأتى في حكم خاص، مثل أن يحكم على إنسان بغير ما أنزل الله لينتقم منه ـ فهذا يقال إنه: ظالم

ومن العلماء من قال: إنها أوصاف لموصوف واحد، وأن كل كافر ظالم، وكل كافر فاسق، واستدلوا بقوله ـ تعالى ـ:﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَالبقرة:254، وبقوله ـ تعالى ـ: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُالسجدة:20، وهذا الفسق الأكبر.

ومها كان الأمر، فكما أشار الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ ووفقه أيضا في الدنيا والآخرة ـ أن الإنسان ينظر ماذا تكون النتيجة؟ ليست المسألة نظرية، لكن المهم التطبيق العملي ما هي النتيجة؟

في تعليق الشيخ ـ رحمه الله ـ بيان تنزيل هذه الآيات على أحوال ثلاث، وينبغي أن نستحضر في هذا المقام أنه في الحال الأولى التي  يكون فيها الفعل كفرا، ينبغي أن يعلم أن الكفر حكم على الفعل، وليس حكما على الفاعل؛ لأنه لابد من خطوة ثانية، وهي النظر في توافر الشروط وانتفاء الموانع، ومعلوم أن هذه الخطوات لا يمكن أن يقوم بها صغار طلبة العلم، فضلا عن عامة الناس، فضلاً عن الذين ليس لهم من العلم نصيب، فهؤلاء ليسوا من أهل هذا الحكم، وإنما يرجع في هذا لأهل العلم الأثبات، الراسخين في علومهم.

وهنا فريقان: فريق يقول: إنه بمجرد قيام صورة الكفر يحكم بالكفر، ويترتب عليه آثاره وأحكامه، وفريق آخر يقول: لا يمكن ثبوت الحكم بالكلية على الأفراد.

فالأول مسلك  الخوارج الذين يكفرون بالكبيرة، ويغلون في مسألة التكفير، ويقابلهم مسلك المرجئة الذين يقولون: لا نحكم بالكفر على معين مطلقا، وأهل السنة والجماعة وسط بين هاتين الضلالتين.

هنا مسألة أخرى، وهي مسألة الموالاة والمعاداة، وهي كالحكم بغير ما أنزل الله، ليست على مرتبة واحدة في الكفر، فمنها ما هو كفر، ومنها ما هو دون الكفر، فالموالاة لها صور عديدة، منها ما اتفق العلماء على أنها كفر، ومنها ما فيه خلاف، ونحن لسنا في مقام البحث عن أحكام الموالاة وصورها، وبيان ما هو كفر منها، وما ليس بكفر، إنما نحن في مقام التطبيق القواعد التي درسناها في مسألة تحكيم غير الشريعة، ومسألة الموالاة.

فالموالاة ليس على مرتبة واحدة، بل دلت النصوص على أنها مراتب، فمنها ما هو كفر، ومنها ما هو دون الكفر، وإذا كان كذلك فنحتاج في الخطوة الأولى أن نبحث هل هذا التولي يدخل في دائرة الكفر أولا؟ ثم إذا كان كفرا، فهل توافرت شروط التكفير في الفاعل؟ وهل انتفت عنه الموانع؟ فإذا كانت الموالاة كفرا، وتوافرت الشروط، وانتفت الموانع، عند ذلك ينزل عليه حكم الكفر، وعليه فلا بد من التريث في هذه المسائل، وألا يستعجل فيها الإنسان، وأن يشتغل بما ينفع من العلم، وما لا يدركه ولا يستطيع أن يصل إليه، فينبغي أن يرجع فيه إلى أهله، ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونالنحل:43، لكن إذا عجز فعليه أن يتجاوزه إلى ما يستطيع، فلن يعاقب أو يحاسب على أمر لا يستطيعه أو ليس من أهله، بل سيحاسب إذا تكلم فيما ليس له به علم، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاًالإسراء:36، وهذا في دقيق العلم وجليله، وفي صغير الشأن وكبيره.

وإذا كان من الصحابة من حصلت منه موالاة للكفار ظاهرا، ولم يحكم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكفره، فما بالكم بمن بعد ذلك؟! ففي الصحيحين من حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ أنه كتب كتابا للمشركين بمقدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهم في مكة، وكان الرسول قد كتم مقدمه ليفجأهم، فلما وقع الكتاب في يد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا حاطبا وسأله عن ذلك، فقال: يا رسول الله، إني لم أفعله ردة ـ وفي بعض الروايات ـ لم أفعله كفرا، وبيّن عذره، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه: ((لا تقولوا له إلا خيراً)) ولما قال له عمر ـ رضي الله عنه ـ: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق! قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((لقد شهد بدرا، ولعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم))صحيح البخاري (5789)، وليس هذا هو سبب عدم وقوع العقوبة والمؤاخذة على حاطب ـ رضي الله عنه ـ وليس السبب أنه بدري، إنما السبب هو وجود التأويل الذي تبين به أنه لم يفعل ذلك على وصف يكون به مستحقا وصف الكفر، وإنما ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كونه بدريا؛ حفظا لمقامه بعد خطئه، وإلا لو كان قد كفر لما نفعه ذلك؛ لأن الله ـ تعالى ـ يقول:﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراًالفرقان:23، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْالبقرة:217، فالله ـ تعالى ـ أخبر عن حبوط العمل بالردة إذا مات الإنسان على الكفر، لكن حكم الكفر لم يثبث في حاطب ـ رضي الله عنه ـ لوجود التأويل المانع من تنزيل الحكم.

ومن المهم يا إخواني إذا كانت هذه الصورة وقعت في زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي صورة من صور التولي والمظاهرة للمشركين، لكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يرتب عليها الحكم لوجود التأويل، فكيف بحال من بعدهم، ممن ضعف علمهم، وممن أحاط بهم ما يمكن أن يكون سببا لنوع من الجهل، أو نوع من الإكراه، أونوع من التأويل، وما إلى ذلك من الموانع التي تمنع تنزيل الحكم؟! والخلاصة أنه لا بد عند الحكم على المعين من النظر في توافر الشروط وانتفاء الموانع.

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات94004 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات89900 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف