الدرس (14) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي
قال رحمه الله:
[المتن]
النوع الثاني: من لهم عبادة وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر، وأنها بدون المقدور كالموات الذي لا تأثير له، بل كالعدم الذي لا وجود له، وأن القدر كالروح المحرك لها، والمعول على المحرك الأول، فلم تنفذ بصائرهم من السبب إلى المسبِّب ومن الآلة إلى الفاعل فقلّ نصيبهم من الاستعانة. وهؤلاء لهم نصيب من التصرّف بحسب استعانتهم وتوكّلهم، ونصيب من الضعف والخذلان بحسب قلة استعانتهم وتوكّلهم ونصيب من الضعف والخذلان بحسب قلة استعانتهم وتوكّلهم، ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه[في المدارج زيادة هنا: وكان مأمورا بإزالته.]لأزاله.
[الشرح]
يقول رحمه الله: (النوع الثاني: من لهم عبادة وأوراد)أي أذكار (ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة)يعني هؤلاء ليس عندهم فساد في الاعتقاد، عندهم فساد في العمل.
أما القسم الأول: عندهم فساد اعتقاد وفساد عمل، فساد الاعتقاد في أي شيء في أنهم ظنوا أن الله تعالى لا يقدر أكثر مما وهبه العبد ومنحه من أمر الدين وأمر الدنيا، ففسد عملهم.
أما القسم الثاني فإنهم عندهم عبادة وأوراد وذكر وليس عندهم الاعتقاد السابق لكنهم قصروا في تحقيق التوكل على الله تعالى في الاعتماد عليه والصدق في الركون إليه في تحصيل المطالب ودفع المضار.
يقول رحمه الله: (فلم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر)يعني ظنوا أن القدر قضاء لا يرتبط بالسبب؛ بل هو قضاء الأشياء بلا أسباب، عطلوا الأسباب، هؤلاء جهلوا جهلا عظيما، فإن الله تعالى قد جعل الأسباب مفضية إلى مسبباتها ونتائجها، وهـٰذا ليس فقط في أمر الدنيا؛ بل في أمر الدين وفي أمر الدنيا، في أمر الأولى وفي أمر الأخرى، أي في الدنيا وفي الآخرة، فقد جعل الله تعالى الأسباب تؤدي إلى نتائجها، وما من شيء في الدنيا ولا في الآخرة إلا وله سبب، وهـٰذا الكلام دل عليه كتاب الله تعالى ودلت عليه سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
يقول رحمه الله: هؤلاء ، هـٰذا الصنف الثاني ضاقت قلوبهم عن الرّبط بين الأسباب والمسببات بين المقدمات والنتائج.
يقول رحمه الله: (وأنها بدون المقدور كالموات الذي لا تأثير له)يعني أن الأشياء دون المقدور؛ أي دون ما قدره الله تعالى (كالموات الذي لا تأثير له؛ بل كالعدم الذي لا وجود له، وأنّ القدر كالروح المحرك لها والمعوّل على المحرك الأول فلم تنفذ بصائرهم من السّبب إلى المسبّب)، يعني اقتصروا فقط على القدر، وقالوا: إن القدر هو الذي به تكون الأشياء وليس للأسباب نتاج، ولا للأسباب ثمرة فإن شاء الله أن نهتدي اهتدينا، ولو لم نفعل شيئا، وإن شاء الله أن نضل ضللنا وإن لم نفعل شيئا، إن شاء الله أن نغتني اغتنينا وإن لم نفعل شيئا، إن شاء الله أن نفتقر افتقرنا وإن لم نفعل شيئا، وهلم جرّا مما عطلوا فيه الربط بين الأسباب والمسببات، وبين المقدمات والنتائج، وهؤلاء لا شك أنهم جهلوا جهلا عظيما، وجنوا على الشريعة وعلى الدين جناية كبرى يقول رحمه الله: (فلم تنفذ بصائرهم من السبب إلى المسبِّب ومن الآلة للفاعل فقلّ نصيبهم من الاستعانة.)فاقتصروا فقط على عملهم الذي يستطيعونه ويقدرون عليه ولم يسألوا الله تعالى زيادة في هـٰذه الأعمال، أو زيادة فيما يريدون من الخير -خير الدنيا وخير الآخرة-، فغفلوا عن المسبب المدبِّر الذي تكون به الأمور وتجري، وتصدر عنه الأوامر جل وعلا ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)﴾[سورة: الرحمـٰن، الآية (29).].
قال: (وهؤلاء لهم نصيب من التصرّف بحسب استعانتهم وتوكّلهم)ولا يخلو الإنسان من نوع استعانة، حتى القسم الثاني الذين قلنا أنهم أعرضوا عن التوكل وعن الاستعانة، هل عندهم استعانة أو لا؟ عندهم نصيب ضئيل من الاستعانة وهو ما ذكره المؤلف -رحمه الله- في قوله: (بل إن سأله تعالى أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته)فهي استعانة ضيّقة فيما يتعلق من نصيبه من دنياه، ولذلك يقول: (وهؤلاء) الصنف الثالث الذين لهم عبادة وليس لهم استعانة (وهؤلاء لهم نصيب من التصرّف بحسب استعانتهم وتوكّلهم، ونصيب من الضعف والخذلان بحسب قلّة استعانتهم وتوكّلهم)، يقول رحمه الله:(ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه لأزاله.)لكن هنا لابد أن يُعرف أن ذلك مع أخذ السبب، أما إذا لم يكن سببا فإنه لا يكفي مجرد عزم القلب على حصول النتيجة، عزم القلب دون أخذ الأسباب المفضية إلى النتيجة عجز وليس توكّلا، إنّما التوكل أن يجمع بين صدق الاعتماد مع أخذ السبب الذي ينتج عنه المقصود والمطلوب، ولذلك في كلام ابن القيم رحمه الله ما يدلّ على هـٰذا المعنى، فإن هـٰذا الكلام نقله المؤلف -رحمه الله- من كلام ابن القيم وفي كلامه في مدارج السالكين ما يفيد أن المقصود بالتوكل هنا في إزالة الجبل مع أخذ الأسباب ليس مجرد التوكل، ويمكن أن يقال إن المؤلف قال:(ولو توكل العبد على الله حق توكله) وحق التوكل لا يكون إلا إذا أخذ السبب، يريد أن يقول أن قوله حق التوكل هنا إنما يكون الإنسان توكل على الله حق توكله إذا جمع بين صدق الاعتقاد والعزيمة في تحصيل المطلوب مع الأسباب التي يمكن أن يأخذها الإنسان لتحصيل غرضه ومطلوبه.
ثم قال رحمه الله:
[المتن]
فإن قيل: ما حقيقة الاستعانة عملا؟ قلنا: هي التي يعبر عنها بالتوكل، وهي حالة للقلب تنشأ عن معرفة الله تعالى وتفرده بالخلق والأمر والتدبير والضر والنفع، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فتوجب اعتماداً عليه وتفويضاً إليه وثقة به، فتصير نسبة العبد إليه تعالى كنسبة الطفل إلى أبويه، فيما ينوبه من رغبته ورهبته، فلو دهمه ما عسى أن يدهَمَهُ من الآفات لم يلتجئ إلى غيرهـما. فإن كان العبد مع هٰذا الاعتماد من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (02) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[سورة: الطلاق، الآية (2-3).]أي كافيه.
[الشرح]
يقول رحمه الله :(فإن قيل: ما حقيقة الاستعانة عملا؟) يعني ما هي الاستعانة من حيث العمل؟
الاستعانة من حيث القول واضحة؛ وهي أن يطلب الإنسان العون من الله فيقول: يا الله أعني أو يا رب أعني أو الله أعني على كذا وكذا، هـٰذه الاستعانة من حيث القول، لكن ما هي من حيث العمل، هل هي عمل بالجوارح أو عمل بالقلب، يقول رحمه الله: (هي التي يعبر عنها بالتوكل)، الاستعانة هي التي يعبر عنها بالتوكل، وما هو التوكل، التوكل هو صدق الاعتماد على الله تعالى في تحصيل المطالب ودفع المراهب، في تحصيل المطلوب ودفع المرهوب، يقول رحمه الله: (وهي حالة للقلب) معنى قوله رحمه الله: (حالة للقلب)، أي أن التوكل، أي أن الاستعانة عمل قلبي، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: التوكل عمل القلب، التوكل عمل القلب، وهـٰذا العمل القلبي لا يستقل عن السبب، ولذلك حقيقة التوكّل لا تتم إلا بالقيام بالأسباب، فالاستعانة تشمل أمرين:
تشمل عمل قلبي وهو صدق الاعتماد على الله تعالى في تحصيل المطلوب ودفع المرهوب.
تشمل إضافة إلى ذلك عمل بالبدن وهو السعي في تحصيل هـٰذه المطالب بما يمكن الإنسان من الأسباب التي تتيسر له.
وبذلك يكون الإنسان قد حقّق التوكل.
يقول رحمه الله: (وهي حالة للقلب تنشأ عن معرفة الله تعالى) معرفة الله تعالى كيف يعني؟ يعني إذا عرف العبد ربه جل وعلا، عرف قدرته وعلمه وإحاطته وفضله وكرمه وإحسانه فإنّه يعتمد عليه ويصدق في الرّكون إليه في تحصيل مطلوبه، يقول:(تنشأ عن معرفة الله تعالى وتفرّده بالخلق والأمر والتدبير والضر والنفع، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن)كل هـٰذه المعارف التي جاء بيانها في القرآن وفي السنة تُثمر اعتمادًا على الله تعالى، ولذلك قال: (فتوجب اعتماداً عليه)هـٰذه المعارف إذا عرفها العبد: أن الله تعالى هو الخالق هو الرازق هو المدبر هو المالك، هو الذي له مقاليد السمٰوات والأرض، هو المنفرد بالنفع والضر، هو الذي إذا شاء شيئا﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)﴾[سورة: يس، الآية (72).] إذا عرف كل هـٰذه المعارف وعلم كل هـٰذه العلوم وهـٰذه الصفات في ربه -جل وعلا- فإنه لا يلتفت إلى سواه. ولذلك (توجب) أي تثمر، وتنتج هـٰذه المعلومات وهـٰذه المعارف، (اعتمادا عليه وتفويضا إليه وثقة به -جل وعلا- فتصير نسبة العبد إليه تعالى)يعني إذا تم في قلبه هـٰذا العلم، وكون في قلبه تلك المعارف تصير نسبة العبد إلى ربه(كنسبة الطفل إلى أبويه)انظر إلى الطفل، إذا أردت أن تعرف حقيقة التوكل أنظر إلى الطفل في صلته بأبويه، يرى أن كل نفع يأتيه من قبل أبويه وكل ضر إنما يصرفه عنه ويدفعه عنه أبواه، ولذلك يقول المؤلف: (فتصير نسبة العبد إليه تعالى كنسبة الطفل إلى أبويه، فيما ينوبه من رغبته ورهبته) فيما يحب وفيما يكره، (فلو دهمه ما عسى أن يدهمه من الآفات لم يلتجئ إلى غيرهما)، الآن الطّفل الصغير إذا دهمه واعتراه ما يكره، يصيح بمن؟ بأبويه ولو كان الغالب أو الداهم له أقوى من أبويه قوة لا نسبة فيها، لكن ليس في قلب الطفل إلا والداه، ولذلك تجده يلتجئ إليهما، ولو كان الذي يخافه أقوى من أبويه لكنه ليس في قلبه إلا هما، كذلك العبد إذا التجئ إلى الله عز وجل وصدق في الاعتماد عليه ليس في قلبه إلا الله جل وعلا، وشتّان بين الأمرين، بين طفل مع أبويه عاجزين ضعيفين، لا يملكان ضرا ولا نفعا، وبين عبد مع ربه الكريم العظيم الذي هو على كل شيء قدير، والذي إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، التوكّل من أعظم ما يدرك به العبد طلبته، ويحصل به أغراضه؛ لكن إذا صدق مع الله تعالى فإن الله لا يخيبه وسيصدقه -جل وعلا- وقد تكفل بذلك.
يقول رحمه الله: (فإن كان العبد مع هٰذا الاعتماد) يعني في تحصيل مطلوبه (من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة)وهـٰذا يشير إلى أنّ من الناس من عنده استعانة تامة، لكن ليس عنده تقوى، وهو القسم الرابع الذي سيتكلم عنه المؤلف رحمه الله، لكن إذا ضم إلى كمال الاعتماد: التقوى (فإن العاقبة حميدة قال الله تعالى:﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً(02) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[سورة: الطلاق، الآية (2-3).] أي كافيه.)وهنا الكفاية من أي شيء من كل شيء ، من يتوكل على الله فهو حسبه أي كافيه من كل ما أهمه.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله:
[المتن]
القسم الرابع: من له استعانة بلا عبادة وتلك حالة من شهد تفرّد الله بالضر والنفع، ولم يَدْرِ ما[في المخطوط: ولم يدر ما. والصواب ما في المدارج: وَلَمْ يَدُرْ مَعَ مَا يُحِبُّهُ ويَرْضَاهُ.]يحبه ويرضاه فتوكَّل عليه في حظوظه، فأسعفه بها. وهٰذا لا عاقبة له سواء كانت أموالاً، أو رياسات أو جاهاً عند الخلق أو نحو ذلك، فذلك حظه من دنياه وآخرته.
[الشرح]
(القسم الرابع: من له استعانة بلا عبادة)وهو الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله في القسم السابق، (من له استعانة)أي طلب عون واعتماد على الله تعالى في تحصيل مطالبه؛ لكن ليس له عبادة، ليس له إقبال على الله تعالى، همه في دنياه، في تحصيل مكاسبه الدنيوية وما إلى ذلك مما يتعلق بحظوظه القريبة، أما الآخرة فليس له إليها نظر، يقول : (وتلك حالة من شهد تفرّد الله بالضر والنفع) أي؛ أيقن وأبصر أنه لا ضار إلا الله، ولا نافع إلا الله جل وعلا، وأنه إنما يأتي بالضر والنفع رب العالمين جل وعلا، ولا يدري ما يحبه ويرضاه فهو عنده كمال في الربوبية لكنه عنده جهل في أمر الله تعالى ونهيه، فليس عنده معرفة فيما يحب ويرضى، وفيما يكره ويسخط، إنما الشأن شأنه في معرفة أنه على كل شيء قدير وإنه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، لكن ليس له معرفة بمحاب الله تعالى ومراضيه ومكارهه ومساخطه جل وعلا، (فتوكَّل عليه)أي على الله (في حظوظه)الدنيوية (فأسعفه بها) أي بلغه إياها، وقد ذكر جماعة من العلماء أن التوكل في هـٰذه المقامات يثمر نتيجة؛ لأن الله تعالى قد تكفل لكل من توكل أن يحصل مقصوده قال: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[سورة: الطلاق، الآية (03).]أي كافيه ما أهمه به ومن الكفاية أن يدرك ما يطلب ويحصل ما يرغب، ولذلك يذكر الشيخ ابن القيم -رحمه الله- وأظن أيضا شيخ الإسلام في بعض كلامه أن من أصحاب المعاصي من يتوكل على الله تعالى في تحصيل معصيته فلا يمكنه بلوغ المعصية إلا بتوكله، وضرب مثالا للسراق، قال : تجد السارق يتوكل على الله تعالى في إنجائه، والسلامة من الذين يعسون والذين يرقبون فيحصّل مقصوده بتوكله، وإن كان في معصية؛ لكن هـٰذا هل ينفعه؟ لا ينفعه لأنه تقدم لنا أنه إذا كمّل العبد التوكل على الله تعالى ولم يكن معه تقوى، فإن ذلك ليس مما تُرجى عاقبته، ولذلك قال:(فإن كان العبد مع هٰذا الاعتمادمن أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة)،أما إذا كان عنده توكل وليس عنده عبادة فإنه ليس له عاقبة حميدة، إنما له أن يحصِّل ما توكل على الله فيه، والله تعالى يرزق العبد حتى ما يكون من المال الحرام فهو من رزق الله تعالى الذي ساقه إلى العبد لكنه يحاسب عليه؛ لأن الله تعالى بين لنا طرق الاكتساب والارتزاق وبين لنا الحرام منها والحلال، وأمرنا بأخذ الحلال واجتناب الحرام، فإذا أخذ العبد الحرام فإنه من رزق الله لكنه يحاسب عليه ويأثم به.
قال رحمه الله: (وهٰذا)أي هـٰذا النوع من التوكل (لا عاقبة)؛أي ليس له نتاج في الآخرة، ليس له ثمرة تعلو بها مرتبته، وتزكو بها منزلته عند رب العالمين ، إنما هو لتحصيل أمر دنيوي، وليس له من عمله إلا ما نوى ((إنما الأعمال بالنيات))،[البخاري: كتاب بدأ الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... حديث رقم (01). مسلم: كتاب الإمارة باب قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال. حديث رقم (1907).]يقول:(له سواء كانت أموالاً)أي: سواء توكل على الله في تحصيل أموال (أو رياسات أو جاهاً عند الخلق أو نحو ذلك، فذلك حظه من دنياه وآخرته.)ليس له حظ سواه.
وبهذا قد تكون قد تمت الأقسام الأربعة، أقسام التوكل، أقسام الناس في الاستعانة بالله تعالى وفي عبوديته، أعلى هـٰذه المنازل منزلة من حقق الاعتصام بالله تعالى في تحقيق مطالبه مع تحقيق العبودية له.
[المتن]
واعلم أن العبد لا يكون متحققا بعبادة الله تعالى إلا بأصلين:
أحدهما: متابعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والثاني: إخلاص العبودية.
والناس في هذين الأصلين أربعة أقسام:)
[الشرح]
يقول المؤلف رحمه الله:(واعلم أن العبد لا يكون متحقّقا بعبادة الله)، (متحقّقا) أي متّصفا بها على وجه الحقيقة، قائما بها وفق ما يجب عليه (إلا بأصلين) أي بقاعدتين وأساسين يبنى عليه سائر عمله، فالأصل هو ما يبنى عليه غيره.
الأصل الأول:( متابعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.)وبدأ بمتابعة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل الإخلاص؛ لأن منه عرفنا وجوب الإخلاص، فالمتابعة تكفي لأن المتابعة تكون في الظاهر والباطن، تكون في الظاهر بأن يكون العمل وفق ما عمل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي الباطن أن تكون النية لله، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أعظم الناس تقوى وخشية وتوحيدًا لرب العاملين، فبدأ بالمتابعة لأنها تتضمن الإخلاص، وإنما يُنص على الإخلاص تأكيدا له وبيان أنه لا يقبل العمل من دونه، والمتابعة هي الموافقة لعمل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد جاء الأمر بها عموما وخصوصا عموما في قول الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[سورة: الحشر، الآية (07). ] وفي قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ (21)﴾[سورة: الأحزاب، الآية (21). ]، وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ﴾ [سورة: آل عمران، الآية (31). ]-هـٰذا في كل شأنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وجاء الأمر بالمتابعة في أعمال خاصة ومعلوم أن الأمر في هـٰذه العبادات الخاصة أو المعينة لا ينفي الأمر المطلق، فإذن ذكر بعض أفراد العام بحكم لا يخالف العام لا يعد تخصيصا كما هو معلوم، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصلاة التي هي عمود الدين ((صلوا كما رأيتموني أصلي))،[سبق تخريجه في الصفحة (6).]وقال في الحج: ((خذوا عني مناسككم))[سبق تخريجه في الصفحة (6).] ثم من تمام المتابعة إغلاق أي زيادة في طريق التعبّد، وذلك فيما ذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مما رواه البخاري ومسلم من طريق القاسم بن محمد عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من أحدث في أمرنا هـٰذا ما ليس منه فهو رد))[البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث رقم (2697). مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، حديث رقم (1718).]وقد ذكر الله جل وعلا..
والأصل الثاني (إخلاص العبودية.)(إخلاص) مصدر بمعنى التخليص والتنقية من الشوائب وإخلاص العبودية بأن تكون له وحده جل وعلا دون ما سواه، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه، قال الله تعالى:﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ..﴾[سورة: البينة، الآية (05).] أي مخلصين له العمل، وقال جل وعلا: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2)﴾[ سورة: الزمر، الآية (02).]كأنه يبين أنه ما أنزل الكتاب إلا هـٰذا ومن جزاء ونعمة هـٰذا الكتاب وشكر هـٰذه النعمة، أن يكون العمل خالصا لله جل وعلا، وسيأتي أدلة لوجوب الإخلاص، وقد جمع الله تعالى هذين الأصلين في آية واحدة فقال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا..﴾[سورة: الكهف الآية (110).] ولا يكون العمل صالحا إلا إذا وافق عمل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[سورة: الكهف الآية (110).]وهـٰذا فيه النص على وجوب الإخلاص، وأن لا يقصد سواه بالعمل جل وعلا، هـٰذا ما ذكره المؤلف -رحمه الله- في هـٰذا المقطع في افتتاح ذكر أقسام الناس في العبادة والإخلاص، يقول رحمه الله: (والناس في هذين الأصلين أربعة أقسام:)هـٰذه القسمة ماذا تسمى؟ القسمة العقلية لأن الأربعة ناشئة عن اثنين، فإذا كان قسمين فزاوج بين كل قسم مع الآخر، وانف كل قسم مع الآخر يخلص لك أربع صور أو أربعة أقسام.
[المتن]
أهل الإخلاص والمتابعة.. فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم ومنعهم وعطاؤهم وحبهم وبغضهم كل ذلك لله تعالى لا يريدون من العباد جزاءً ولا شكوراً، عدُّوا الناس كأصحاب القبور لا يملكون ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فإنه لا يعامل أحداً من الخلق إلا لجهله بالله وجهله بالخلق.
والإخلاص هو العمل..
[الشرح]
المؤلف -رحمه الله- بين في هـٰذا المقطع من كلامه حال هـٰذا القسم وهم من كمّلوا الإخلاص لله تعالى وكملوا المتابعة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهؤلاء هم صفوة الخلق، وهم خير الناس، وهم أكرم الخلق عند الله -جل وعلا- الذين حققوا تقوى الله -جل وعلا- في الظاهر والباطن، فهم طابت سرائرهم فلم يقصدوا إلا الله تعالى، وطابت أعمالهم فليس لهم عمل إلا في مرضاة الله جل وعلا.
المؤلف بيّن عملهم وبين جزاءهم وبين كيف يمكن للإنسان أن يصل إلى هـٰذه المرتبة، يقول رحمه الله: (أعمالهم كلها لله) يا فوز من كانت هـٰذه هي حاله، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على بلوغ هـٰذه المنزلة، العمل كله لله جل وعلا ليس لنفسه حظ ولا نصيب ولا لغيره حظ ولا نصيب إنما يرجو الله والدار الآخرة، ليس له همّ إلا في مرضاة ربه أعماله كلها لله وأقواله كلها لله تعالى، (أعمالهم) يشمل هـٰذا عمل الظاهر وعمل الباطن عمل الجوارح وعمل القلب فليس عنده قصد إلا لله تعالى ظاهرا أو باطنا، (وأقوالهم) أي ما يصدر عنهم من قول في أمر بمعروف، في نهي عن منكر، في تعليم علم، في دعوى، في مؤانسة، في محادثة، كل غرضهم وقصدهم من أقوالهم هو مرضاة الله جل وعلا: (ومنعهم وعطاؤهم وحبهم)هـٰذا يشمل كل ما يكون منهم، في الظاهر والباطن، في العمل الخاص والعمل المتعدي كله لله تعالى (منعهم و عطاؤهم وحبهم وبغضهم كل ذلك لله تعالى لا يريدون من العباد جزاءً ولا شكوراً)، أثنى الله على الأبرار الذين أعدّ لهم وأخبر بما أعد لهم في سورة الإنسان، ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا (9)﴾،الحامل لنا على هـٰذا العمل وعلى هـٰذا القصد ﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)﴾[سورة: الإنسان، الآيات (09-11).]نسأل الله الكريم أن نكون منهم.
يقول: (عدُّوا الناس كأصحاب القبور)يعني في معاملتهم للخلق يعاملون الناس كأصحاب القبور فيما يرجى منهم ويطلب منهم، والعاقل يعلم أن أصحاب القبور لا يجيبون ولا ينفعون ولا يضرون، قف على مقبرة، وقل: يا أيها المقبورين اسقوني ماء أعطوني من هـٰذا التراب الذي قد علاكم، لا تجد جوابا ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)﴾[سورة: الأحقاف، الآية (05).]فهم في غفلة ليسو إليك، وهم مشتغلون بما هم فيه لا يملكون لك نفعا ولا ضرّا.
إذا عامل الإنسان الناس على هـٰذا الأصل وهـٰذا الأساس فإنه يطمئن قلبه وينشرح فؤاده ويبتهج خاطره؛ لأنه لا يقصد بعمله إلا رب العالمين جل وعلا، فليس له في الناس نظر، فهـٰذا هو الطريق الذي يصل به الإنسان إلى هـٰذه المرحلة، أن تعد الناس كأصحاب القبور من جهة النفع والضر فما يأتي من الخير من طريقهم ليس منهم إنما الذي جاء به رب العالمين، وهم أسباب ووسائل قدرها الله تعالى وجعلها سببا لوصول الخير إليك، وما وصلك من ضر فهم أيضا أسباب وأدوات يصل بها ما قضى الله تعالى عليك من ضر، فينبغي أن يكون تعلقك بالله تعالى في كل ما ترجو، وفي كل تخاف.
فلا ترجو إلا الله للخطب وحده |
|
وإن صح في خل الصفاء صفاؤه |
يقول: (لا يملكون ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فإنه لا يعامل أحداً من الخلق إلا لجهله بالله)يعني ما أحد يقصد أحد من الخلق بعبادة أو بطاعة، المقصود بالمعاملة هنا المعاملة العبادية لا أحد يعامل أحد من الخلق فيرجو نفعه ويخشى ضرره ويرجو منه ما يرجو من رب العالمين إلا من جهل بالله الذي من كمل علمه به لم يتوجه إلى سواه، وجهله بالخلق وأنهم لا ينفعون ولا يضرون يقول الفضيل بن عياض فيما تقدم (من عرف الناس استراح)، يقول شيخ الإسلام أي علم أنهم لا ينفعون ولا يضرون كما تقدم قال رحمه الله في بيان الإخلاص:
[المتن]
والإخلاص هو العمل الذي لا يقبل الله من عاملٍ عملاً صواباً عارياً منه، وهو الذي ألزم عباده به إلى الموت، قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾[سورة: الملك الآية (02).]، وقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾[سورة: الكهف الآية (07).] ، وأحسن العمل أخلصه وأصوبه. فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على وفق سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهٰذا هو العمل الصالح المذكور في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا﴾[ سورة: الكهف الآية (110) ]، وهو العمل الحسن في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾[سورة: النساء الآية (125) ]، وهو الذي أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: ((كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد))[البخاري: كتاب البيوع، باب النجش، تعليقا. مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، حديث رقم (1718).]، وكل عمل بلا متابعة فإنه لا يـزيد عامله إلا بعداً من الله تعالى، فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالأهواء والآراء.
[الشرح]
يقول رحمه الله في بيان الإخلاص الذي كمّله أهل هـٰذه المنزلة: (والإخلاص هو العمل الذي لا يقبل الله من عاملٍ عملاً صواباً عارياً منه)يعني عملا صالحا أو عملا موافقا لهدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، (عارياً منه) أي مجردا عنه، فمعنى (عاريا) أي مجردا ليس مقترنا بالإخلاص، يقول:(وهو الذي ألزم عباده به إلى الموت) يعني هو العبادة التي لا ينفك عنها الإنسان منذ جريان التكليف؛ لأنه من أجله خلق الله تعالى الخلق، قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)﴾[سورة: الذاريات، الآية (56).]وقال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-:﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾[سورة: الملك، الآية (02).]،يقول المؤلف رحمه الله تعالى في الاستدلال على أن هـٰذه العبادة وهي عبادة الإخلاص لله تعالى في القصد والإرادة والطلب والتوجه يقول: (وهو الذي ألزم عباده به إلى الموت، قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾)ثم يأتي الآن بيان وجه الدلالة في الآية (وقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾) وحسن العمل هنا يتضمن أمرين، قال: (وأحسن العمل أخلصه) يعني أكمله خلوصا من قصد غير الله تعالى، أكمله تجردا من إرادة غير الله تعالى، (وأصوبه.)لا يكون العمل صوابا إلا إذا كان وفق هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فالخالص أن يكون لله تعالى نقي مجرد عن الشوائب والعلق، والصواب أن يكون على وفق سنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مطابقا لهديه وعمله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهـٰذا هو العمل الصالح المذكور في قوله:(﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا﴾) ثم قال: ﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[سورة: الكهف، الآية (110).]وهـٰذا فيه ذكر الشرطين والأصلين اللذين بهما يصلح العمل ويكمل الإخلاص لله تعالى وموافقة السنة في العمل، قال: (وهو العمل الحسن في قوله تعالى:﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾)، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً﴾ أي لا أحد أحسن عملا، ﴿مَنْ﴾هنا استفهامية مشربة معنى التحدي، يعني هي للنفي و(مشربة معنى التحدي) يعني لا أحد أحسن من عامل عمل على وفق ما ذكر ﴿ِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾وإسلام الوجه لله يتضمن يا إخواني إسلام القصد وخلوص النية له جل وعلا، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾أي حال كونه محسنا في عمله، وذلك بأن يكون عمله وفق هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فتضمنت هـٰذه الآية ذكر الشرطين المتقدمين- متابعة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والشرط الآخر إخلاص العبودية لله تعالى-، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً﴾(دينا) هنا بمعنى عمل ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً﴾يعني ومن أحسن عملا وهـٰذا يشمل عمل القلب وعمل الجوارح ﴿مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾، قال:(وهو الذي أمر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله: ((كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد))[البخاري: كتاب البيوع، باب النجش، تعليقا.مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، حديث رقم (1718).]) وهـٰذا الحديث، هـٰذا اللفظ جاء في صحيح مسلم وإلا فالحديث في الصحيحين بلفظ ((من أحدث في أمرنا هـٰذا ما ليس منه فهو رد))[سبق تخريجه في الصفحة (23)]تكلمنا عنه قبل قليل وهو في الصحيحين من طريق القاسم بن محمد عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- والحديث يفيد أن كل من عمل عملا ليس عليه شأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليس عليه عمل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه رد، و(رد) هنا مصدر بمعنى مردود، أي أنه غير مقبول، وهو مرفوض مردود على صاحبه، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وكل عمل بلا متابعة فإنه لا يـزيد عامله إلا بعداً من الله تعالى)كيف؟! كل عمل خال من المتابعة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه لا يزيد صاحبه من الله إلا بعدا، حتى وإن كان خالصا لله، وجه ذلك:
أولا: أنه إذا اشتغل بغير عمل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد فوت على نفسه العمل بالسنة، وهـٰذا لا شك أنه يبعده عن الله تعالى، لأنّ القربات تقرب إلى الله تعالى، ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل، حتى أحبه))[ البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع، حديث رقم (6502).] فكلّ طاعة تقربك إلى الله تعالى، لكن الطاعة التي تقربك هي ما كان على وفق عمل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإذا لم تكن على عمل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنك لا تزداد بذلك قربا إلى الله تعالى؛ بل هي في الحقيقة تعيقك عن التقرب إلى الله تعالى والقرب منه، وتحول بينك وبين الوصول إليه جل وعلا، أيضا لا تزيد صاحبها إلا بعدا؛ لأنها محادة لأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخروج عما أمر الله تعالى به من المتابعة له في الآيات التي ذكرناها قبل قليل ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [سورة: الحشر، الآية (07).]و﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[سورة: الأحزاب، الآية (21).] و﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ﴾.[سورة: آل عمران، الآية (31).] إضافة إلى أنها تتضمن إحداثا، والإحداث مما حذر الله تعالى منه ونهى عنه فقال: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾.[سورة: الشورى، الآية (21).]
إضافة إلى أنها تتضمن، الإحداث في الدين، والعمل الخالي من المتابعة يبعد الإنسان لأنه يتضمن الإعراض عن سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويتضمن الوقوع في ما نهى الله عنه من إحداث ما لم يكن عليه عمل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فتبين لنا بهـٰذا أن كلام المؤلف -رحمه الله- على وجهه ، وقد دلت عليه الأدلة، أن كل من عمل بلا متابعة فإنه لا يزيد عامله إلا بعدا من الله وجه ذلك، نعم ذكر ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن فيه تفويت اتباع السنة التي تقرّب، تفويت القربات التي تقرب؛ لأنه إذا اشتغل بالبدعة فقد ترك المشروع، النفس لا يمكن أن تشتغل ببدعة وسنة في وقت واحد، فإذا ترك السنة اشتغل بالبدعة، وهل البدعة تقرب إلى الله تعالى؟ لا الله تعالى بيّن لا ما يتقرب إليه به فقال كما في الصحيح من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أحب ما تقرب إلي عبدي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه))، ومعلوم أنّ الفرائض والنوافل قد بينها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، هـٰذا واحد.
ثانيا: فيه إعراض عما أمر الله تعالى به من متابعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فرق بين الأول والثاني أن الإنسان إذا اشتغل بالبدعة، ولو لم يعرض عن هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولو كان معظما لهدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هـٰذا لا يقربه إلى الله جل وعلا؛ لأنه اشتغل بباطل، والذي يقرب إلى الله تعالى هو الاشتغال بالحق.
الثاني أنه يتضمن الإعراض عن هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، العمل بلا متابعة قد يتضمن إيش؟ الإعراض عن هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فيكون بهـٰذا إيش، فيكون بهـٰذا مخالف لما أمر الله به من متابعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
الثالث: أنه يتضمن إحداثا في الدين وقد تهدّد الله تعالى من فعل ذلك في قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾[سورة: الشورى، الآية (21).] وكذلك هـٰذا الحديث: ((من أحدث في أمرنا هـٰذا ما ليس منه فهو رد)).
يقول -رحمه الله-: (فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالأهواء والآراء.) (الأهواء) جمع هوى، والهوى من أعظم ما يفسد الأديان، (والآراء) يعني المجردة عن الشريعة، والله تعالى إنما أمرنا بطاعته والتزام شرعه والقيام بما جاء به رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فبين لنا الطريق الموصل إليه سبحانه وبحمده فمن عدل عنه فقد عدل إلى ضلال وهوى.
هل يؤجر الإنسان عن العمل إذا كان على غير السنة؟
العمل نفسه لا يؤجر عليه، لكن قد يؤجر على نية التعبد، إذا كان جاهلا، وهـٰذه لابد من ملاحظتها، قد يؤجر على نية التعبد، أما عين العمل المحدث فإنه يدخل في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد[البخاري: كتاب البيوع، باب النجش، تعليقا. مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، حديث رقم (1718).])) أما نية التعبد قد يؤجر عليها لا سيما إذا كان هـٰذا هو طاقته هـٰذا ظنه أنه يقربه إلى الله تعالى، وأنه مما يتعبد لله تعالى به.
[المتن]
الضرب الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة له، وهؤلاء شرار الخلق، وهم المتزيّنون بأعمال الخير يراؤون بها الناس، وهٰذا الضرب يكثر فيمن انحرف عن الصراط المستقيم من المنتسبين إلى الفقه والعلم والفقر والعبادة، فإنهم يرتكبون البدع والضلال والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا. وفي أضراب هؤلاء نزل قوله تعالى: ﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[سورة: آل عمران، الآية (188).].)
[الشرح]
هـٰذاالضرب الثاني: هو من تجرد عن الإخلاص وعن المتابعة؛ عن المتابعة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لا يعني هـٰذا أنه لا يتعبد، لأنه لا بد للإنسان من تعبد، لا بد للإنسان من تعبد؛ لكنه ليس هناك متابعة في عبادته ولا إخلاص لله تعالى فيها، ولذلك قال: (من لا إخلاص له ولا متابعةوهؤلاء شرار الخلق)لماذا وصفهم شرار الخلق؟ لأنهم من عطلوا حق الله تعالى، وكل من عطل حق الله تعالى في العبودية والإخلاص فإنه من شرار الخلق، ولذلك جاء وصف أهل آخر الزمان الذين تقوم عليهم الساعة بأنهم شرار الخلق، لماذا؟ لأنهم عطلوا حق الله تعالى، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق كما مر معنا في أول هـٰذه الرسالة أو هـٰذا الكتاب المبارك.
قال: (وهم المتزيّنون بأعمال الخير)هؤلاء يظهر عليهم من أعمال الخير، (يراؤون بها الناس)لكن هـٰذه الأعمال -أعمال الخير- الحقيقة أن التزين بها يسيرهم إلى أي صنف إلى من يعمل لكن ليس له نية، لكن هـٰذه الأعمال -أعمال الخير- هي في الصورة وليست لأجل المتابعة؛ يعني هم يتزيون ويظهرون بثياب أهل الصلاح؛ لكن ليس عندهم عمل صالح حتى لا يشكل عليك كيف يقول: (وهم المتزيّنون بأعمال الخير يراؤون بها الناس) وهم ليس لهم متابعة، نقول: المقصود بالأعمال هنا في الظاهر والصورة، وليس أنهم يقومون بأعمال خيرة، حتى نميز بين هـٰذا الضرب وبين الضرب الأخير الذي ذكره المؤلف رحمه الله من أعماله على متابعة الأمر لكنها لغير الله تعالى، فهناك قوم لهم متابعة لكن ليس لهم نية صادقة ولا إخلاص في العمل، هؤلاء صورتهم يتزيون بزي أهل الخير يدعون دعاوى كاذبة أنهم من أهل الصلاح وليسوا كذلك، وهم الذين قال فيهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو هم من يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الثابت بن الضحاك: ((من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله تعالى إلا قلة))[ مسلم: كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، حديث رقم (110).]والحديث في صحيح الإمام مسلم، وكذلك في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور))ومنه هؤلاء الذين يظهرون في ثياب أهل الصلاح، وفي صورة أهل الصلاح؛ لكنهم لا صلاح في العمل ولا صلاح في القصد عندهم،واضح.
يقول رحمه الله: (وهٰذا الضرب يكثر فيمن انحرف عن الصراط المستقيم من المنتسبين إلى الفقه والعلم والفقر والعبادة)يعني إلى العلم والزهد، (فإنهم يرتكبون البدع والضلال والرياء والسمعة) لأنهم ليس عندهم عمل صالح، ليس عندهم متابعة، عندهم أعمال يشتغلون بها يزعمون أنها من الصالحات؛ لكنها ليست صالحة، ويظهرون أنفسهم من أهل العلم والزهد وليسوا كذالك، (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) أي ينسب إليهم من الفضائل والمنازل ما لم يبلغوه (وفي أضراب هؤلاء نزل قوله تعالى: ﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾) نهى الله تعالى رسوله ونهى أهل الإيمان أن يحسبوا ﴿الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾يعني من المحدثات وبما جاءوا من الأعمال ولو كانت أعمال صالحة، لكنها أعمال ليست على السنة وليست خالصة لله تعالى ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾أي ينسب إليهم العمل الذي لم يقوموا به ﴿فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ﴾يعني بمنجاة، المفازة هنا المقصود بها المنجاة من العذاب؛ بل هم في العذاب، قال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾أي مؤلم يحيط بهم، نسأل الله السلامة والعافية.