الدرس (16) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي
ثم ذكر هـٰذا الحديث أيضا ذكر في هـٰذا الحديث، الحديث هـٰذا في الصحيحين من حديث أبي حازم عن أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لعلي في غزوة خيبر هـٰذه الكلمة ((لأن يهدي الله بك رجلا واحدا))الهداية هنا في أعلى صورها وهي النقل من الكفر إلى الإسلام لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له ذلك في قتاله لليهود، فأعلى ما يكون من الهداية هو هداية النقل من الكفر إلى الإسلام، لكن يدخل في هـٰذا كل أنواع الهداية، فيرجى أن يكون من سعى في هداية الناس من الفسق إلى الصلاح والاستقامة ومن الضلال إلى الهدى، يرجى أن ينال من هـٰذا الحديث قسطا ونصيبا.
الشاهد في هـٰذا الحديث هو أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين عظم فضل العمل المتعدي حيث قال لعلي: ((لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حُمْر النعم))،ثم قال: (وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:((من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجرمن تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً))) وهـٰذا الحديث في صحيح الإمام مسلم من حيث العلاء بن عبد الرحمـٰن عن أبيه عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. وفيه بيان فضل الاشتغال بهداية الخلق، وهـٰذا العمل من متعدي، ((من دعا إلى هدى))أي قام داعيا إلى هدى، والهدى هنا يشمل كل ما أمر الله به ورسوله من الواجبات، ومن المستحبات الظاهرة والباطنة، فهـٰذا يشمل الدعوة لكل عمل صالح، كان له من الأجر مثل أجر من تبعه، يعني إذا قال الوالد لولده: صلِّ الفريضة. فهو داخل في هـٰذا الحديث، إذا قال الرجل لامرأته: صلّ السنة. داخل في هـٰذا الحديث، إذا قال المعلم لطلابه: احرصوا على العلم داخل في هـٰذا الحديث، إذا قال الخطيب يوم الجمعة ما قاله للناس من التوجيه داخل في هـٰذا الحديث، الآمر بالمعروف داخل في هـٰذا الحديث، فهو يشمل كل من اشتغل بهداية غيره ((من دعا إلى هدى))هنا هدى نكرة في سياق أي شيء؟ في سياق الشرط، فماذا تفيد؟ تفيد العموم، في الدعوى إلى كل هدى، دقيق أو جليل صغير أو كبير، ظاهر أو باطن ، واجب أو مستحب، وهـٰذا يبين فضل عظيم الاشتغال بهداية الناس ودعوتهم، (كان له من الأجر مثل أجر من تبعه)، يعني كان له من الأجر بقدر ما ترتب على إحسانه من الأجر، وهـٰذا الأجر زائد على أجر الدعوى، يعني هو لو دعا ولو لم يستجب له هل له أجر أو ليس له أجر، له أجر؛ لكن يزيد على هـٰذا الأجر، أجر الدعوى العمل الصالح أنه إذا كتب الله عز وجل قبولا لهـٰذه الدعوى فإن من عمل بهده الدعوى لك نصيب من عمله، ليس المقصود مشاركة في عمله، إنما لك مثل عمله من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، فقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجرمن تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً))هـٰذا أجر زائد على أجر العمل ذاته، العمل ذاته له من الأجر ما هو واضح وبيِّن في الكتاب والسنة، ثم قال: (وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:((إن الله وملائكته يصلون على معلمي الخير)).) (إن الله وملائكته يصلون)أما الله -جل وعلا- فصلاته رحمة وثناء وخير للعبد، خير كثير للعبد، وأما صلاة الملائكة فهي دعاؤهم واستغفارهم ، وسؤالهم الرحمة لمن يشتغل بتعليم الناس الخير.
وهـٰذا الحديث رواه الترمذي وغيره من طريق أبي أمامة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، لكنه حديث فيه ضعف، قال عنه الترمذي: حديث غريب، والترمذي إذا قال في حديث: حديث غريب فيريد أنه ضعيف، ولكن في نسخة قال رحمه الله: حديث حسن غريب صحيح، وعلى كل حال فيه القاسم أبو عبد الرحمن الراوي عن أبي أمامة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وقد ضعفه بعضهم وقواه بعضهم؛ ضعفه الإمام أحمد ووثقه البخاري، فجرى الاختلاف في تصحيح الحديث على هـٰذا السبب، وفيه أيضا الوليد بن جميل وقد اختلف فيه، وغالب ما يرويه من الضعاف.
على كلٍّ هـٰذا الحديث صححه بعض المتأخرين، وقد وصفه الترمذي بأنه حسن غريب صحيح، وهو دال على أن الاشتغال بتعليم الناس الخير، وهنا الخير يشمل خير الدنيا وخير الآخرة، وهـٰذا من فضل الله ورحمته، يعني لو علّمت أحدًا الكتابة فارتزق بالكتابة هـٰذا من الخير الذي تؤجر عليه، علمت أحدا كيف يصنع الكهرباء، كيف يصلح عطل البيت هـٰذا كله من الخير، فكل خير في ذاته أو فيما يؤول إليه فإنه يؤجر عليه الإنسان، ويرجى أن يدخل في هـٰذا الذي ذكره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هـٰذا الحديث؛ لكن أعلى ما يكون من الخير ما يستقيم به القلب، ويصلح به العمل، ويستنير به الإنسان سبيل الهدى، ويسلك به الصراط المستقيم.
هـٰذا أعلى وأشرف الخير لكن ما دون ذلك يدخل فيه، وعلى هـٰذا الذين يعلمون العلوم الدنيوية إذا قصدوا بذلك الخير؛ إما في تعليمهم، وإما فيما يؤول إليه هـٰذا التعليم فإنهم يؤجرون على هـٰذا إن شاء الله تعالى، يقول: ((إن العالم يستغفر له من في السمٰوات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر والنملة في جحرها))هـٰذا الحديث رواه أبو داود والترمذي، وغيرهما من طريق عاصم عن داود بن جميل عن قيس بن كثير، عن أبي الدرداء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، والحديث في إسناده ضعف وقد قال عنه الحافظ له شواهد يتقوى بها، لكن الحقيقة أن شواهده لا تخلوا من ضعف لكن مقصود الحافظ رحمه الله: أن مجموع الطرق يعطي هـٰذا الحديث شيئا من الحياة، وإن كان الحديث لا يخلو طريق من طرقه من ضعف، وقد أعله الدارقطني بالاضطراب، وضعف رواته، حتى أنه قال: ما بين عاصم إلى أبي الدرداء كلهم ضعفاء؛ يعني ذكرنا الحديث من طريق عاصم عن داود بن جميل عن قيس بن كثير وفي بعض النسخ كثير بن قيس، عن أبي الدرداء.
على كل المقصود هو ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة التي هـٰذا منها، وقد تقدم ما في الصحيحين من حديث سهل ومن حديث أبي هريرة في صحيح الإمام مسلم ((من دعا إلى هدى))وهـٰذا كافي في إثبات الحكم، قال المؤلف رحمه الله بعد أن فرغ من الوجه الأول الذي استدل به هؤلاء، والدليل الأول الذي استدل به هؤلاء على أن العمل المتعدي أفضل من العمل القاصر، ما هو الدليل الذي استدلوا به، أصل الدليل؟ هـٰذه الأحاديث أدلة للأصل الذي ذكروه، حديث علي! لكن ما هو الجامع في هـٰذه الأدلة، ذكر أربعة أحاديث يجمعها معنى واحد؟ أن النفع المتعدي أعظم أجرا، لكون المنتفع به أكثر من النفع القاصر هـٰذا الوجه الأول.
الدليل الثاني: الذي رجحوا به العمل المتعدي على العمل القاصر أن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، وصاحب النفع لا ينقطع عمله ما دام نفعه الذي تسبّب فيه، هـٰذا الوجه الثاني الذي استدلوا به، هم ذكروا أوجها:
الوجه الأول: أن المنتفع بالعمل المتعدي أكثر، وما كان أكثر فهو أعظم أجرا.
الوجه الثاني: أن العمل القاصر ينقطع بموت الإنسان، ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث))، الحديث في صحيح الإمام مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمـٰن عن أبيه عبد الرحمـٰن بن يعقوب عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث))هـٰذه الأعمال الثلاثة ما هي؟ ((علم ينتفع به، صدقة جارية ، ولد صالح يدعو له))[مسلم: كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته. رقم (1631).] وكل هـٰذه الأعمال متعدية أو قاصرة ؟ هـٰذه أعمال كلها متعدية، ولذلك دامت واستمرت بعد موت الإنسان، لكن المؤلف قال: (لا ينقطع عمله مادام نفعه الذي تسبّب فيه) يعني جاري، الذي يفتح مدرسة للتعليم مثلا، يشتغل بفتح مدرسة للتعليم فإنه يؤجر مادامت هـٰذه المدرسة باقية حتى ولو مات، حلق العلم التي يؤسسها العلماء ويرعونها ثم ينشأ من هـٰذا العلم طلبة يعلمون ويدرِّسون، فهم مأجورون من هـٰذا، من العلم الذي ينتفع به، العلم الذي ينتفع به يشمل الكتب يشمل الطلاب يشمل دعوة الناس على وجه العموم، كل علم يتركه الإنسان يُنتفع به ويبقى الناس يعملون به بعده فإنه يرجى أن يدخل في هـٰذا الحديث في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له))، وأنبه هنا إلى أن كثيرًا من الناس يسعى في أنواع من العمل الصالح الذي يبقى بعد موتهم؛ لكنهم يفوتهم معرفة مراتب العمل، وهـٰذه مسألة مهمة أفضل ما يبقى بعدك من العمل الذي ترجو نفعه هو العلم النافع، وذلك أن العلم النافع ما يزال ينمو، أنت الآن لو وقّفت عمارة، هـٰذه من الصدقة الجارية أو لا؟ وقفت مثلا على أنها للفقراء، أو في طلبة العلم، أو في المجاهدين، أو في أي باب من أبواب البر، هـٰذا الوقف سينتهي إذا تعطل وخرب سينتهي وينقطع نفعه، لكن العلم هو المبارك الذي لا ينتهي، فإنك إذا أوقفت شيئا مثلا على العلم، أو أنك تركت مؤلفا أو علمت ونقل عنك الطلاب العلم، هـٰذا العلم سيبقى.
مثال واضح حتى يتضح الأمر هـٰذا الحديث الذي نقرؤه وهو قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث))، من الذي نقله للأمة؟ أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، والذي نقله عن أبي هريرة عبد الرحمـٰن بن يعقوب الحرقي، والذي نقله عن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي ابنه العلاء بن عبد الرحمـٰن وهلم جرّا، حتى جاء الإمام مسلم وأخرج هـٰذا الحديث من طريقهم، وحُفظ الحديث وانتشر في الأمة من هـٰذا الطريق، كل من قرأ هـٰذا الحديث وانتفع به فهؤلاء لهم أجر فيه، ولذلك العلم الآن لما تُعلم علم هـٰذا العلم إذا نقلته إلى طالب والطالب نقله إلى آخر أو سمعه عامي ونقله إلى آخر، أو عمل به لا شك أن هـٰذا مما يتسع نفعه ويدوم بخلاف الصدقة وبخلاف الولد الصالح، فالولد الصالح يموت والصدقة تنتهي بوقت؛ لكن الذي يدوم دواما مستمرا هو العلم، ولذلك أنا أقول: ينبغي لطلبة العلم أن ينبهوا الناس إلى دعم المشاريع العلمية ودعم طلبة العلم، الآن تجد الناس ينشطون مثلا في الأوقاف التي على المساجد، في الأوقاف التي على الفقراء، ينشطون في كفالة الأيتام، ينشطون في الإغاثة، وهـٰذا كله خير وأجر وثواب ويرجى إن شاء الله النفع لهم، لكن الحكيم من ينتقي من العمل ما دام نفعه وطال عائده عليه في الدنيا والآخرة وهو العلم.
وأذكر أن شيخنا رحمه الله أتاه أحد المحسنين يسأله في أفضل ما ينفق فيه في هـٰذا الزمن، فقال له: أرى أنه أفضل ما يكون من النفقة في هـٰذا الزمن في العلم، وهـٰذا يشمل الإنفاق على طلبة العلم بالأوقاف يشمل الإنفاق مثلا على الكتب يشمل توزيع الأشرطة، كفالة الدعاة كفالة الحلق كل ما يتعلق، دعم الكتاب، دعم الشريط دعم المواقع العلمية التي ينتفع بها الناس، المراد أنه لا حسرة لهـٰذا الأمر فالطرق كثيرة وأبواب متنوعة، والناس في انصراف عن هـٰذا الأمر، أرى أنه مما ينبغي لطلبة العلم أن يهتموا به هو إشاعة هـٰذا وتبيين هـٰذا للناس، أسأل الله أن يعيننا وإياكم على الخير، هـٰذا شيء تابع وليس أصلا فما نحن فيه.
يقول المؤلف رحمه الله في ثالث الأوجه، مر كم وجه ، وجهان:
ثالث الأوجه: قال: (الأنبياء عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ونفعهم في معاشهم ومعادهم، لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع) ،إذن استدل بحال الأنبياء، وأن الأنبياء كانوا يشتغلون بأي نوع من أنواع العمل المتعدي أو القاصر؟ كانوا يشتغلون بالعمل المتعدي، ولذلك علت مراتبهم وارتفع ذكرهم لما كانوا فيه من العمل المتعدي الذي نفع أممهم، يقول: (ولهٰذا أنكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع والتعبّد وترك مخالطة الناس) ، يشير المؤلف رحمه الله بهـٰذا إلى ما في الصحيحين من حديث حميد الطويل عن أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن ثلاثة رجال أتوا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسألون أزواجه عن عمله فلما حكوا لهم عمل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كأنهم تقالوا ذلك، أي رأوه قليلا ضعيفا فقال أحدهم: لا أتزوج النساء، وقال الآخر: لا أنام على فراش، وقال الثالث: لا آكل اللحم، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكنني أصلي وأنام، وأتزوج النساء، وأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني))[البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، حديث رقم (5063).
مسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه..، حديث رقم (1401).]فبيّن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطأ هؤلاء، وهنا الخطأ في كونهم حبسوا أنفسهم، لا في كونهم اشتغلوا بعمل قاصر، ولذلك الاستدلال بهـٰذا فيه نوع نظر، لأنّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم ينكر عليهم، أنهم اشتغلوا بهـٰذه الأعمال إنما أنكر عليهم دوام الاشتغال بهـٰذا العمل عن غيره، وأنهم حبسوا أنفسهم في شيء لم يشرعه لهم الله تعالى وهو أن أحدهم يقول: لا أتزوج النساء، والآخر يقول: لا آكل اللحم، والثالث يقول: أقوم ولا أنام، فالاستدلال بهـٰذا فيه نظر، قوله: (ولهٰذا أنكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أولئك)النبي لم ينكر عليهم اشتغالهم بالأعمال القاصرة إنما أنكر عليهم كونهم رغبوا عن سنته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، نعم ثم قال:(ورأى هؤلاء أن التفرق لنفع الخلق أفضل من الجمعية على الله بدون ذلك، قالوا:ومن ذلك العلم والتعليم ونحو هٰذه الأمور الفاضلة) ثم قال:
[المتن]
الصنف الرابع: قالوا: أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب سُبْحَانَهُ واشتغال كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته:
فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار؛ بل من ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف القيام بحقه والاشتغال به.
والأفضل في وقت السَّحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والذكر والدعاء.
والأفضل وقت الآذان ترك ما هو فيه من الأوراد والاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والاجتهاد في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى المسجد وإن بعد.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج المبادرة إلى مساعدته بالجاه والمال والبدن.
والأفضل في السفر مساعدة المحتاج وإعانة الرِّفقة وإيثار ذلك على الأوراد والخلوات.
والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لا سيّما التكبير والتهليل والتحميد وهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر الأواخر من رمضان لزوم المساجد والخلوة فيها مع الاعتكاف والإعراض عن مخالطة الناس والانشغال بهم، حتى أنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل أذى الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك لهم، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم. وخلطتهم في الخير أفضل من عزلتهم فيه، وعزلتهم في الشر خير من خلطتهم فيه.
فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله وقلله، فخلطتهم خير من اعتزالهم، وهؤلاء هم أهل التعبّد المطلق.
[الشرح]
(الصنف الرابع)، هو أفضل الأصناف، نقرأ ما ذكره المؤلف رحمه الله على وجه الإجمال في هـٰذا الصنف، يقول رحمه الله: (أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب سُبْحَانَهُ واشتغال كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته)وظيفته: المقصود بها الواجبات، المؤلف رحمه الله بين أن هـٰذا الصنف ليس له عمل معين، لا يقصر نفسه على عمل معين، بل هو دائر في أعمال كثيرة، وذلك أن الأفضل في العمل لا يأخذ فضلا مطلقا في كل حين وفي كل حال وفي كل وقت؛ بل الفضل في العمل يختلف باختلاف الحال، وباختلاف الزمان، وباختلاف المكان، وإذا كان كذلك فإنه لا يمكن أن نقول: إن نوعا من العمل هو الأفضل على الإطلاق، فالأعمال تتفاضل باعتبار زمانها وباعتبار مكانها، وباعتبار الأشخاص القائمين بها، ولذلك اختلف جواب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لمن سأل عن أي العمل أفضل، مرة يقول: ((إيمان بالله وجهاد في سبيله))،[البخاري: كتاب الإيمان، باب من قال إن الإيمان هو العمل، حديث رقم (26).مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، حديث رقم (83).] ومرة يقول: ((الصلاة على وقتها))[البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة في وقتها، حديث رقم (527). مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، حديث رقم (85).] وهكذا في أجوبته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنما كان هـٰذا الاختلاف بسبب اختلاف أحوال الأشخاص، أو باختلاف الأزمان، أو باختلاف الأماكن، أو ما إلى ذلك مما يوجب الاختلاف في الفضل.
إذن الخلاصة من هـٰذا الصنف الذي ذكر فيه المؤلف -رحمه الله- أمثلة كثيرة وتطبيقات عديدة للأفضل في أحوال وفي أزمان وفي أماكن.
الخلاصة أنه ليس هناك عمل يقال أنه الأفضل على وجده الإطلاق، إنما الفضل يتفاوت ويختلف باختلاف الزمان باختلاف المكان، باختلاف الشخص، فأفضل العبّاد هو من جعل نفسه في أفضل العبادات وأقربها إلى طاعة الله زمانا ومكانا وحالا، يقول رحمه الله: (فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد) في وقت الجهاد، الجهاد، الجهاد هو قتال الكفار، ففي زمن الجهاد، وهو زمن اعتداء الكفار على أهل الإسلام، أفضل الأعمال الجهاد (وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار؛ بل من ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن.)ولذلك شرعت صلاة الخوف، ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا﴾،[سورة : البقرة، الآية (239). ]فالجهاد في هـٰذه الحال التي يكون مضايقا فيها لبعض الواجبات، أولى من الاشتغال بإتمام الصلاة وإكمالها، ولذلك ذكر الله تعالى: صفة صلاة الخوف، وبين ذلك في كتابه بيانا مفصلا لئلا يلتبس الأمر ويظن ظان، أن تقديم الصلاة في مثل هـٰذا وتكميلها في مثل هـٰذه الأحوال مقدم على الجهاد، إذن من اشتغل في مثل هـٰذه المواطن بأنواع العبادات والأوراد وإقامة الصلاة على وجه التمام، هل هو مشتغل بالفاضل أو بالمفضول، مشتغل بالمفضول، لأنّ الفاضل في هـٰذا هو القيام بما أمر الله تعالى به من دفع الكفار وكسر صولتهم.
قال: (والأفضل في وقت حضور الضيف القيام بحقه والاشتغال به.)فإذا جاءه ضيف، جلس يبحث في العلم وترك ضيفه أو جلس يقرأ وترك ضيفه، أو قام يتسنن وترك ضيفه، لا شك أنه خارج عن كمال العبودية، وإن كان ما يشتغل به في ذاته فاضل لكنه طرأ ما يوجب تقديم الضيافة على الصلاة، ((الصلاة خير موضوع))،[صحيح الجامع حديث رقم (3870).] لكن لما جاء الضيف كان ذلك مقدما لا لجنس العمل لكن لكونه في هـٰذه الحال ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه))[البخاري: كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، حديث رقم (6019).مسلم: كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف.. حديث رقم (47).] وفي إكرام الضيف أن تجلس معه وأن تحتفي به، وأن تقدم له ما تستطيع من الإحسان المعنوي والمادي.
يقول: (والأفضل في أوقات السَّحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والذكر والدعاء.
والأفضل وقت الآذان ترك ما هو فيه من الأوراد والاشتغال بإجابة المؤذن.)، وسرد المؤلف رحمه الله أنوعا من الأعمال يكون الأفضل فيها فاضلا في ذلك الوقت، وقد يكون مفضولا في غيره، قال: (والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والاجتهاد في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى المسجد وإن بعد.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج) كالنوازل، والمصائب، والكوارث، (المبادرة إلى مساعدته بالجاه والمال والبدن.
والأفضل في السفر مساعدة المحتاج وإعانة الرِّفقة وإيثار ذلك على الأوراد والخلوة.)مع أن الأوراد والخلوة قد يكون فيها من تغذية القلب وانشراحه ما ليس في إعانة الركب وإعانة الرفقة وما إلى ذلك، ويشهد لهـٰذا ما في الصحيح أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان في سفر ولما نزل منزلا سقط الصوام وقام المفطرون فضربوا الأخبية وسقوا الرِّكاب فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((ذهب المفطرون اليوم بالأجر))[ البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل الخدمة في الغزو، حديث رقم (2890).مسلم: كتاب الصيام، باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل، حديث رقم (1119).]مع أنهم فوتوا صوما لكن في مثل هـٰذه الحال القيام بهـٰذه الأعمال أفضل من التعبد لله تعالى بالصوم.
يقول رحمه الله:(والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.)، يعني أنت الآن لو جاءك كتاب من سلطان أو من أمير أو من كبير أو ممن تجل وتحب، تجد أن حفاوتك بهـٰذا الكتاب حفاوة كبيرة، لا من حيث الحفظ له، ولا من حيث قراءته، ولا من حيث تأمل معانيه، ولا من حيث فهمه، ولا من حيث تكراره، كل هـٰذا وهو كتاب بشر من البشر، ينبغي لنا إذا جئنا نقرأ كتاب الله تعالى نستحضر كلام المؤلف (جمعية القلب والهمة على تدبره) يعني بذل الطاقة والوسع في تدبره، (والعزم على تنفيذ أوامره) لأن التدبر يثمر العمل من تدبر تبين له الأمر، واتضح له المعنى، وفهم مراد الله جل وعلا ثم ينتقل بعد هـٰذا الفهم والعلم إلى العمل.
قال:(والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لا سيّما التكبير) إلى آخر ما ذكر ، (والأفضل في العشرة الأواخر من رمضان لزوم المساجد والخلوة..والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته..والأفضل في وقت نزول النوازل أذى الناس لك أداء واجب الصبر..) ثمقال رحمه الله :
[المتن]
وهؤلاء هم أهل التعبّد المطلق، والأصناف التي قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عن الفرع الذيتعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص ونزل عن عبادته، فهو يعبد الله على وجه واحد، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره؛ بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى، إن رأيت العلماء رأيته معهم وكذلك في الذاكرين، والمتصدقِّين وأرباب الجمعية وعكوف القلب على الله، فهٰذا هو الغذاء الجامع للسائر إلى الله في كل طريق والوافد عليه مع كل فريق.
[الشرح]
تقدم أن المؤلف رحمه الله قسم الناس في طريق سيرهم إلى الله تعالى في تعبدهم إلى أربعة أصناف:
- أول هـٰذه الأصناف: أشقها هو أفضلها، هـٰذا هو أول فريق.
- الثاني: أهل الزهد والتجرد والتنسك.
- الثالث: الذي ينظر إلى النفع المتعدي.
- الرابع: الذي تعبد الله تعالى بعبادة الوقت، ففي كل وقت يأخذ من العبادة ما هو وظيفة الوقت.
أفضل هؤلاء الأصناف، هم أصحاب الصنف الأخير، الصنف الرابع الذين هم أهل التعبد المطلق يقول المؤلف رحمه الله:(هم أهل التعبّد المطلق)،يعني الذين لا يتقيدون بصورة، ولا بنوع ولا بوقت ولا بحال؛ بل طلبهم وغرضهم مرضات الله تعالى فحيث كانت كانوا، وحيث نزلت نزلوا، وحيث سارت ساروا، يتبعون مراضي الله تعالى ومظانه، وهؤلاء لا شك أنهم العباد الحقيقيون، هؤلاء هم العبيد لأنهم ينظرون إلى مرضاة سيدهم فيفعلون، قد تجردوا من حظوظ أنفسهم وأهوائهم، ليس لهم هوى في نوع من التعبد، ولا عمل من الأعمال، وإنما هواهم تبع لمحاب الله تعالى، فيتبعون مراضي الله جل وعلا، يطلبون مرضاته حيث كانت، ولا شك أن هـٰذا من كمال عبودية قلوبهم لله تعالى، لأنهم كالرقيق في يد السيد يفعل بهم ما يشاء، ليس لهم اختيار ولا لهم رغبة ولا ميل إلى نوع من العمل؛ بل رغبتهم رضا سيدهم، فحيث كان رضى سيدهم وجدتهم، وهؤلاء لا شك أنهم الذين كمّلوا العبودية.
سأل الله أن يجعلنا منهم، يقول رحمه الله:(والأصناف التي قبلهم أهل التعبد المقيد) كل تقيد بصورة، إما بعبادة الله تعالى بالمشاق، وإما بعبادة الله تعالى بالتنسك والتجرد من الدنيا وترك ما سوى ذلك، وإما بالاشتغال بالعمل المتعدي النافع وترك ما سوى ذلك، ولا شك أن هـٰذا ولو كان يحصل به خير للإنسان لكنه قصور في السير إلى الله تعالى؛ لأن للإنسان فيه حظا وللإنسان فيه هوى وكلما بعد الإنسان عن هواه كان أقرب إلى مولاه، فينبغي أن يتبين هـٰذا وأن يُعلم، فبقدر ما تبعد عن الهوى بقدر ما تحقق مرضات الله تعالى.
يقول رحمه الله: (فمتى خرج أحدهم عن الفرع الذيتعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص ونزل عن عبادته، فهو يعبد الله تعالى على وجه واحد) ويدخل يا إخواني الشيطان على هؤلاء بأنواع من الدواخل التي تصرفهم عن الطاعات.
هـٰذا اليوم اتصل بي أحد التائبين ويقول: إني وجدت نفسي لما كنت عاص، إذا عصيت واستغفرت وجدت أن الله يقبل علي، يعني يشعر براحة وطمأنينة فلما استقمت، فقدت هـٰذه اللذة، وفقدت هـٰذا الخير، ولهـٰذا يهم قلبي أن ينكس إلى الشر ويرجع إلى ما كنت عليه؛ لأن حالي مع الله قبل خير من حالي مع الله تعالى بعد التوبة، هـٰذا لا شك أنه من مداخل الشيطان، قلت له: ما الذي تجده إذا أقبلت على الطاعة؟ قال: إني إذا أقبلت على الطاعة لا أجد لذة، لا أجد طمأنينة، لا أجد سكونًا، لا أجد انشراحًا. وهـٰذا لا شك أنه سبب يصرف كثير من الناس عن العبادة أنه يسلك طريق الهدى ثم لا يجد ما أخبر به من اللذة، ولا يجد ما أخبر به من طعم الإيمان، فهل هـٰذا يسوغ له ترك العبادة؟ الجواب لا، لأنه يجب عليه أن يعبد الله تعالى ولو لم يحصل اللذة، أما من لم يعبد الله إلا للذة فإنه لاحظ حظ نفسه، وهـٰذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله في أصحاب الجمعية الذين يرون أن حصول اللذة وانشراح الصدر وطمأنينة القلب هي المقصود، فإذا كنت كذلك فينبغي التمسك بكل ما يحصل به سكون القلب ولذته وطمأنينته، الواجب على المؤمن أن يكون عبدا لله تعالى حيث أراد الله تعالى، يعبد الله بما شرع وجد النتيجة أو لم يجد، لأن الشيطان ينغص ولا شك على العبد العبادة، وقد يزين له طريقا من الطرق المفضولة أو الطرق الخارجة عن الهدي النبوي ليستمر في نوع من التعبد الضال، فإن الشيطان إذا عجز عن طرق باب الشهوة جاء من باب الشبهة، وهكذا هو قاعد للإنسان بالمرصاد.
فينبغي للعبد أن يكون فطنا، ليس كل ما تجد فيه انشراحا ولذة وطمأنينة هو الذي تسلكه وتتمسك به من العبادة، ولو كان غيره أفضل منه؛ بل يجب عليك أن تطلب الأفضل الذي هو أقرب إلى مرضاة الله تعالى ولو كان هـٰذا يفوت عليك شيئا من الجمعية والطمأنينة التي أشار إليها المؤلف رحمه الله فيما تقدم من الأصناف التي ذكرها، وهـٰذا مدخل شيطاني على الإنسان إذا تنبه له تجرد عن هواه، وأصبح يعبد الله جل وعلا لذاته، لا لما يدركه من الفوائد.
كيف نجمع بين هـٰذا وهو أن الإنسان لا بد له أن يسلك في عبوديته لله تعالى طلب مراضي الله حيث كانت، سواء كانت مما يجتمع عليه القلب أو مما يتفرق عليه القلب، مما يدرك به اللذة أو ما لا يدرك به اللذة، كيف نجمع بين هـٰذا وبين ما أجاب به الإمام أحمد رحمه الله، لما سأله رجل قال: أي العمل ألزم، نعم سأله قال له: إنني أصلي عند فلان فأجد طمأنينة أو انشراحا وأصلي في المسجد الفلاني فلا أجد ذلك، فأيهما أصلي معه؟ قال: انظر إلى الأصلح لقلبك فافعله. هـٰذه قاعدة لا شك أنها مهمة وهي صحيحة كما ذكرها الإمام أحمد رحمه الله، لكن أنت انظر إلى السؤال الذي ورد، السؤال في عمل صورته واحدة وهو عمل واحد، إنما الفرق بين هـٰذا وذاك هو أنه يجد هنا صلاحا لقلبه، وهناك لا يجد صلاحا لقلبه، لم يكن العمل بين نوعين من العمل أحدهما فاضل والآخر مفضول، فيقال للإنسان: الزم المفضول ولو فوت الفاضل، ثم قد يكون المفضول، مفضولا، مفضولا بمعنى ليس فقط دونه في الرتبة والدرجة والأجر إنما لكونه قد يكون ممنوعا، مثلا قراءة القرآن، أو قال الإنسان: أنا لا أخشع في قراءة القرآن إلا إذا كنت ساجدا، هل نقول له: اقرأ القرآن وأنت ساجد، نقول: لا، قراءتك للقرآن وأنت ساجد معصية، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((ألا إني قد نهيت أن أقرأ القرآن وأنا راكع وأنا ساجد))[مسلم: كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القآن في الركوع والسجود، حديث رقم (479).] فهـٰذا ينبغي أن يكون الإنسان، لا باحثا عن ما تميل إليه نفسه إنما يكون باحثا عما يرضي ربه، ولزوم مرضاة الله تعالى أن يجد العبد انشراحا ولذة، لا بد ولكن قد يتأخر وقد يبتلي الله عز وجل العبد فلا يدرك هـٰذه اللذات إلا بعد مجاهدة وصبر، الآن نقول: اقرأ القرآن وتدبر القرآن وستجد خيرا، تجد بعض الناس يقرأ القرآن مرة مرتين ثلاث، ثم لا يجد شيئا، هـٰذا البلاء ليس فيما وجهت إليه، ما وجهت إليه هو توجيه رب العالمين ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾[سورة: الرعد، الآية (28).]فهـٰذا القرآن شفاء لما في الصدور، لكن البلاء أن هناك حوائل وموانع تحتاج في إزالتها إلى وقت حتى تدرك ثمار العبادات؛ حتى تدرك النتائج، فينبغي للعبد أن لا يستعجل، إنما يلزم أمر الله وأمر رسوله، فإذا لزم أمر الله وأمر رسوله لا بد أن يثمر نتاجا حسنا ولذة عاجلة، يتذوقها هي من نعيم الدنيا الذي يقول فيه شيخ الإسلام: لو لم يكن في الآخرة من النعيم إلا ما يدركه أولياء الله تعالى من نعيم قلوبهم وانشراحه في الدنيا لكان كافيا، لا شك أن هـٰذا فضل كبير ويمكن نحن لقصورنا وتقصيرنا ما نتصور هـٰذه المعاني الكبار، لكن من سلك وجد، ومن سار على الدرب، وصل فإن العبد إذا صدق مع الله صدقه الله ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[سورة: العنكبوت، الآية (69).].
إذن خلاصة هـٰذا الذي انتهى إليه المؤلف رحمه الله بعد ذكر هـٰذه الأصناف، أن أعلى المراتب وأشرفها هم الذين يطلبون مراضي الله تعالى، ولو لم يدركوا لذة الإيمان وانشراحه، أو لو كان ذلك سببا لتفرق قلوبهم وتشوشها فإن العبودية المطلوبة هي تحقيق مرضاة الله، اجتمع عليها القلب أو لم يجتمع، رضي بها أو لم يرض، ثم إنه إذا رضي فلا بد أن يكون له الرضا، قال الله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)﴾[سورة: الضحى، الآية (05).]، إذا صدق مع الله فله هـٰذه البشرى.
يقول رحمه الله: (وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره؛ بل غرضه تتبع مرضاة الله)، ثم شرح هـٰذا؛ فقال:(إن رأيت العلماء رأيته معهم وكذلك في الذاكرين)فهو له نصيب من الذكر، (والمتصدقين) فله كذلك حظ ، (وأرباب الجمعية) يعني أصحاب أعمال القلوب والزهد والتنسك وجدته كذلك (وعكوف القلب على الله)أي لزوم القلب لله تعالى ذكرا وتعظيما،(فهٰذا هو الغذاء الجامع)، هـٰذا هو الغذاء الجامع ، وغيره غذاء ناقص ينقص به سير العبد إلى الله تعالى، أجمع الغذاء الذي يكتمل به قوة البدن ويكتمل به قوة السائر إلى الله تعالى هو ما أخذ في كل عبادة بنصيب، ولذلك من حكمة الله أن العبادات هناك فيها حد أدنى واجب من كل عبادة من أصول العبادات، الصلاة فيها قدر واجب، الزكاة كذلك، الصوم كذلك، الحج كذلك، الجهاد كذلك، سائر العمل هناك قدر قد يكون واجبا في جميع هـٰذه العبادات، ثم ما زاد هو محل التسابق والفضل، لكن لحاجة الإنسان إلى قدر من الصلاة، إلى قدر من الصيام، إلى قدر من الزكاة، إلى قدر من الحج، إلى قدر من الأعمال الواجبة، جعل الله تعالى هـٰذه الأعمال مفروضة عليه، وما زاد فهو محل للمسابقة والمسارعة، فالغذاء الكامل أن تبحث عن مراضي الله تعالى، أما الذي أخذ بشيء من العمل الصالح، أو أخذ بمنهج من المناهج المتقدمة، إما التخشع والزهد وإما السعي في نفع الآخرين والعمل المتعدي، وأما من آثر العمل الشاق، فإنه قد أخذ بنوع من الغذاء، مثاله الآن بدن الإنسان إلى ما عندما تكتمل قوته ويكتمل نموه وبناؤه يتنوع الغذاء الذي يلبي حاجة البدن للنمو والحفظ، فإذا اقتصر على نوع من الغذاء، لم يتغذ إلا باللبن فقط هل تكتمل قوته؟ لا، قد يبقى حيا لأن من الأطعمة ما يحفظ الحياة لكن لا بد من اختلال في الصحة، بسبب الاقتصار على نوع من الغذاء، كذلك الطاعة إذا اقتصر على نوع من العمل ونوع من العبادة ونوع من الطاعة سيكون سيره إلى الله تعالى مختلا، وإن كان قد يكون في جملة السائرين إلى الله تعالى، لكن شتان بين من سيره سيرا حثيثا حاثا إلى الله تعالى، بين من سيره متلكئا بطيئا إلى ربه جل وعلا، ثم قال: (فهٰذا هو الغذاء الجامع للسائر إلى الله في كل طريق والوافد عليه مع كل فريق.)نسأل الله أن نكون منهم.
يمثل المؤلف رحمه الله لهـٰذا النوع من الجمع لأبواب الخير والأخذ بطرقه ، واستحضر نعم .
[المتن]
واستحضر ههنا حديث أبي بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحضوره: ((هل منكم أحدٌ أطعم اليوم مسكيناً؟))قال أبو بكر: أنا. قال:((هل منكم أحدٌ أصبح اليوم صائماً؟))قال أبو بكر: أنا. قال: ((هل منكم أحد عاد اليوم مريضاً؟))قال أبو بكر: أنا. قال: ((هل منكم أحد تبعاليوم جنازة؟))، قالأبو بكر: أنا. الحديث.[مسلم: كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر، حديث رقم (1028).]
هٰذا الحديث رُوِي عن طريق عبد الغني بن أبي عقيل، حدثنا يَغْنُم بن سالم عن أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جالساً في جماعة من أصحابه، فقال: من صام اليوم؟ قال أبو بكر: أنا. قال: ((من تصدق اليوم؟))قال أبو بكر: أنا. قال: ((من عاد اليوم مريضاً؟))قال أبو بكر: أنا. قال: ((فمن شهد اليوم جنازة؟))قال أبو بكر: أنا. قال: ((وجبت لك))يعني الجنة.[رواه بهـٰذا الإسناد ابن عبد البر في ((التمهيد)) (7/193).]
ويغنم بن سالم وإن تكلم فيه[قال ابن حبان في المجروحين (3/145): شيخ يضع الحديث على أنس بن مالك، روى عنه بنسخة موضوعة لا يحل الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار. وفي الميزان (4/459): قال ابن يونس: حدث عن أنس فكذب.وقد أورد ابن عدي في ((الكامل)) (7/2738): حديثا من طريقه بالاسناد الذي أورده المصنف هنا، ثم قال: .. وبهـٰذا الاسناد عشرون حديثا..] لكن تابعه سلمة بن وردان.[قال الشيخ علي حسن: لم أر هٰذه المتابعة، وسلمة هٰذا ضعيف، عامة أحاديثه عن أنس منكرة كما قال ابن أبي حاتم كما في ((التهذيب)) (4/160)، وقد قال ابن عدي في ((الكامل)) (7/2739)، وأحاديث يغنم عامتها غير محفوظة، وما كان منها مشهور المتن يستغنى من روايات أخر عن رواية يغنم عن أنس، فإن الروايات الأخر أصح من روايته.قلت: وتقدم تخريج الحديث من رواية أخرى عن أبي هريرة والفرق بينهما بين، إذ في الأولى الحديث عام، وفي الثانية جعله يغنم خاصا بأبي بكر.].
[الشرح]
هـٰذا الحديث، المؤلف رحمه الله ذكره بإسناده وأشار إلى أنه له متابع، لكن الحديث لا يحتاج هـٰذا، الحديث في صحيح مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لأصحابه ذات يوم: (((هل منكم أحدٌ أطعم اليوم مسكيناً؟))قال أبو بكر: أنا. قال:((هل منكم أحدٌ أصبح اليوم صائماً؟))قال أبو بكر: أنا. قال: ((هل منكم أحد عاد اليوم مريضاً؟))قال أبو بكر: أنا. قال: ((هل منكم أحد تبع اليوم جنازة؟))، قالأبو بكر: أنا.) هـٰذا من العجب، هـٰذا من العجب الذي يبين ما كان عليه الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من الاشتغال بأصناف الأعمال وسائر أبواب الخير، فإنك إذا تأملت في الأعمال هـٰذه المذكورة وجدتها قد جمعت أنواع البر كلها، ((هل منكم أحدٌ أطعم اليوم مسكيناً؟))، هـٰذا فيه الصدقة ، والإحسان إلى ذوي الحاجات،((هل منكم أحدٌ أصبح اليوم صائماً؟))هـٰذا فيه إحسان الصلة بالله تعالى في عبادة السر التي لا يطلع عليها إلا الله جل وعلا، ثم قال : ((هل منكم أحد عاد اليوم مريضاً؟))، هـٰذا فيه الإحسان إلى الخلق، أيضا لكن بنوع آخر، هناك إحسان مادي وهنا إحسان معنوي ، هناك إحسان بالإنفاق وهنا إحسان بالرعاية والعود والتفقد لإخوانه المسلمين، ((هل منكم أحد تبعاليوم جنازة؟))، هـٰذا فيه إحسان للحي والميت ، الإحسان للميت باتباع جنازته ، فلم يقتصر إحسانه رحمه الله ورضي الله عنه على الأحياء؛ بل على الأموات، فإن التابع لجنازة شافع فيها، في صلاتها وفي الدعاء لها وفي حضورها، فإن ذلك مما يرجى فيه الخير للميت، كما أنه إحسان للحي وهم أهل الميت الذين يتسلون بمن يتبع الجنازة ويشفع للأموات، فجمعت هـٰذه الصفات المذكورة في الحديث أبوابا من البر والخير وصنوفا من العمل الصالح، التي هي في الحقيقة تحقيق لوظائف الأوقات،ووجباتها، تحقيق لعبادات الأوقات وواجباتها.