الدرس (17) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي
وله أصل صحيح من حديث مالك عن محمد بن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمـٰن بن عوف عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هٰذا خير، فمن كان من أهل الصلاة نودي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد نودي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الرّيّان))، فقال أبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يا رسول الله ما على من يدعى من هٰذه الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من هٰذه الأبواب كلها؟ قال: ((نعم وأرجو أن تكون منهم))[موطأ مالك: كتاب الجهاد، باب نا جاء في الخيل والمسابقة بينها والنفقة في الغزو، حديث رقم (1021).البخاري: كتاب الصوم، باب اليان للصائمين، حديث رقم (1897).مسلم: كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر، حديث رقم (1027).] هكذا رواه عن مالك موصولاً مسنداً يحيى بنيحيى ومعن بن عيسى وعبد الله بن المبارك.[قال ابن عبد البر في التمهيد (7/183): وقد أسنده جله عن مالك منهم معن وابن المبارك.]
ورواه يحيى بن بكير وعبد الله بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن حُمَيد مرسلاً.[قال ابن عبد البر: تابع يحيى علىٰ توصيل هٰذا جماعة الرواة [أي: رواة الموطأ] إلا ابن بكير، فإنه أرسله عن حميد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك رواه عبد الله بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن حميد مرسلا.] وليس هو عند القعنبي[قال الشيخ علي حسن: يعني في رواية الموطأ له، وهي أكبر الروايات كما في تنوير الحوالك (1/7)، وقد طبعت قطعة منها أخيرا كما قال الشيخ الشاذلي النيفر في مقدمته لـ ((موطأ ابن زياد)) (67).]. [قال الشيخ خالد: الظاهر أن معنى عند يعني في إسناد القعنبي، أو عن القعنبي يصح هـٰذا وهـٰذا والظاهر أن (عن) أقرب.]لا مرسلاً ولا مسنداً.
ومعنى قوله: ((من أنفق زوجين))يعني شيئين من نوع واحد، نحو درهمين أو دينارين أو فرسين أو قميصين، وكذلك من صلى ركعتين أو مشى في سبيل الله تعالى خطوتين أو صام يومين ونحو ذلك. وإنما أراد –والله أعلم–[ قال الشيخ خالد: أراد بذكر الصنفين، زوجين يعني ، ولم يقل من أنفق زوجا.] أقل التكرار، وأقل وجوهالمداومة على العمل من أعمال البر؛ لأن الاثنين أقل الجمع.
فهٰذا كالغيث، أين وقع نفع، صحب الله بلا خلق، وصحب الخلق بلا نفس، إذا كان مع الله عزل الخلائق مع البين، وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنهم، فما أغربه بين الناس!وما أشد وحشته منهم، وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه.
[الشرح]
اللهم بلغنا منازل المتقين ، يقول: (وله أصل صحيح من حديث مالك) أي من طريق مالك (عن محمد ابن شهاب) الزهري (عن حميد بن عبد الرحمـٰن بن عوف عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((من أنفق زوجين))،) من أنفق زوجين، الزوجين فسرها المؤلف رحمه الله بأنهما الصنفان من الشيء الواحد، مثل درهمين ومثل تمرتين ومثل ثوبين ومثل كساءين، سائر أنواع الأموال لم يحدد النفقة، النوع المنفق إنما زوجين من كل شيء ، قوله: ((في سبيل الله))فيها وجهان:
في سبيل الله أي في الجهاد.
وفي سبيل الله أي ابتغاء مرضاة الله تعالى، ويقصد بذلك الله جل وعلا.
قولان لأهل العلم.
قال: ((نودي في الجنة، يا عبد الله هـٰذا خير))أي هـٰذه النفقة التي أنفقتها وتكرّرت منك خير، ثم قال: ((فمن كان من أهل الصلاة نودي من باب الصلاة))، قوله: ((نودي في الجنة: يا عبد الله هٰذا خير))النداء في الجنة هل هو في الدنيا أو في الآخرة؟ الله أعلم ، قد يكون هـٰذا النداء بسبب عمله فيقال له: هـٰذا خير تدركه في الآخرة، فالمشار إليه ما جرى من الإنفاق، ويمكن أن يقال: هـٰذا خير، يعني هـٰذا الذي سيأتي تفصيله بسبب ذلك الخير الذي تقدّم فيقول: ((فمن كان من أهل الصلاة نودي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد نودي من باب الجهاد..))الحديث يقول: ((من أنفق زوجين))المؤلف في الشرح يقول: (يعني شيئين من نوع واحد، نحو درهمين أو دينارين أو فرسين أو قميصين) هـٰذا واضح في قول من أنفق زوجين، (وكذلك من صلى ركعتين أو مشى في سبيل الله تعالى خطوتين أو صام يومين) من أين أخذ هـٰذا ؟ أخذ هـٰذا من قوله: ((فمن كان من أهل الصلاة نودي من باب الصلاة))، فدل ذلك على أنه ليس المقصود بالنفقة ، الإنفاق الذي هو إخراج المال، إنما المقصود به إخراج المال وعموم العمل، فيكون معنى الحديث: من عمل زوجين من العمل، أو من كرر العمل مرتين، هـٰذا المفهوم الذي يدل عليه هـٰذا الحديث بمجموعه ((نودي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد نودي من باب الجهاد))أي الباب الذي يدخل منه المجاهدون، والباب الذي يدخل منه المصلون، قال: ((ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الرّيّان))، وهل يعني هـٰذا أن كل عمل من الأعمال له باب؟ الجواب، الظاهر أنه ليس كذلك إنما هو لأصول الأعمال، الأبواب لأصول الأعمال وليست لكل عمل على وجه الإنفراد، فمثلا التبسّم، ليس هناك باب من أبواب التبسم؛ لكن التبسم يدخل في الجملة في معنى الصدقة وتبسمك في وجه أخيك صدقة، فيكون المقصود بتسمية الأبواب هنا هو باعتبار أصول العمل، وإذا نظرت إلى الأعمال وجدت أنها ترجع إلى أصول قد تكون هـٰذه الأصول يعني تصل إلى ثمانية أو أكثر ويرجع بعضها إلى ثمانية، يعني المهم أن هـٰذه الأصول محصورة العدد، فالأبواب، أبواب الجنة هي على هـٰذه الأصول، فباب للجهاد، وباب للصلاة ، وباب للصيام، وباب للصدقة، قال: (فقال أبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يا رسول الله ما على من يدعى من هٰذه الأبواب ضرورة) ما معنى هـٰذا ؟ ، يعني ليس عليه ضرر، ضرورة هنا أي أنه لن يلحقه ضرر، من دعي من هـٰذه الأبواب كلها فليس عليه ضرر، وفعلا الذي يدعى من هـٰذه الأبواب، فكل باب يقول: هلم إلي ادخل من قِبَلي، لا شك أنه في غاية السرور والسعادة، لأنه يخير في الدخول من أيها شاء، وهل يدخل منها جميعها؟ الله أعلم، أحوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا ، لكن قد يخير كما دل ما في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في ذكر الوضوء، ((من توضأ فأحسن الوضوء فقال: أشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء))[مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، حديث رقم (28).] وهـٰذا حديث يبين لنا عظيم فضل التوحيد، التوحيد تفتح له جميع الأبواب، ليس له باب مستقل، فكل باب يقول للموحد هلم إلي، وأما الأعمال: الصلاة لها باب، الزكاة لها باب، الصدقة لها باب، الصوم له باب، وأما التوحيد فإنه إذا حققه العبد فتحت له أبواب الجنة الثمانية، هـٰذا الفضل ليس فقط للوضوء ، ما قال: من توضأ فتحت له. إنما: من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، وإنما اقترن هـٰذا بالوضوء، لأن الوضوء طهارة الظاهر، والتوحيد هو طهارة الباطن، فلما كمل الطهارة ظاهرا وباطنا، ماذا حصل له ؟ فتحت له أبواب الجنة الثمانية، أسأل الله أن يكمل لنا وإياكم بإحسان.
يقول رحمه الله : (هكذا رواه عن مالك موصولاً مسنداً يحيى بنيحيى ومعن بن عيسى وعبد الله بن المبارك.) ثم قال: (ورواه يحيى بن بكير وعبد الله بن يوسف) القعنبي هـٰذا الذي أشار إليه بعد قليل، (عن مالك عن ابن شهاب عن حُمَيد مرسلاً.) يعني ليس فيه أبو هريرة، قال: (وليس هو عند القعنبي لا مرسلاً ولا مسنداً) يشير إلى أن القعنبي ليس ممن رواه مرسلا أو مسندا ، الظاهر أنه يريد أنه لم يرو الحديث، يعني عند مالك ليس فيه رواية عبد الله.
(ومعنى قوله: ((من أنفق زوجين))) تكلمنا عليه، يقول: (وإنما أراد –والله أعلم–أقل التكرار، وأقل وجوهالمداومة على العمل من أعمال البر؛ لأن الاثنين أقل الجمع.).
ثم قال: (فهٰذا) من هـٰذا، المشار إليه من؟ أصحاب الصنف الرابع (فهـٰذا) يعني من حقق العبودية لله تعالى العبودية المطلقة لله جل وعلا (كالغيث أين وقع نفع) يبين يقول: (صحب الله بلا خلق) يسير إلى الله تعالى وافقه الناس في سيره أو لم يوافقوه، فغرضه الله تعالى وقصده بلوغ مرضاته، فليس له في غير مرضاته طلب، (وصحب الخلق بلا نفس) يعني حتى إذا وافق الخلق فهو يوافقهم في صورته وأما قلبه فمع الله جل وعلا، وقصده معه، (صحب الخلق بلا نفس، إذا كان مع الله عزل الخلائق مع البين) يعني مع البعيد ، المقصود بالبين البعيد المفارق، (وتخلى عنهم وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنهم) عزل نفسه، أي أنه لم يجعل نفسه واسطة بينهم وبين الله تعالى وأنه جعلهم واسطة بينهم وبين ربه؛ بل معاملته لله تعالى، وهـٰذا معنى ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في معيار السعادة في معاملة الخلق، قال: ومعيار السعادة في معاملة الخلق أن تعامل الله فيهم ولا تعاملهم في الله، وأن ترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله.
ومعنى هـٰذا أن يكون استحضارك في معاملة الخلق في نفعهم وفي ما يكون منهم الله جل وعلا، فأنت تعامل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيهم لا تعاملهم في الله لا ترقب نفعهم عند الله تعالى، أو أنك تعطيهم لتحصل منهم منافع، وإنما معاملتك مع الله نفعوك أو لم ينفعوك ضروك أو لم يضروك، وقد قال الله تعالى في هؤلاء في وصف عباده الأبرار﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا ﴾[سورة: الإنسان، الآية (8-9)]،هـٰذا هو المعنى الذي ذكره المؤلف رحمه الله، لأنّ هؤلاء صحبوا الله بلا خلق وصحبوا الخلق بلا نفس، ومثله قول الله تعالى في وصف الأتقى: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ﴾[سورة: الليل، الآيات (17-19). ]
يعني ليس هـٰذا العطاء مكافأة إنما هـٰذا العطاء منحة ومنة من رب العالمين.
يقول رحمه الله: (فما أغربه بين الناس!وما أشد وحشته منهم، وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه) ومن أنس بالله فلا موحش له، ومن اطمأن إلى الله جل وعلا فلا مخوف له، ومن فرح بالله تعالى فمن أين تأتيه المنغصات والأكدار، نسأل الله أن يجعلنا من أوليائه وأصفيائه.
ثم قال المؤلف رحمه الله:
[المتن]
واعلم أن الناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرق أربعة وهم في ذلك أربعة أصناف.
[الشرح]
المؤلف -رحمه الله- ذكر في هـٰذا المقطع من كلامه أقسام الناس فيما يتعلق بحكمة العبادة ومنفعتها فيقول-رحمه الله-: (واعلم أن للناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرق أربعة) والمقصود بالحكمة والمنفعة ، يعني الغاية، وهل هـٰذه العبادات لها حكم وغابات وأسرار، أم أنها عبادات مجردة عن الحكم والغايات والأسرار، عبادة لأجل التعبد فقط؟ هنا يقول رحمه الله: الناس في هـٰذا لهم طرق أربعة (وهم في ذلك أربعة أصناف) ، وستأتي على هـٰذه الأصناف لكن من المهم في المقدمة أنه ما من شيء من الأحكام الشرعية، إلا وله حكمة، فإن الله تعالى أخبر في كتابه بأنه حكيم خبير وبأنه أحكم هـٰذا الكتاب المبين وأحكم هـٰذه الشريعة، فقال تعالى: ﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾[سورة: هود الآية (01)]وقال جل وعلا: ﴿تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾[سورة : فصلت الآية (42) ]الكتاب وصفه بأنه تنزيل من حكيم حميد، ليبين عظيم الإحكام الذي اتصف به القرآن، وإذا كان محكما فالشرع الذي في هـٰذا القرآن لا بد أن يكون محكما وحكيما، فهـٰذه قاعدة كلية في كل العبادات، كما أنها في جميع أقضية الله كما مر معنا أن جميع أقضية الله وأقداره لا بد فيها من حكمة، قد تخفى ولا يعلمها الإنسان لكن لا بد من الإيمان المجمل بأن الله حكيم في شرعه وأنه حكيم في قدره سبحانه وبحمده، يأتي تفصيل هـٰذا وبيانه.
[المتن]
الصنف الأول: نفاة الحِكَم والتعليل الذين يردّون الأمر إلى نفس المشيئة وصِرف الإرادة، فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن يكون سببا لسعادة في معاش ولا معاد ولا سببا لنجاة، وإنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة، كما قالوا في الخلق:لم يُخلق لغاية ولا لعلة هي المقصودة به، ولا لحكمة تعود إليه منه، وليس في المخلوقات أسباب تكون بمقتضيات لمسبباتها وليس في النار سبب للإحراق، ولا في الماء قوة الإغراق ولا التبريد، وهكذا الأمر عندهم سواء، لا فرق بين الخلق والأمر، لا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور، ولكن المشيئة اقتضت أمره بهٰذا ونهيه عن هٰذا من غير أن يقوم بالمأمور به صفة تقتضي حسنه، ولا بالمنهي عنه صفة تقتضي قبحه.
ولهٰذا الأصل لوازم فاسدة وفروع كثيرة، وهؤلاء غالبهم لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذّتها، ولا يتنعمون بها، ولهٰذا يسمّون الصلاة والصيام والزكاة والحج والتوحيد والإخلاص ونحو ذلك تكاليف، أي كُلِّفوا بها، ولو سمى مدّعي محبة ملك من الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفاً لم يعد محبا له.
وأول من صدرت عنه هٰذه المقالة " الجعد بن درهم ".
[الشرح]
يقول: (واعلم أن للناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرق أربعة وهم في ذلك أربعة أصناف: الصنف الأول: نفاة الحِكَم والتعليل)، نفاة الحكم أي الغايات، والتعليل أي العلة، وهؤلاء قوم قالوا: إنه ليس في الأمر والنهي علة أو سر أو غاية حكمة يرجع إليها، وإنما هو محض الأمر والنهي ، وهو محض مشيئة الله تعالى، ولذلك يقول: (الذين يردّون الأمر) يعني الأمر الشرعي، (إلى نفس المشيئة) يعني إن شاء الله تعالى تحريم الخمر فحرمت، وإن شاء الله تعالى إباحة الطيبات فأبيحت، وإن شاء الله تعالى فرض الصلوات ففرضت، وشاء الله تعالى تحريم الزنا فحرم، وهلم جرا، في كل ما كان من الأمور الشّرعية في الأمر والنهي لأنه ليس له غاية ولا حكمة، وإنما هو نفس المشيئة، قال: (وصِرف الإرادة) يعني هكذا أراد الله، دون أن يذكر لذلك حكمة أو غاية، يقول رحمه الله: (فهؤلاء عندهم القيام بها) أي بهـٰذه العبادات، (ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن يكون سببا لسعادة في معاش ولا معاد) يعني لا يدركون بها خيرا في الدنيا، كما أنهم لا يدركون بها أجرا ومثوبة في الآخرة ولذلك قال: (في معاش) يعني في الدنيا، (ولا معاد) يعني في الآخرة، قال: (ولا سببا لنجاة، وإنما القيام بها لمجرد الأمر) فقد يعاقب الله تعالى من قام بها ويدخله النار، وقد يأجر من تركها ولم يقم بها، وإنما الأمر والنهي لمجرد مشيئة الله تعالى، قال : (ومحض المشيئة، كما قالوا في الخلق) يعني طردوا القول فنفوا العلة والحكمة في الخلق، ونقلوا هـٰذا إلى أي شيء، إلى الشرع أيضا، الأمر والنهي، هم نفوه في الخلق وقالوا: ليس في خلق هـٰذا الكون حكمة، ولا في ما لم يخلقه الله تعالى حكمة، فليس هناك حكمة لا في الخلق ولا في الكون وما فيه من حوادث إنما ذلك لمحض المشيئة فكذلك طردوا قولهم في أحكام الله تعالى الشرعية، يعني سووا بين الحكم الشرعي والحكم القدري في أي شيء ؟ بأن الجميع ليس له حكمة.
يقول: (كما قالوا في الخلق:لم يخلق لغاية ولا لعلة هي المقصودة به، ولا لحكمة تعود إليه منه، وليس في المخلوقات أسباب تكون مقتضيات لمسبباتها) يعني تكون مما يصدر عنها مسبباتها ونتائجها، قال: (وليس في النار سبب للإحراق) هـٰذا معنى قوله: (ليس في المخلوقات أسباب تكون مقتضيات لمسبباتها)، قال رحمه الله: (وليس في النار سبب للإحراق) فالنار ليست هي التي تحرق، فليس الإحراق بالنار، وإنما الاحتراق أو الحرق صار عند النار وليس بالنار، هكذا يقولون في نفي السببية، قال: (ولا في الماء قوة الإغراق ولا التبريد) يعني تبريد النار وحرها، قال رحمه الله: (وهكذا الأمر عندهم سواء، لا فرق بين الخلق والأمر، لا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور) يعني ليس هناك فرق بين الزنا، والنكاح كلاهما واحد، طيب لو قيل فيه فروق، قال: أبدا لا فرق، وإنما شاء الله أن يبيح هـٰذا ويحرم هـٰذا، هكذا يقولون في زعمهم قال: (ولكن المشيئة اقتضت أمره بهٰذا ونهيه عن هٰذا) فليس هناك حكمة ولا غاية، قال: (من غير أن يقوم بالمأمور به صفة تقتضي حسنه، ولا بالمنهي عنه صفة تقتضي قبحه.) هـٰذا واضح؛ يعني ليس هناك في الأمر والنهي حكم إنما هو مجرد الأمر ومجرد النهي، أظن هـٰذا واضح، كل هـٰذا الكلام بيان وتوضيح لهـٰذا القول الذي يسمى بقول نفاة الحكمة والتعليل، الذين لا يثبتون لا حكمة ولا يثبتون لأفعاله أو أحكامه -سواء الشرعية أو القدرية- علة.
قال : (ولهٰذا الأصل لوازم فاسدة وفروع كثيرة)، طيب، يقول: (وهؤلاء غالبهم لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذّتها) هـٰذا من لوازم هـٰذا القول، أن هؤلاء إذا صدر منهم طاعة وعبادة ليس لهـٰذه العبادة والطاعة لذة؛ لأنه لا يدرك معنى للصلاة، ولا يدرك معنى للإنفاق ولا يدرك معنى للامتناع عن المحرمات، إنما هو محض فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى الله تعالى عنه، بينما إذا نظرت في النصوص الشرعية، وجدت أنّ أكثرها يذكر الله تعالى فيه علة الحكم، يقول الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾[سورة: المائدة الآية (91).] فهـٰذه كلها بيان للعلل والغايات التي من أجلها جاء التحريم في هـٰذه الأعمال، فكيف يسوغ أن يقول قائل: إنه لا علة في التحريم، إنما التحريم لمجرد المشيئة؛ لأن الله شاء أن الخمر محرمة وليس في الخمر شيء يوجب التحريم، شاء الله أن يحرم الزنا وليس في الزنا شيء يوجب التحريم، شاء الله تعالى أن يأمر بالصلاة وليس في الصلاة شيء يوجب فرضها وإلزام العباد بها.
يقول رحمه الله: هؤلاء لا يجدون لذة في الأمر والنهي، لا يجدون لذة فيما أمر الله تعالى به وفي ترك ما نهى الله عنه، قال: (ولا يتنعمون بها، ولهٰذا يسمّون الصلاة والصيام والزكاة والحج والتوحيد) أي عبادة الله وحده لا شريك له (والإخلاص ونحو ذلك تكاليف) لأنها مجردة عن المعاني التي تقتضيها من المصالح في الدين والدنيا، في المعاش والمعاد، قال رحمه الله: (ونحو ذلك تكاليف، أي كُلِّفوا بها، ولو سمى مدعي محبة ملك من الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفاً لم يعد محبا له) لأن التكاليف، توحي بنوع تحمّل لأمر لا معنى له، لكن هـٰذه التسمية شائعة في كلام أهل العلم وإنما سميت التكاليف بذلك؛ لأن فيها مشقة، والمشقة هي الأصل في التعبد، يعني لابد أن تعلم أنه لولا في العبادة مشقة لما كان في ذلك فرق بين لعابد وغيره ، ولذلك جاء في الصحيح أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((حفت الجنة بالمكاره))أي بما تكرهه النفوس وتنفر منه مما يخالف طبعها الذي يسكن إلى الدعة والراحة وترك العمل بالواجب والانطلاق مع ما تحبه النفس وتهواه؛ لكن هؤلاء سموا العبادة تكاليف؛ لأنها مجردة عن المعاني التي تحصّل بها المصالح، لأنها أمر لأجل الأمر ونهي لأجل النهي ليس لها غايات ولا علل ولا حكم.
قال: (وأول من صدرت عنه هٰذه المقالة " الجعد بن درهم ") أول من قال: أن الأمر لا غاية له، والنهي لا غاية له، الجعد بن درهم، وهو مصدر لشر كثير وبدع متعددة هـٰذا منها، وهو نفي الحكمة والتعليل، وهؤلاء ليس عندهم بأس في أن يدخل الله تعالى إبليس الجنة، وأكمل العباد عبادة النار؛ لأنه ليس لهـٰذا حكمة، فليست النار دار العصاة ولا النار دار الأتقياء، وإنما هي مجرد قضاء وحكم لا غير لا غاية له ولا علة، هـٰذا في النار بقضاء الله تعالى، وهـٰذا في الجنة بقضاء الله تعالى، وليس هناك أسباب تقتضي دخول الجنة ولا أسباب تقتضي دخول النار، أظن هـٰذا القول واضح، طيب، الصنف الثاني:
[المتن]
الصنف الثاني:القدرية النفاة الذين يثبتون نوعاً من الحكمة والتعليل لا يقوم بالرب ولا يرجع إليه؛ بل يرجع لمحض مصلحة المخلوق ومنفعته، فعندهم أن العبادات شُرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وأنها بمنزلة استيفاء الأجير أجره، قالوا: ولهٰذا يجعلها سُبْحَانَهُ عِوضاً كقوله: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[سورة: الأعراف الآية (43). ] ، ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[سورة: النمل الآية (90) ]، ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾،[سورة: النحل الآية (32) ] ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[سورة: الزمر الآية (10). ] ، وفي الصحيح((إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفيكم إياها)).[هي قطعة من حديث في صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، حديث رقم (2577).]
قالوا:وقد سماها جزاءً وأجراً وثواباً؛ لأنه شيء يثوب إلى العامل من عمله، أي يرجع إليه.
قالوا:ويدل عليه الموازنة، فلولا تعلق الثواب بالأعمال عوضاً عليها لم يكن للموازنة معنى.
وهاتان الطائفتان متقابلتان.. فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء البتة، وجوّزت أن يُعذب الله من أفنى عمره في الطاعة، وينعّم من أفنى عمره في مخالفته، وكلاهما سواء بالنسبة إليه، والكل راجع إلى محض المشيئة.
والقدرية أوجبت عليه سُبْحَانَهُ رعاية المصالح، وجعلت ذلك كله بمحض الأعمال، وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنقيص باحتمال منة الصدقة بلا ثمن فجعلواتفضله سُبْحَانَهُ على عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد، وأن إعطاءه ما يعطيه أجرة على عمله أحب إلى العبد من أن يعطيه فضلاً منه بلا عمل، ولم يجعلوا للأعمال تأثيراً في الجزاء البته.
[الشرح]
يقول رحمه الله في بيان الصنف الثاني: (الصنف الثاني:القدرية)، القائلون بنفي القدر، ولذلك قال: (القدرية النفاة)، وأما القسم الأول فهم الجبرية، الذين غلوا في إثبات القدر، لذلك يسمى أولئك القدرية الغلاة، وهؤلاء يسمون القدرية النفاة، (الذين يثبتون نوعا من الحكمة والتعليل)، هؤلاء يثبتون الحكمة والتعليل، لكن يقولون: (نوعا من الحكمة والتعليل لا يقوم بالرب ولا يرجع إليه، بل يرجع لمحض مصلحة المخلوق ومنفعته)، يعني أن هـٰذه الغايات وتلك الحكم، ليست مما يرجع إلى الله تعالى لا هي بمحض مصلحة المخلوق ومنفعته، وهؤلاء لأنهم لا يصفون الله تعالى بالحكمة، ولا يصفون الله تعالى بسائر الصفات الدالة على كمال خبرته ووضعه الأمور في مواضعها، يقولون: إن الحكمة لا ترجع إليه ولا تقوم به؛ يعني لا يتصف بها ولا ترجع إليه، إنما وليس مما يجني منه نفعا، وهـٰذا لا شك أنه صحيح أن الله تعالى، لا يجني نفعا لكن الله من حكمته جعل الأشياء مقدرة بأسبابها، بل يرجع لمحض مصلحة المخلوق ومنفعته، فهي مجرد مشروعة ومأمور بها لمصلحة المخلوق لا لحكمة قامت بالرب، وهؤلاء لا شك أنهم أثبتوا نوعا من الحكمة، وهـٰذا معنى قوله نوعا من الحكمة، يعني لم يثبتوا الحكمة كما ينبغي أن يثبتوها مما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله من أنها صفة من صفاته سبحانه وبحمده.
هؤلاء يقولون: لله تعالى حكمة في أفعاله؛ لكن هـٰذه الحكمة لا ترجع إليه ولا تقوم به وإنما هي لمحض مصلحة المخلوق ومنفعته. ثم يقول المؤلف: (فعندهم أن العبادات شُرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم) أثمان يعني أعواض، فهي عوض عما يقوم به من العبادة، فإذا صلى فإنه يعوض عن هـٰذا بالمثوبة التي يدركها من أقام الصلاة، ومن حج فإنه يجزى على هـٰذا الحج أجر الحج الذي ذكره الله وذكره رسوله على وجه العوض والمؤاجرة على العمل، قال: (وأنها بمنزلة استيفاء الأجير أجره) بمنزلة قبض الأجير يعني العامل لأجره إذا عمل عند أحد، (قالوا: ولهٰذا) استدلوا لهـٰذا المسلك (قالوا: ولهٰذا يجعلها سُبْحَانَهُ عِوضاً كقوله:﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[سورة: الأعراف الآية (43). ]) قالوا: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ الباء هنا للثمنية باء المعاوضة، أي ثمن وعوض، ما كنتم تعملون جزيتم به الجنة، فالثمن هو الجنة التي قال فيها:﴿تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾أي بما ، الباء للمعاوضة، بسبب عملكم المتقدم، ثم قال: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[سورة: النمل الآية (90).]،قال: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[سورة: النحل الآية (32).]، ﴿إِنَّمَا يُوَفَّىالصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[سورة: الزمر الآية (10).] ثم قال: كل هـٰذه فيها اقتران الثواب بالعمل، كل هـٰذه النصوص فيها اقتران الثواب بالعمل، لكن هـٰذا القول مما يعلم بطلانه، سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله بيان بطلان هـٰذه الأقوال، وأن الباء هنا وذكر العمل من باب ذكر السبب؛ لكن هـٰذا السبب لا يستقل بذلك الأجر، يعني ليس السبب فقط هو الموجب لتلك الأجور وذلك الثواب الذي ذكره الله تعالى في هـٰذه الآيات، وسيأتي توضيح هـٰذا في كلام المؤلف، الآن فقط يعرض ما قاله هؤلاء وما استدلوا به على أن الأعمال يُجزى عليها في مقابل ما كان من عمل العامل، وليس لله فضل، ولا له منة، يقول: (وفي الصحيح ((إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها)). قالوا:وقد سماها جزاءً وأجراً وثواباً؛ لأنه شيء يثوب إلى العامل من عمله، أي يرجع إليه.) الثواب من ثاب إذا رجع، (قالوا:ويدل عليه الموازنة، فلولا تعلق الثواب بالأعمال عوضاً عليها لم يكن للموازنة معنى.) الموازنة بين الحسنات والسيئات، قال: (ويدل عليه الموازنة، فلولا تعلق الثواب بالأعمال عوضاً عليها لم يكن للموازنة معنى)، قال رحمه الله: (وهاتان الطائفتان متقابلتان)، ما هما الطائفتان؟ يقول: الجبرية والقدرية، (فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء البتة) فقالوا: يدخل الجنة من يدخل بمشيئة الله، ويدخل النار من يدخلها بمشيئة الله، ليس للأعمال سبب، ولا أثر في ذلك، (وجوّزت أن يُعذب الله من أفنى عمره في الطاعة وينعّم من أفنى عمره في مخالفته)، يقول: (وكلاهما سواء بالنسبة إليه)؛ لأنه ما فيه معنى في الطاعة ولا معنى في المعصية، إنما هو محض المشيئة، قال: (والكل راجع إلى محض المشيئة) قال: (والقدرية) هـٰذه الطائفة الثانية، (أوجبت عليه سُبْحَانَهُ رعاية المصالح) بعقولها وأفكارها وآرائها، (وجعلت ذلك كله بمحض الأعمال) يعني ليس لله فضل، ولذلك يقول: (وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنقيص باحتمال منة الصدقة بلا ثمن)، يعني لو أن الله تعالى أعطى العبد من الأجر من غير عمل، لكان هـٰذا فيه تنقص للعبد حيث إنه يلحقه من النقص مثل ما يلحق من يعطي رجلا صدقة من ماله بلا عمل، فإنه ينقص به منزلة الآخذ لماذا؟ لأنه لم يأخذ ذلك في مقابلة عمله، يقول رحمه الله: (وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنقيص باحتمال منة الصدقة بلا ثمن)، فجعلوا صلة الله بعباده، كصلة الخلق بعضهم ببعض، أليس الآن المتصدق عليه يخشى منة المتصدق بلى، ولذلك قال الله تعالى في بيان ما يجب مراعاته في النفقة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى﴾فنهى الله تعالى عن المن؛ لأن الإنفاق على الغير وعلو اليد سبب للمنة وللارتفاع، والإنسان كما قال الله تعالى في وصفه: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾[سورة: الأحزاب الآية (72) ]،فهـٰذه صفته، ومن لوازم هـٰذه الصفة إذا لم يعالجها بالعدل والعلم من لوازم هاتين الصفتين أن يعلو على غيره ويمن فجعلوا صلة الرب بالعبد هكذا، قالوا: إذا أنعم الله على عبده وأدخله الجنة، أو من عليه بثواب لم يكن له سبب من عمل فإن ذلك يوجب أن يشعر العبد بمنة الله عليه، وهـٰذا لا شك أنه في غاية الجهل بالله تعالى حيث إن الله هو الذي أنعم بالعمل أولا وهو الذي يسر تمامه، وهو الذي من بقبوله فكيف يكون لعبد منفكا عن منة الله، وما به من نعمة فمن الله، لا ينفك عن نعمة الله تعالى حتى يقال مثل هـٰذا، لكن عمت بصائرهم وتركوا النصوص فوقعوا في مثل هـٰذه الأقوال المنحرفة.
قال: (فجعلواتفضله سُبْحَانَهُ على عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد) وهـٰذا من قياس الخالق على المخلوق قال: (وأن إعطاء ما يعطيه أجرة على عمله أحب إلى العبد من أن يعطيه فضلاً منه بلا عمل) قال: (ولم يجعلوا للأعمال تأثيراً في الجزاء البتة)، هـٰذه غير واضحة هـٰذه ليست لهؤلاء هـٰذه للذين تقدموا.
يقول -رحمه الله-: (ولم يجعلوا للأعمال تأثيراً في الجزاء البته)، الظاهر، ولم يجعلوا للإنعام تأثيرا في الجزاء البتة، أقرب إلى الصواب، بل أصوب من هـٰذا، وإلا فإن هـٰذا لا يتناسب، ولم يجعلوا للإنعام، يعني ليس لتفضل الله وإنعامه على العبد مدخل في الجزاء البتة.
[المتن]
والطائفتان منحرفتان عن الصراط المستقيم، وهو أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب، والأعمال الصالحات من توفيق الله تعالى وفضله وليست قدْراً لجزائه وثوابه؛ بل غايتها إذا وقعت على أكمل الوجوه أن تكون شكراً على أحد الأجزاء القليلة من نعمه سُبْحَانَهُ، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً من أعمالهم.[سنن أبي داوود: كتاب السنة، باب في القدر، حديث رقم (4699) سنن ابن ماجه: المقدمة، باب في القدر، حديث رقم (77).قال الشيخ الألباني: صحيح.]قوله تعالى:﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[سورة: الزخرف الآية (72) ]، مع قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله))[البخاري: كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، حديث رقم (6467). مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل الجنة بعمله بل برحمة الله تَعَالىٰ، حديث رقم (2816)] تجد الآية تدل على أن الجنان بالأعمال، والحديث ينفي دخول الجنة بالأعمال، ولا تنافِيَ بينهما، لأن توارد النفي والإثبات ليس على محل واحد فالمنفيُّ باء الثمنية[قال الشيخ علي حسن: وتسمى باء المقابلة وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاويه (8/70) يشرح الكلام نفسه: والذي نفاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باء المقابلة كما يقال: اشتريت هٰذا بهـٰذا؛ أي ليس العمل عوضا وثمنا كافيا في دخول الجنة.]واستحقاق الجنة بمجرد الأعمال رداً على القدرية المجوسية التي زعمت أن التفضل بالثواب ابتداءً متضمن لتكدير المنة.
والباء المثبتة التي وردت في القرآن هي باء السببية[أي بسبب أعمالكم.]رداً على القدرية الجبرية الذين يقولون:لا ارتباط بين الأعمال وجزائها، ولا هي أسباب لها، وإنما غايتها أن تكون أمارة.
والسنة النبوية هي أن عموم مشيئة الله وقدرته لا تنافي ربط الأسباب بالمسببات وارتباطها بها.
وكل طائفة من أهل الباطل تركت نوعاً من الحق.
[الشرح]
يقول: (والطائفتان ممنحرفتان عن الصراط المستقيم)، الطائفتان: وهم الجبرية الذين نفوا العلة والحكم، نفوا التعليل والحكمة في أحكام الله تعالى القدرية وفي أحكامه الشريعة، الطائفة الثانية: وهم القدرية، النفاة الذين قالوا بأن الله تعالى يجزي العبد على عمله بقدر ما كان من العمل دون زيادة، فليس له فضل ولا رحمة ولا نعمة في جزاء العبد، يقول: (والطائفتان منحرفتان عن الصراط المستقيم) لا شك، فالصراط المستقيم هو طريق بين هاتين الضلالتين (وهو أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب) ، الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب، هـٰذا من أخذ به، القدرية أم الجبرية؟ ، الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب، هـٰذا قول أخذ به القدرية الذين قالوا بأن الأجر والثواب لا يُحصّل ولا ينال إلا بالعمل، فجعلوا العمل سببا لتحصيل الثواب؛ لكنه سبب مستقل؛ يعني ليس لرحمة الله ونعمته وفضله أي أثر في ذلك إنما هو ناتج عن العمل فالقدرية أخذوا بهـٰذا القول، أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب، والأعمال الصالحات من توفيق الله تعالى وفضله، هـٰذا أخذ به من أخذ به الجبرية.
إذن الحق هو أن نقول إن الأعمال الصالحة سبب لنيل الثواب، وأن العمل الصالح ليس بإرادة الإنسان المجردة؛ بل هو بتوفيق الله تعالى وإعانته وتسديده وتيسيره، فتجمع بين الأمرين، الجبرية أخذوا بأمر وتركوا أمرا، والقدرية أخذوا بأمر وتركوا أمرا، فنظروا إلى النصوص نظرا أعورا، فنظر القدرية إلى النصوص بأن الثواب مرتب على العمل فقالوا: إذن ليس لله منة ولا منحة ولا رحمة في ثواب الأعمال، والجبرية عموا عن هـٰذا وقالوا: إن الأعمال هي بقضاء الله تعالى وقدره، فقالوا: إن الأعمال مقدرة على العباد ليس لهم فيها اختيار، ولا لهم فيها فضل، والمثوبة عليها إنما هي تقدير ومشيئة وليست معروفة السبب.
ثم قال رحمه الله :(وليست قدْراً لجزائه وثوابه؛ بل غايتها إذا وقعت على أكمل الوجوه أن تكون شكراً على أحد الأجزاء القليلة من نعمه سُبْحَانَهُ) ، يعني ليست قدرا، أي لا تستوجب ولا تقابل ولا تكافئ، هـٰذا معنى قوله: (وليست قدْراً)، يعني أنها لا تكافئ جزاءه وثوابه (بل غايتها إذا وقعت على أكمل الوجوه أن تكون شكراً على أحد الأجزاء القليلة من نعمه سُبْحَانَهُ ، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم) لأنهم لم يقوموا بحقه على وجه الكمال الذي فرضه عليهم (ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً من أعمالهم.) يقول رحمه الله: (وتأمل) أي أعد النظر والفكر في (قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[سورة: الزخرف الآية (72) ] ) فالله جل وعلا يخبر بأن الجنة التي أورثها هؤلاء هي بسبب عملهم يقول: (مع قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله))) فهـٰذا الحديث يبين أنه لا يستقل العمل بدخول الجنة، لأنه قال: ((لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)) الباء هنا للسببية أي: بسبب عمله، فما الجمع بين هذين يقول: (تجد الآية تدل على أن الجنان بالأعمال، والحديث ينفي دخول الجنة بالأعمال)، طيب إذا كان كذلك فما الجمع؟ قال: (ولا تنافِيَ بينهما، لأن توارد النفي والإثبات ليس على محل واحد)، فما نفي عنه خلاف ما أثبت، فبينهما فرق بين المثبت والمثبت، ولذلك لم يردا على محل واحد، وإنما يكون التعارض والتناقض والتقابل فما إذا كان قد وردا على محل واحد، فإذا قلت: زيد في المكان، وزيد ليس في المكان هنا تقابلا؛ لأن النفي والإثبات وردا على أمر واحد، أما هنا فالنفي وارد على شيء والإثبات وارد على شيء، كيف هـٰذا ؟ يقول: (فالمنفيُّ باء الثمنية) يعني ما قاله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)) أي: مقابل عمله ، فالباء هنا باء المعاوضة التي تقتضي وجوب الثواب وتقتضي مقابلة الثواب للعمل، وهـٰذا لا يكون، فإنّ العمل لا يقتضي الثواب وهو لا يقابله أي لا يكافئه مكافأة تامة؛ بل فضل الله سابق بالتوفيق للعمل وفضله لاحق بقبوله، ثم بالجزاء عليه، فالفضل قد احتف الإنسان أولا وآخرا.