×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / دروس المصلح / العقيدة / تجريد التوحيد المفيد / الدرس (18) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:706

الدرس (18) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي

يقول: (فالمنفيُّ باء الثمنية واستحقاق الجنة بمجرد الأعمال رداً على القدرية المجوسية التي زعمت أن الفضل بالثواب ابتداءً متضمن لتكدير المنة.) تكدير المنة، يعني أنه مقترن بالمنة، يعني إذا أنعم الله تعالى على العبد وأدخله الجنة، ولم يكن علمه موجبا لدخول الجنة كان هـٰذا مقترنا بالمنة التي تكدِّر على من؟ على العامل؛ لأنه سيستحضر أن دخوله ليس بعمله، إنما بمنة الله تعالى وهـٰذا فيه تنغيص لقلبه، هكذا قالوا، وهم قد قاسوا هـٰذا على حال الخلق، قاسوا إنعام رب العالمين على عباده ومنة رب العالمين على عباده، بإنعام الخلق بعضهم على بعض، وشتان بين نعمة الذي لا ننفك من نعمه وبين نعمة الذي له الفضل وهو المنان أولا وآخرا جل وعلا، وبين منة الخلق التي يلحقها من الأذى والنقص والقصور والضعف والعلو ما هو سبب للتكدير، قال رحمه الله: (والباء المثبتة) في قوله تعالى: (﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[سورة: الزخرف الآية (72)  ] )،  (والباء المثبتة التي وردت في القرآن هي باء السببية) والمقصود بالسببية هنا، السببية المستقلة، وليس مجرد السببية، لا شك أن العمل سبب لدخول الجنة، وإلا لم يرتب الله تعالى عليه الثواب لكنها ليست سببية مستقلة تقتضي مثل ما ذكرنا قبل قليل، المقابلة والاستحقاق؛ بل هي باء يظهر بها العبد شيئا من إقباله ويستوجب بها عظيم إحسان ربه جل وعلا، (رداً على القدرية الجبرية الذين يقولون:لا ارتباط بين الأعمال وجزائها، ولا هي أسباب لها، وإنما غايتها أن تكون أمارة) أي: علامة، وليست دلالة ، وليست سببا، ولا ارتباط بين العمل والثواب، يقول رحمه الله: (والسنة النبوية هي أن عموم مشيئة الله وقدرته لا تنافي ربط الأسباب بالمسببات وارتباطها بها.) بل السنة مثبتة للأسباب وقد ظهر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين ... والأدلة على هـٰذا كثيرة ، الدالة على ارتباط السب بمسبباتها، وليس هناك نقص لا في التوحيد، ولا في الاعتقاد والتوكل، يقول رحمه الله:

[المتن]

وكل طائفة من أهل الباطل تركت نوعاً من الحق، فإنها ارتكبت لأجله نوعاً من الباطل؛ بل أنواعاً، فهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه.

[الشرح]

 واضح هـٰذا، هـٰذه قاعدة مفيدة جدًّا لطالب العلم في معرفة أقوال الفرق على اختلافها وتنوعها، (وكل طائفة من أهل الباطل تركت نوعاً من الحق) يعني صنفا من الحق دلت عليه النصوص (فإنها ارتكبت لأجله نوعاً من الباطل) هي إنما تركت هـٰذا الصنف من الحق أو هـٰذا النوع من الحق، فرارا من باطل اقتضته أوهامهم الفاسدة وعقولهم الكاسدة وخيالاتهم الباطلة، فلما تخيلوا هـٰذه المعاني الفاسدة فروا منها إلى أي شيء؟ إلى ما ظنوه عدلا وحقا وهدى، وفي الواقع أنهم فروا من حق إلى باطل، وغالبا أن المحظور الذي فرّوا منه في خيالاتهم وهو ليس واقعا لكنه كونه محظور في الخيال والظن الفاسد أن المحظور الذي فروا منه أخف من المحظور الذي فروا إليه واضح هـٰذان في الغالب أن الشر الذي يقعون فيه يلزم عليه من اللوازم الباطلة والنقص في صفات رب العالمين ما لا يوجد فيما توهموه مع أنه لا يمكن ولا يتصور  أن يلزم على كلام الله وكلام رسوله شيء من اللوازم الباطلة، يقول : (وكل طائفة من أهل الباطل تركت نوعاً من الحق، فإنها ارتكبت لأجله نوعاً من الباطل؛ بل أنواعاً، فهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه)، نسأل الله أن يسلك بنا سبيلهم، وأن يثبتنا على هـٰذا الطريق القويم.

بعد هـٰذا ذكر المؤلف رحمه الله الصنف الثالث من أصناف الناس في مسألة العلة والحكمة، الحكم والتعليل في أحكام الله تعالى.

[المتن]

الصنف الثالث:الذين زعموا أن فائدة العبادة رياضة النفوس واستعدادها لفيض العلوم والمعارف عليها، وخروج قواها من قوى النفس السّبُعية والبهيمية، فلوا عُطلت العبادة لالتحقت بنفوس السباع والبهائم، فالعبادة تُخرجها إلى مشابهة العقول فتصير قابلة لانتقاش صور المعارف فيها.

[الشرح]

وهـٰذا مسلك الصوفية في الجملة، هم الذين يقولون: المقصود من العبادة إنما هو رياضة النفس، أي تعويدها وتمرينها، وإخراجها من صفات البهيمية؛ أي ما يقتضيه الجبلة من الصفات البهيمية، والسَّبعية التي تقتضي الاعتداء، فالبهيمية تتعلق بالشهوة، لاسيما شهوة الفرج والبطن، والسبعية تتعلق بالاعتداء، وكلاهما يدور على الظلم والجهل  لإخراج النفس من هذين الأمرين.

يقول رحمه الله: (فلوا عُطلت العبادة لالتحقت بنفوس السباع) في الاعتداء (والبهائم) في الانسياق وراء الشهوات والرغبات، (فالعبادة تُخرجها إلى مشابهة العقول فتصير قابلة لانتقاش صور المعارف فيها).

إذن هي رياضة، لا لتحقيق العبودية لله تعالى، إنما لتستقبل هـٰذه النفوس المعارف، والفيوض الإلهية كما يقولون ، فإذا طهرت النفس كانت متهيئة، ولا شك أن هـٰذا مسلك صوفي يسير عليه بعض المنحرفين من أهل الديانات الأخرى من تعذيب النفوس والبقاء فترات طويلة بلا أكل أو بلا شرب كله لتهيئة النفس التي يقولون: إنها تخلت عن الطبيعة البهيمية والطبيعة السبعية، الطبيعة البهيمية تتعلق بأي شيء؟ بالشهوات، والسبعية تتعلق بالاعتداء إذا تخلت من هذين الأمرين صفت، وإذا صفت انعكست عليها المعارف وظهرت لها الفيوض وانكشفت لها أشياء كثيرة، هكذا يقولون.

يقول رحمه الله:

[المتن]

وهٰذا يقوله طائفتان:

إحداهما: من يقرب إلى الإسلام والشرائع من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وعدم الفاعل المختار.

والطائفة الثانية: من تفلسف من صوفية الإسلام ويقرب إلى الفلاسفة، فإنهم يزعمون أن العبادات رياضات لاستعداد النفوس للمعارف العقلية ومخالفة العوائد.

ثم من هؤلاء من لا يوجب العبادة إلا بهٰذا المعنى، فإذا حصل لها ذلك بقي متحيراً في حفظ أوراده والاشتغال بالوارد عنها.

[الشرح]

هـٰذان الصنفان من الناس بينهما بون شاسع من جهة التعبد، الصوفية هم أهل زهد وتنسك وتعبد، لكن هؤلاء لم ينحوا منحى أصحاب المشقّات، وتحميل النفس ما لا تطيق وما إلى ذلك فيما تقدم البحث فيه؛ بل كان عندهم نوع فلسفة ولذلك هو من تفلسف من صوفية الإسلام، يعني من مال إلى العلوم العقلية من الصوفية، وكذلك من يقرب إلى الإسلام من الفلاسفة، الذين يقولون: أصلا ما فيه شرائع مقصودة إنما المقصود صفاء النفس، حيثما حصلت صفاء النفس، فقد حققت العبودية لله  تعالى، أما أولئك فقد سلكوا نوع تعبد، الصوفية سلكوا نوع تعبد، لكنهم تلوثوا بهـٰذه العقيدة التي حملتهم في نهاية المطاف إلى الخروج عن الشرائع، فتجد أن أحدهم يرى أنه قد يبلغ منزلة يسقط بها عنه التكليف، هؤلاء لماذا سقط عنهم التكيف؟ قالوا: نحن وصلنا، إلى أي شيء وصلتم؟ قالوا: إلى اليقين، ما هو اليقين؟ قالوا: أن تصفوا نفوسنا وتتخلى عن الطبائع البهيمية، والطبائع السبعية.

يقول رحمه الله: (ثم من هؤلاء من لا يوجب العبادة إلا بهـٰذا المعنى)، يعني لأجل هـٰذا فقط لا طاعة لله تعالى ومحبة وقربا إليه وما إلى ذلك من الأشياء التي الأولياء والأتقياء والصالحون يسيرون في العبادة من أجلها، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا[سورة: الأنبياء، الآية (90).]هؤلاء  ما عندهم رغب ورهب، هؤلاء عندهم أن تجلوا النفس وتصفوا ويزيل ما فيها من العلق البهيمية والسبعية.

يقول رحمه الله:

[المتن]

ومنهم من يوجب القيام بالأوراد وعدم الإخلال بها، وهم صنفان أيضا:

أحدهما: من يقول بوجوبها حفظاً للقانون وضبطاً للناموس.

والآخرون يوجبونها حفظاً للوارد وخوفاً من تدرج النفس بمفارقتها إلى حالتها الأولى من البهيمية.

[الشرح]

إذن الآن هم انقسموا إلى قسمين فيما إذا تحقق للإنسان الصفا وجلت نفسه وارتاضت على العبادات؛ انقسموا إلى قسمين:

قسم أسقط التكاليف.

القسم الثاني قالوا: لا، نبقي الأعمال التعبدية.

يقول رحمه الله: (ومنهم من يوجب القيام) هـٰذا القسم الثاني.

القسم الأول، (ثم من هؤلاء من لا يوجب العبادة إلا بهٰذا المعنى) فإذا حصلت انتهى، (ومنهم من يوجب القيام بالأوراد وعدم الإخلال بها) حتى لو حصل هـٰذا المعنى، (وهم صنفان:

أحدهما: من يقول بوجوبها حفظاً للقانون وضبطاً للناموس.) حتى ما يدعي أحد ما ليس فيه ، وأن نفسه صفت، وهو لم يسلك الطريق.

الثاني يقول: (والآخرون يوجبونها حفظاً للوارد وخوفاً من تدرج النفس بمفارقتها إلى حالها الأولى)، هؤلاء كانوا أحكم من الذين قبلهم، قالوا: إنه إذا ترك فقد يعود إلى الحالة السابقة التي سبقت الصفا.

قال رحمه الله:

[المتن]

فهٰذه نهاية إقدامهم في حكمة العبادة وما شُرِعت لأجله، ولا تكاد تجد في كتب المتكلمين على طريق السلوك غير طريق من هٰذه الطرق الثلاثة أو مجموعها.

[الشرح]

الثلاثة المتقدمة: طريق الجبرية ، طريق القدرية ، طريق الفلاسفة الصوفية.

[المتن]

والصنف الرابع: هم القائلون بالجمع بين الخلق والأمر والقدر والسبب، فعندهم أن سر العبادة وغايتها مبنيٌّ على معرفة حقيقة الإلهية، ومعنى كونه سُبْحَانَهُ إلهاً وأن العبادة موجب الإلهية وأثرها ومقتضاها وارتباطها كارتباط متعَلَّق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسمع، والإحسان بالرحمة، والعطاء بالجود.

فعندهم من قام بمعرفتها على النحو الذي فسرناها به -لغة وشرعا مصدراً ومورداً- استقام له معرفة حكمة العبادات وغايتها، وعَلَمَ أنها هي الغاية التي خلقت لها العباد، ولها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وخلقت الجنة والنار.

وقد صرح سُبْحَانَهُ  بذلك في قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[سورة: الذاريات، الآية (56).]، فالعبادة هي التي وُجِدت الخلائق لأجلها كلها، كما قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً[ سورة: القيامة، الآية (36).  ] أي مهملاً. قال الشافعي رحمه الله: لا يؤمر ولا ينهى. وقال غيره: لا يثاب ولا يعاقب. وهما تفسيران صحيحان، فإن الثواب والعقاب مترتب على الأمر والنهي، والأمر والنهي هو طلب العبادة وإرادتها.

[الشرح]

(الصنف الرابع): هؤلاء هم أصحاب الصراط المستقيم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم ، هم الذين سلكوا هـٰذا الطريق لعبودية الله تعالى، إذن هؤلاء عندهم أن الغاية والحكمة والسر من جميع العبادات هو تحقيق العبودية لله تعالى، ولذلك يقول المؤلف: (فعندهم أن سر العبادة وغايتها مبنيٌّ على معرفة حقيقة الإلهية، ومعنى كونه سُبْحَانَهُ إلهاً وأن العبادة موجب) أي ثمرة (موجب الإلهية وأثرها ومقتضاها وارتباطها كارتباط متعَلَّق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم) يعني أنها مقترنة، يعني هؤلاء عندهم أن السر في العبادة هو تحقيق العبودية للإله الذي لا يمكن أن تُقِرّ بأنه إلـٰه إلا إذا أخلصت له العبادة.

إذن هـٰذا معنى هـٰذا الطريق ، وهـٰذه معالمه ، وهؤلاء أشرح الناس صدورا، وأكملهم يقينا، وأسلمهم صراطا، فإنهم الذين يعبدون الله تعالى خوفا ورجاء، ومحبة ، ورغبة ورهبة، هؤلاء هم السائرون إلى الله تعالى، وهم الذين حققوا الغاية من الوجود، قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)[ سورة: الذاريات الآية (56)   ]، وقال جل وعلا: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾[سورة: الملك الآية (02) .  ]قال تعالى:﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً[سورة: القيامة الآية (36)   ] ، بعد أن قال: (فالعبادة هي التي وُجِدت لأجلها الخلائق كلها، كما قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً[سورة: القيامة الآية (36)] ، أي مهملاً. قال الشافعي رحمه الله: لا يؤمر ولا ينهىوقال غيره: لا يثاب ولا يعاقب.) والمؤلف يشير هنا إلى معنيين:

الغاية من الخلق.

والغاية بالخلق.

يعني ما الغاية من الخلق، ما المراد من الخلق؟ عبادة الله تعالى.

وما المراد بالخلق ؟ الثواب والعقاب.

فقوله رحمه الله: (لا يؤمر ولا ينهى) هـٰذا بيان لأي شيء؟ بيان للغاية من الخلق، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)[سورة: الذاريات، الآية (56).]، وقوله : (وقال غيره: لا يثاب ولا يعاقب.) المراد بالخلق، وأن المراد بهم الثواب والعقاب ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)[سورة: النجم، الآية (31) .  ]، هـٰذه الآية فيها بيان المراد بالخلق، ما المراد بالخلق، ماذا يريد الله تعالى بخلقه؟ يريد الإثابة والعقاب، وما الذي يريده تعالى من الخلق ؟ العبادة، إذن هـٰذا معنى قوله رحمه الله: (لا يؤمر ولا ينهى،وقال غيره: لا يثاب ولا يعاقب) ودليل ذلك من الآيتين ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)[سورة: الذاريات، الآية (56)]، والثانية﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)[سورة: النجم، الآية (31)].

(وهما تفسيران صحيحان، فإن الثواب والعقاب مترتب على الأمر والنهي، والأمر والنهي هو طلب العبادة وإرادتها.).

ثم المؤلف رحمه الله ، يبين لنا حقيقة العبودية فيقول رحمه الله:

[المتن]

وحقيقة العبادة امتثالهما. ولهٰذا قال تعالى:﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هٰذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار[سورة: آل عمران الآية (191).] ،وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّابِالْحَقِّ[سورة: الحجر، الآية (85).   ]، ﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ[سورة : الجاثية الآية (22)   ]، فأخبر الله تعالى أنه خلق السمٰوات والأرض بالحق المتضمن أمره ونهيه وثوابه وعقابه.

فإذا كانت السمٰوات والأرض إنما خُلقت لهٰذا، -وهو غاية الخلق- فكيف يقال: إنه لا غاية له ولا حكمة مقصودة، أو: إن ذلك لمجرد استئجار العمال حتى لا يتكدّر عليهم الثواب بالمِنَّة؟ أو: لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية وارتياضا لمخالفة العوائد؟

وإذا تأمل اللبيب الفرق بين هٰذه الأقوال وبين ما دلّ عليه صريح الوحي علم أن الله تعالى إنما خلق الخلقَ لعبادته الجامعة لكمال محبته مع الخضوع له والانقياد لأمره..

[الشرح]

يقول رحمه الله: (وحقيقة العبادة امتثالهما.) أي امتثال هاتين الغايتين، (ولهٰذا قال تعالى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هٰذا بَاطِلاً[سورة: آل عمران الآية (191).     ] ،) أي ما خلقت هـٰذا سدى لا فائدة منه، فالباطل ما لا فائدة منه، ومنه ما في مسند الإمام أحمد من طريق عقبة بن عامر قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((كل لهو يلهو به المسلم باطل))معنى باطل ، أي لا فائدة منه، ثم ذكر استثناء إلا، ﴿مَا خَلَقْتَ هٰذا بَاطِلاً﴾ أي: لم تخلق هـٰذا سدى لا فائدة منه، وجاء التصريح بغاية الخلق في قوله: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ[سورة: الحجر الآية (85)    ]، فهـٰذا الخلق متضمن للحق الذي هو الأمر والنهي، والثواب والعقاب، قال: ﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ[سورة: الجاثية الآية (22) ] فهـٰذا بين أنه خلقه بالحق، أي مقترنا بالحق ﴿وَلِتُجْزَى﴾ أي ولأجل أن تجزى كل نفس بما كسبت، ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعليقا على ما تقدم ، (فإذا كانت السمٰوات والأرض إنما خلقت لهٰذا، -وهو غاية الخلق- فكيف يقال: إنه لا غاية له ولا حكمة مقصودة) كما تقوله من؟ من يقول بهـٰذا القول أنه لا غاية ولا حكمة من الخلق؟ الجبرية، (أو: إن ذلك لمجرد استئجار العمال حتى لا يتكدّر عليهم الثواب بالمِنَّة؟) وهـٰذا قول من؟ القدرية، (أو: لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية وارتياضها لمخالفة العوائد؟) وهو قول الفلاسفة، والصوفية الفلاسفة أيضا ، قال: (وإذا تأمل اللبيب الفرق بين هٰذه الأقوال وبين ما دلّ عليه صريح الوحي علم أن الله تعالى إنما خلق الخلقَ لعبادته الجامعة)، هـٰذه هي الغاية من الخلق، هـٰذه هي الحكمة من العبادات، (علم أن الله تعالى إنما خلق الخلقَ لعبادته الجامعة لكمال محبته مع الخضوع له والانقياد لأمره.) نسأل الله أن يسلك بنا هـٰذا السبيل، ثم قال رحمه الله:

[المتن]

فأصل العبادة محبة الله؛ بل إفراده تعالى بالمحبة، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب ما يحبه لأجله وفيه، كما يحب أنبياءَه ورسله وملائكته؛ لأن محبتهم من تمام محبته، وليست كمحبة من اتخذ من دونه أندادا يحبهم كحبه.

[الشرح]

 (فأصل العبادة محبة الله) أصلها، ومبعثها، وأسها الذي تُبنى عليه المحبة، المحبة هي عمود العبادة، وهي باعثها، ولذلك هي المحرك الأكبر لكل عمل، فكل عمل يصدر عن المحبة ، ومقرها من العبادة واضح جدا، يقول ابن القيم رحمه الله:

وعبادة الرحمـٰن غاية حبه

 

مع ذل عابده هما قطبان

وعليهما فلك العبادة دائر

 

ما دار حتى قامت القطبان

ومداره بالأمر أمر رسوله

 

لا بالهوى والنفس والشيطان

 

فالعبودية لله تعالى إنما تتحقق بالمحبة، وقد قال ابن القيم رحمه الله كما تقدم معنا في أول هـٰذا الكتاب:

فالقلب مضطر إلى محبوبه الـ

 

أعلى فلا يغنيه حب ثاني

وصلاحه وفلاحه ونعيمه

 

تجريد هـٰذا الحب للرحمـٰن

فإذا تخلّى عنه أصبح حائرا

 

ويعود في ذا الكون ذا هيمان

 

هكذا ضرورة القلب إلى محبة الله تعالى، والأدلة على هـٰذا كثيرة من الكتاب والسنة.

ثم بين المؤلف أن هـٰذه المحبة ينبعث منها حب كل محبوب لله تعالى، فإن من لازم محبة الله أن تحب كل ما يحبه الله ورسوله، يقول: (فلا يُحَب معه سواه)، يجب تجريد المحبة لله، وتجريد المحبة من فلاح القلب وصلاحه، (وإنما يحب ما يحبه لأجله وفيه) لأجل الله وفيه أي بسببه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، (فيه) هنا بمعنى السببية، قال: (كما يحب أنبياءَه ورسله وملائكته؛ لأن محبتهم من تمام محبته، وليست كمحبة من اتخذ من دونه أندادا يحبهم كحبه.).

ثم قال رحمه الله:

[المتن]

وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتّباع الأمر والنهي تتبينحقيقة العبودية والمحبة.

ولهٰذا جعل سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ اتباع رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علماً عليها وشاهداً لها، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ[سورة: آل عمران الآية (31).] ، فجعل اتباع رسوله مشروطاً بمحبتهم لله تعالى وشرطاً لمحبة الله لهم، ووجود المشروط بدون تحقق شرطه ممتنع، فَعُلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة للرسول.

ولا يكفي ذلك حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهو الإشراك الذي لا يغفره. قال تعالى:﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[ سورة: التوبة الآية (24).   ] ، وكلُّ مَن قدّم قولَ غير الله على قول الله، أو حكم به، أو حاكم إليه، فليس ممن أحبَّه.

لكن قد يشتبه الأمر على مَن يُقدّم قولَ أحد أو حكمه أو طاعته على قوله ظناً منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيطيعه، ويحاكم إليه، ويتلقى أقواله كذلك، فهٰذا معذور إذا لَم يقدر على غير ذلك.

وأما إذا قدِرَ على الوصول إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعرف أن غير مَن اتبعه أولى به مطلقاً أو في بعض الأمور كمسألة معينة، ولَم يلتفت إلى قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا إلى مَن هو أولى به، فهٰذا يُخاف عليه، وكل ما يتعلل به من عدم العلم، أو عدم الفهم، أو عدم إعطاء آلة الفقه في الدين، أو الاحتجاج بالأشباه والنظائر، أو بأن ذلك المتقدم كان أعلم مني بمراده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهي كلها تعللات لا تفيد.

هٰذا مع الإقرار بجواز الخطأ على غير المعصوم، إلا أن ينازع في هٰذه القاعدة، فتسقط مكالمته، وهٰذا هو داخل تحت الوعيد، فإن استحل مع ذلك ثلبَ مَن خالفه، وقرض عرضه ودينه بلسانه، أو انتقل من هٰذا إلى عقوبته، أو السعي في أذاه، فهو من الظلمة المعتدين ونواب المفسدين.

[الشرح]

هـٰذه الخاتمة متعلقة ببيان صحة ما ذكر المؤلف رحمه الله من أن الغاية من العبادات، هو تحقيق العبودية لله تعالى، والعبودية المقصودة هي كمال المحبة والخضوع والانقياد لله تعالى، قال رحمه الله: (فأصل العبادة محبة الله) ، ثم قال: (وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه) فكلما ازداد العبد في محبة الله تعالى، كلما ازداد العبد في العبادة والطاعة والإحسان، كلما علا نصيبه من محبة الله تعالى، وهـٰذه واضحة، وبه نعلم أن مقصود العبادة؛ هو التألّه وتحقيق العبودية لله تعالى، لأنه كلما زاد نصيبك من العبودية والعبادة، ارتفع سهمك من محبة الله تعالى، ويقول رحمه الله: (ولهٰذا جعل سُبْحَانَهُ اتباع رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علماً عليها وشاهداً لهاكما قال تعالى:﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ[سورة : آل عمران الآية (31).  ] ،) ثم قال: (فجعل اتباع رسوله مشروطاً بمحبتهم لله تعالى وشرطاً لمحبة الله لهم، ووجود المشروط بدون تحقق شرطه ممتنع)، يقول: (فَعُلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة للرسول.) وانتفاء المتابعة هو انتفاء العبودية، قال: (ولا يكفي ذلك حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) ، ثم ذكر الآية الدالة وجوب تقديم محبة الله على كل محبوب، وتقديم محبة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على كل محبوب من الخلق وتقديم أمر الله ورسوله على كل أمر غيره، فإن هـٰذا مقتضى المحبة، مقتضى المحبة التي هي تحقيق العبودية، أن لا تحب مع الله غيره، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ[سورة: البقرة الآية (165).]،لما أخلصوا حبهم له فاقوا غيرهم وتقدموا عليهم، وأما الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمحبتنا له من محبة رب العالمين كما تقدم، فلا تعارض ولا صدام بين محبة الرسول ومحبة الله لأن محبة الرسول من محبة الله، فمن صدق في حب الله جل وعلا، فقد أحب رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومحبة الرسول أمرها غريب وليست كسائر المحبات للخلق فإنها حبة مقدمة حتى على محبة النفس، كما جاء ذلك في الصحيح من حديث عبد الله بن هشام أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لعمر لما قال له والله يا رسول الله إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك))فقال عمر: الآن يا رسول الله أنت أحب إلي من نفسي. فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((الآن يا عمر))[البخاري: كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم (6632).] أي الآن كمل إيمانك لما كملت محبتك لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وجاء في الصحيح من حديث أنس ابن مالك أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين))[البخاري: كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، حديث رقم (13).مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، حديث رقم (45).] وهـٰذا يدل على تقدم محبة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على محبة سائر الخلق.

تأمل إذا كانت هـٰذه محبة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي فرع عن محبة الله فكيف تكون محبة الله، لا شك أنها أعظم بكثير ، والذي لله عز وجل ليس له مثيل، لا يمكن أن يمثل ما للخلق بما لله تعالى، أو ما لله بما للخلق، فالله جل وعلا ليس كمثله شيء في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، وانتبه للرابعة؛ ولا فيما يجب له في العبودية، ولا ما يجب له من الحقوق، فحقه جل وعلا ليس له نظير، محبة العبد لربه ليس لها مثيل حتى محبة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مع أنها على هـٰذه المنزلة والمرتبة لا تقاس بمحبة الله تعالى التي يجب أن تكون في أعلى المراتب.

يقول رحمه الله بعد أن ذكر الأدلة: (وكلُّ مَن قدّم قولَ غير الله على قول الله، أو حكم به، أو حاكم إليه، فليس ممن أحبَّه) صحيح إذا كان هـٰذا نفي لمحبة الرسول، فكيف بمحبة الله تعالى، يقول الله تعالى:﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65)﴾[سورة: النساء الآية (65).   ]فنفى الإيمان بالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا تحاكموا إلى غيره، فكيف بمن يتحاكم إلى غير الله جل وعلا ، وإلى غير رسوله أيضا لأن الرسول مبلغ عن الله، لا شك أنه لم يحقق المحبة وإن ادعاها وإن أقام الموالد وإن فعل ما فعل فإنه ليس صادقا في محبة الله ولا في محبة رسوله.

يقول رحمه الله: (لكن قد يشتبه الأمر) وهـٰذا فيه أنه يجب على العالم وطالب العلم أن يربي نفسه على طلب العذر للناس، ولذلك يقول: (لكن قد يشتبه الأمر على مَن يُقدّم قولَ أحد أو حكمه أو طاعته على قوله) أي قول الله، أو الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ظنا منه أنه لا يأمر لا يحكم ولا يقول، إلا ما قاله الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهـٰذا شأن المقلدة من أصحاب المذاهب، فإنهم يتبعون الأئمة ويقولون: لا نترك أقوالهم إلى غيرهم، لأنه لو كان حقا لقالوا به، ولو كان هدى لاتبعوه، فهم عندهم من الثقة بهؤلاء وأنهم لا يقولون بخلاف قول الرسول ولا يأتون بخلاف حكمه ما جعلهم يرون وجوب اتباعه، وأنهم لا يخرجون عن قولهم، قال رحمه الله: وهؤلاء بالنسبة لحالهم هل يعذرون أو لا، يقول المؤلف رحمه الله: (فهٰذا معذور إذا لَم يقدر على غير ذلك.) إذن هـٰذه منزلة المقلد وهو معذور إذا لم يكن قادرا على غير هـٰذا، أما من يقدر على معرفة الحق والوصول إلى قول الله وقول رسوله فإنه لا يجوز له أن يعدل عن ذلك إلى قول أحد من البشر كائنا من كان، لا يعني هـٰذا أن لا يستفيد من أقوال العلماء ولا يعتبرها، لا ، ويجب عليه أن يستمع إلى أهل العلم، فقد قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43)[سورة: النحل لآية (43).   ] ونحن نتعلم فلا بد أن نرجع إلى أهل الذكر ونفهم ما قالوا، ثم نميز بين ما قالوا لنعرف الأقرب إلى فهم كلام الله وكلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

يقول رحمه الله: (وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول وعرف أن غير من اتبعه أولى به مطلقا أو في بعض الأمور كمسألة معينة ولم يلتفت إلى قول الرسول ولا إلى قول من هو أولى به فهـٰذا يخاف عليه) أي يخاف عليه من الكفر، ويخاف عليه من المعصية، ويخاف عليه من الفسق على حسب ما يحصل له من البعد عن قول الله وقول الرسول، يعني إذا تبيّن له الحق من كلام الله وكلام رسوله ثم أعرض عنه، فإن هـٰذا على خطر عظيم على حسب حاله وعلى حسب المسألة التي أعرض فيها عن قول الله وقول رسوله لكن يدخل عموما في قول الله تعالى:﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا[سورة: طه الآية (124).   ]يقول: (وكل ما يتعلل به من عدم العلم، أو عدم الفهم، أو عدم إعطاء آلة الفقه في الدين، أو الاحتجاج بالأشباه والنظائر) وهو في الواقع قادر فإنه لا يعذره ذلك، قال: (أو بأن ذلك المتقدم كان أعلم مني بمراده، فهي كلها تعللات لا تفيد) ، هـٰذا مع الإقرار بجواز الخطأ على غير المعصوم ، فإن كان لا يقر بهـٰذا يقول أنه معصوم فعند ذلك تقع مشكلة، يقول: (إلا أن ينازع في هٰذه القاعدة) أي أنه يحتمل الخطأ على مقلده وإمامه، (فتسقط مكالمته)، وهـٰذا هو داخل تحت الوعيد.

في حال المقلد، إذا قلد الإنسان عالما وهـٰذه مسألة مهمة يقع فيها كثير، حتى من طلبة العلم المبتدئين تجده يستحسن قول عالم من العلماء، لا عن اجتهاد ونظر في الأدلة وموازنة إنما لكونه مثلا قلد هـٰذا العالم ووثق في قوله ورأى أن ما قاله صواب فتمسك به، تمسك بقول هـٰذا العلم، طيب: إذا تمسكت بقول هـٰذا العالم، هل يسوغ لك أن تذم من ترك قول هـٰذا العالم لدليل أو حتى تركه تقليدا لآخر؟ الجواب: لا، ولذلك قال: (فإن استحل مع ذلك ثلبَ مَن خالفه) أي من خالفه في تقليده (وقرض عرضه ودينه بلسانه، أو انتقل من هٰذا إلى عقوبته، أو السعي في أذاه، فهو من الظلمة المعتدين ونواب المفسدين.) ونواب المفسدين أي القائمين مقام أهل الفساد، فيجب على المؤمن أن يعرف أن المقلد ليس له أن يتوجه باللوم على فلان، أنا مثلا لست من أهل الاجتهاد، ورأيت قول فلان من العلماء مناسبا لعلمه أو لورعه أو لأي سبب من أسباب الترجيح، المهم أني رأيت أن أقلده لهـٰذا السّبب، فليس جائزا في حقي أن أنتقد من عدل إلى قول آخر من العلماء، فإن هـٰذا لا سوغ ولا يجوز، هـٰذه مسألة، لكن هنا مسألة أخرى تقترن بهـٰذه وهي ما إذا كان هـٰذا الذي أخذ قولا آخر خالف المفتى به على وجه العموم أو السائد في هـٰذا البلد عند ذلك المخالفة هنا لا لأجل المتابعة لعالم آخر؛ لكن لأنه خالف ما عليه أهل البلد، ولا شك أن عمل أهل البلد مقدم على أفراد رأوا قولا مخالفا، فعند ذلك لو أنكر فهو لا يعرف من الدين إلا هـٰذا، فلا حرج عليه لأنه لا يتصور أن هناك قولا أو دينا أو عملا يعبد به الله تعالى غير هـٰذا.

آخر ما ذكر المؤلف في هـٰذه الرسالة .

[المتن]

واعلم أنَّ للعبادة أربع قواعد.

[الشرح]

الآن المؤلف انتهى ، من بيان الغاية والحكمة من الأمر والنهي وأنها أي شيء يا إخواني، الغاية من العبادات ما هي؟ تحقيق العبودية لله تعالى بالمحبة والخضوع والانقياد له، طيب ، ما هي القواعد التي تبنى عليها العبادة؟ يقول: (واعلم أن أنَّ العبادة أربع قواعد).

[المتن]

واعلم أن أنَّ العبادة أربع قواعد، وهي:

التحقق بما يحب الله ورسوله ويرضاه، وقام ذلك بالقلب واللسان والجوارح. فالعبودية اسم جامع لهٰذه المراتب الأربع، فأصحاب العبادة حقًّا هم أصحابها.

[الشرح]

المؤلف فسر القواعد بمواضع الإيمان، الإيمان قول، وصدق، وعمل، أو قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح.

يقول رحمه الله: (واعلم أنَّ العبادة أربع قواعد، وهي:

التحقق بما يحب الله ورسوله ويرضاه) ، التحقق، يعني القيام، وتحقيق ، والعمل (بما يحب الله ورسوله ويرضاه، وقيام ذلك بالقلب واللسان والجوارح.) ثم يقول:(فالعبودية اسم جامع لهٰذه المراتب الأربع) التي هي التحقق بما يحب الله تعالى والقيام به في القلب واللسان والجوارح، (فأصحاب العبادة حقَّا هم أصحابها) يأتي الآن يفصّل لنا المؤلف -رحمه الله- مواضع العبادة أين تكون العبادة؟ يقول:

[المتن]

فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله تعالى عن نفسه، وأخبر رسوله عن ربه من أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه وماأشبه ذلك.

[الشرح]

هـٰذا قول القلب، طيب، وعمله سيأتي بعد قليل، إذن قول القلب هو الاعتقاد، اعتقاد أصول الإيمان أن يعقد قلبه على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هـٰذا قول القلب، اعتقاد أي عقد القلب على أصول الإيمان هـٰذا هو قول القلب.

 [المتن]

وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك، والدعاء إليه، والذب عنه، وتبيين بطلان البدع المخالفة له، والقيام بذكره تعالى، وتبليغ أمره.

[الشرح]

ويجمع هـٰذا، أشهد أن لا إلـٰه إلا الله، وأن محمدا رسول الله، هـٰذا قول اللسان، هـٰذا أصل قول اللسان الذي به يدخل دوحة الإيمان ويكون به من أهل الإسلام، وفروع هـٰذا كثيرة، يقول رحمه الله الإخبار عنه الإخبار عن هـٰذا الأصل الذي عقد عليه قلبه (والدعاء إليه) منزلة أخرى، (والذب عنه، وتبيين بطلان البدع المخالفة له، والقيام بذكره تعالى، وتبليغ أمره) نعم هـٰذا كله في قول اللسان، ويدخل فيه كل العبادات القولية.

[المتن]

وعمل القلب: كالمحبة له، والتوكّل عليه، والإنابة، والخوف، والرّجاء، والإخلاص، والصبر على أوامره ونواهيه، وأقداره، والرضاء به وله وعنه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والإخبات إليه، والطمأنينة، ونحو ذلك من أعمال القلوب التي فرضُها آكد من فرض أعمال الجوارح، ومستحبُّها إلى الله تعالى أحبُّ من مستحب أعمال الجوارح.

[الشرح]

يقول رحمه الله: (وعمل القلب: كالمحبة) أي محبة الله، ومحبة ما يحبه الله (والتوكّل عليه، والإنابة، والخوف، والرّجاء، والإخلاص، والصبر على أوامره ونواهيه، وأقداره، والرضاء به وله وعنه) أي الرضا له جل وعلا والرضا عنه، الرضا له أي أن ترضى لأجله جل وعلا (والموالاة فيه، والمعاداة فيه) هـٰذا لا شك أنه كله من عمل القلب الذي يعظم به قدر الإنسان، ويعلو به ثوابه عند رب العالمين، والموالاة والمعاداة هي ثمرة تمام المحبة ما يمكن أن يحب الإنسان الله تعالى محبة صادقة ثم يحب أعداءه، ثم لا يكره من يشتمه ويسبه ويتنقصه جل وعلا.

قال: (والإخبات إليه، والطمأنينة، ونحو ذلك من أعمال القلوب) ثم انتبه إلى هـٰذه، هـٰذه قاعدة مهمة يعني لعلى الإشارة إليها تكفي عن بسطها وهي مهمة، وهي أن جنس أعمال القلوب، أعلى وأكبر من جنس أعمال الجوارح، يعني هناك عمل للقلب وهناك عمل للجوارح، جنس أعمال القلوب أعلى من جنس أعمال الجوارح، سواء كان ذلك في الواجبات أو كان ذلك في المستحبات، فمثلا محبة الله تعالى أعظم بكثير من أعمال الجوارح، لو كان الإنسان مصليا بظاهره، محسنا بظاهره؛ لكن قلبه مجرد عن ذلك لا شك أن ذلك لا ينفعه شيئا، ولو كان صادقا في قلبه وليس عنده قدرة لا على صلاة ولا على زكاة ولا على إحسان هل ينفعه ما في قلبه أو لا ينفعه؟ ينفعه ما في قلبه ﴿مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ[سورة: النحل الآية (106).]، الآية عذرت من حال بين إظهار في قلبه وأن يكون ذلك ملموسا، وحال بينه وبينه مانع فعذره الله تعالى لوجود هـٰذا المانع، المقصود أن جنس أعمال القلوب أعظم أجرا وثوابا من جنس أعمال الجوارح، وأن جنس سيئات القلوب أعظم خطرا من جنس سيئات الجوارح.

[المتن]

وأما أعمال الجوارح:فكالصلاة، والجهاد، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك.

[الشرح]

نعم، كثير وكثير جدا من أعمال الجوارح ، وهي الأعمال التي تكون ظاهرة تقع عليها أنظار الناس، أو تقوم في البدن حتى ولو لم تظهر للناس.

[المتن]

فقول العبد في صلاته:  ﴿إِيَّاكَ نَعْبُد﴾ التزام أحكام هٰذه الأربعة وإقرار بها.

[الشرح]

يعني قول القلب، وقول اللسان ، وعمل القلب، وعمل الجوارح.

[المتن]

وقوله:﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ طلب الإعانة عليها والتّوفيق لها.

وقوله: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة: الفاتحة الآية (06)   ]،متضمن للأمرين على التفصيل، وإلهام القيام بهما، وسلوك طريق السالكين إلى الله تعالى.

والله الموافق بمنه وكرمه، والحمد لله وحده، وصلى اللهُ على مَن لا نبيَّ بعدَه وآله وصحبه ووارثيه وحزبه.

تم الكتاب بحمد الله الوهاب.

[الشرح]

 

الحمد لله، الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، بدأنا بالإحسان وتمم لنا هـٰذا الكتاب في هـٰذا الفصل أسأل الله جل وعلا أن يجعله علما نافعا وعملا صالحا، وأن يختم لنا وإياكم بالصالحات ، وأن يقرن آجالنا بالسعادات وأن يختم لنا بسائر العمل الصالح الذي يرضى به عنا .

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات94004 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات89900 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف