بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمدٍ وآله، قال الشيخ الفقيه الإمام الحافظ أبو الوليد الباجي رضيَ الله عنه ورحمه:
المقدمة:
يا بَنِيَّ، هداكما الله وأرشدكما ووفَّقكما وعصمكما، وتفضَّل عليكما بخيْر الدنيا والآخرة، ووقاكما محذورَهما برحمته. إنكما لَمَّا بلغتُما الحدَّ الذي قرُبَ فيه تعيُّنُ الفروضِ عليكما، وتوجَّه التكليفُ إليكما، وتحققتُ أنكما قد بلغتُما حدَّ مَنْ يفهمُ الوعظَ، ويتبيَّنُ الرُّشدَ، ويصلُحُ للتعليم والعلمِ، لزِمَني أنْ أقدِّمَ إليكما وصيتي، وأُظهِرَ إليكما نصيحتي، مخافةَ أنْ تختَرِمَني منيةٌ ولم أبلغْ مباشرةَ تعليمِكما وتدريبِكما، وإرشادكما وتفهيمكما.
فإنْ أنْسَأَ الله تعالى في الأجل، فسيتكرَّرُ النصح والتعليم والإرشاد والتفهيم، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ وعليه فليتوكلِ المتو«كلون، بيدِه قلوبُكما ونواصيكما.
وإنْ حال بيني وبين ذلك ما أتوقعُه وأظنُّه مِنَ اقترابِ الأجلِ، وانقطاعِ الأملِ، ففيما أرسمُه مِنْ وصيتي وأبيِّنُه مِنْ نصيحتي ما إنْ عملتُما به، ثبتُّما على منهاج السلف الصالح، وفزتُما بالمتجر الرابح، ونلتما خيْر الدنيا والآخرة، وأستودع اللهَ دينكما ودنياكما، وأستحفظه معاشَكما ومعادكما، وأفوِّضُ إليه جميعَ أحوالكما، وهو حسبي فيكما ونِعم الوكيل.
لا أحد أنصح للولد من والده، واعلما أنْ لا أحدَ أنصحَ مني لكما، ولا أشفقَ مني عليكما، وأنه ليس في الأرض مَنْ تطيبُ نفسي أنْ يفضُلَ عليَّ غيْرُكما، ولا أرفعُ حالاً في أمر الدين والدنيا سواكما.
وجوب طاعة نصح الأب:
وأقلُّ ما يوجب ذلك عليكما أنْ تُصيخا إلى قولي، وتتَّعظا بوعظي، وتتفهما إرشادي ونصحي، وتتيقنا أنِّي لم أنهكما عن خيْر، ولا أمرتكما بشرٍّ، وتسلكا السبيلَ التي نهجتها، وتتمثَّلا الحال التي مثلتها.
صلاح أهل بيت المؤلف
واعلما أننا أهلُ بيت لم يَخْلُ بفضل الله ما انتهى إلينا منه مِنْ صلاحٍ وتديُّنٍ وعفافٍ وتصاونٍ، فكان بنو أيوبَ بنِ وارثٍ، عفا الله عنا وعنهم أجمعين: جدنا سعد، ثم كان بنو سعدٍ: سليمان وخلف وعبد الرحمن وأحمد.
وكان أوفرُ الصلاح والتديُّنِ والتورُّعِ والتعبُّدِ في جدِّكم خلف؛ كان مع جاهِه وحاله واتِّساع ِدنياه، منقبضاً عنها، متقلِّلاً منها، ثم أقبل على العبادة والاعتكاف إلى أن توفي رحمه الله.
أخوة المؤلف
ثم كان بنو خلف: عمَّاكُما عليٌّ وعمرُ، وأبوكما سليمانُ، وعمَّاكما محمد وإبراهيم، فلم يكن في أعمامكما إلا مشهورٌ بالحج والجهاد والصلاح والعفاف، حتى توفي منهم على ذلك، عفا الله عنا وعنهم.
وكأنني لاحقٌ بهم وواردٌ عليهم، ويصير الأمر إليكما، فلا تأخذا غيْرَ سبيلهم، ولا ترضيا غيْرَ أحوالِهم، فإنِ استطعتما الزيادةَ، فلأنفسكما تَمهدان، ولها تبنيان، وإلا فلا تُقَصِّرا عن حالهم.
أول الوصايا: الإيمان بالله
وأول ما أُوصيكما به ما أوصى به إبراهيمُ بنيه ويعقوبُ: {يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132]. وأنهاكما عمَّا نهى عنه لقمانُ ابنَه وهو يعظه: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلمٌ عظيم} [لقمان:13] وأؤكد عليكما في ذلك وصيتي، وأكررها حرصاً على تعلُّقكما وتمسُّككما بهذا الدين الذي تفضَّل الله تعالى علينا به، فلا يستَزِِلُّكما عنه شيء من أمور الدنيا، وابذُلا دونَه أرواحَكما، فكيف بدنياكما؟ فإنه لا ينفع خيْرٌ بعدَه الخلودُ في النار، ولا يضرُّ ضيْرٌ بعدَه الخلود في الجنة. {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران: 85].