×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

نموذج طلب الفتوى

لم تنقل الارقام بشكل صحيح

المكتبة المقروءة / محاضرات / محاضرة تعوذوا بالله من الفتن

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

  الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فأعوذ بالله من الفتن، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يقبضنا إليه غير مفتونين.. بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار، على بغلة له؛ إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر، فقال: «من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟». فقال رجل: أنا، قال: «فمتى مات هؤلاء؟». قال: ماتوا في الإشراك، فقال: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه». ثم أقبل على من معه بوجهه فقال: «تعوذوا بالله من عذاب النار» قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: «تعوذوا بالله من عذاب القبر» قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: «تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن» قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: «تعوذوا بالله من فتنة الدجال» قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال +++ أخرجه مسلم (2867). --- . هذا الأمر النبوي المتكرر لأصحابه وهم في دار هجرته في المدينة، حيث أمنوا على أنفسهم ودينهم؛ يشعر بخطورة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يتعوذوا بالله منه؛ فإن استعاذة المؤمن من شيء لا تكون إلا من مرهوب، فلا تكون الاستعاذة إلا من مخوف، أي: من شيء يخاف؛ لأنها طلب الحماية، فعندما تقول: أعوذ بالله فالمعنى: أعتصم بالله، وأحتمي بالله، وألتجئ إلى الله، وأطلب العون والوقاية من الله، وهذا لا يكون في الغالب إلا فيما لا حيلة للإنسان في دفعه، فإن الإنسان يسعى إلى توقي الأضرار والسلامة من الشرور والآفات، وقد يوفق إلى ذلك، لكنه عندما يعتصم بالله عز وجل ينال من الوقاية من الأضرار والشرور ما لا يدرك بجهده وقوته وعمله، فإن ما يدفعه الله تعالى عن العبد بإيمانه وتقواه أعظم مما يدفعه بحوله وقوته.. لا حول ولا قوة إلا بالله. الفتن - أيها الإخوة - شيء يصرف الإنسان عن الحق إلى الضلال، وينقص دين الإنسان، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من الفتن، فقال: «تعوذوا بالله من الفتن». وقد يقول قائل: إن الناس كلهم مفتونون. فنقول: نعم، قال تعالى: {الم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} +++ العنكبوت: 1، 2 . --- . فما من أحد إلا وهو جار عليه فتنة، فليس منا إلا وهو مختبر.. إلا وهو ممتحن.. إلا وهو مبتلى، فمادة الحياة وموضوعها هو البلاء، قال تعالى:  {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} +++ الملك: 2 . --- ، وقال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} +++ الأنبياء: 35 . --- .  فما من أحد إلا وهو في ابتلاء واختبار وامتحان وفتنة.. لكن هذا الذي قضى الله تعالى وجعل سنن الكون عليه، وأجرى عليه حال الناس؛ ليس هو المطلوب في قوله صلى الله عليه وسلم: «تعوذوا بالله من الفتن». يعني عندما نقول: نعوذ بالله من الفتن فنحن لا نسأل الله عز وجل ألا يختبرنا، فما منا إلا وهو مختبر، لكننا نسأل الله عز وجل أن يقينا الصوارف التي تصرفنا عن الحق، ونسأل الله عز وجل عندما نقول: نعوذ بالله من الفتن ألا نسقط فيما نختبر به، سواء كان اختبارا خاصا أو عاما. ومن هنا نصل لمعنى الفتنة،  فما معنى الفتنة التي ترد في كلام الله، وفي كلام رسوله، وفي كلام أهل العلم؟ الفتنة: هي الاختبار، وقد جرت على كل إنسان، فما من إنسان إلا وهو مختبر، وكلنا سنفتن ونختبر في معاشنا وفي مماتنا، ولذلك نحن نتعوذ بالله من فتنة المحيا ومن فتنة الممات.. وليس التعوذ هنا بألا نختبر؛ إنما التعوذ ألا نسقط في الاختبار.. وهذا أمر لا بد أن يتضح؛ لأن بعض الناس يقول: كيف نستعيذ بالله من الفتن ونحن مختبرون! على كل حال، ما منا إلا مختبر، وكل لحظة في حياة الإنسان هي اختبار له، وكل موقف هو اختبار له؛ فإما أن يوفق إلى هدى وينجح، وإما أن يخذل فلا يوفق إلى ما يجب عليه في ذلك الموقف فيفتن. إذن الفتنة تطلق على الاختبار، وهذا لا سلامة لأحد منه، فموضوع الحياة هو الابتلاء والاختبار، لكن الفتنة تطلق أيضا ويراد بها نتيجة الاختبار، وهي إما السقوط في تلك الاختبارات، أو عدم التجاوز لما امتحن فيه الإنسان، وهذا هو الذي يستعيذ منه المؤمن عندما يقول: نعوذ بالله من الفتن، وهذا هو الذي يستعيذ منه المؤمن حين يقول في صلاته: أعوذ بالله من فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال. وفتنة المسيح الدجال إذا خرج لن تستثني أحدا، فكل أحد يبتلى به إلا من يعصمه الله عز وجل، وابتلاء الناس به نتيجته إما سلامة ووقاية ونجاة، وإما خذلان وانصياع واتباع لفتنته وشره. لذلك لنفهم عندما نقول: نعوذ بالله من الفتن ما الذي نستعيذ بالله منه؟ إننا نستعيذ بالله عز وجل - أيها الإخوة الأحباب - من السقوط في الفتنة، ومن الفشل، ومن أن يكلنا الله تعالى إلى أنفسنا، ومن ألا نوفق إلى ما يحب الله تعالى ويرضى في تلك الاختبارات. إن النبي صلى الله عليه وسلم نصح الأمة نصحا بينا ظاهرا في كل ما يخشاه عليها.. ومما كان يؤكد عليه صلى الله عليه وسلم الاستعاذة بالله من الفتن؛ كما تقدم في حديث زيد بن ثابت في القصة التي ذكرت في مسير النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم الاستعاذة بالله من الفتن كما يعلمهم السورة من القرآن؛ ففي الصحيح من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: قولوا: «اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» +++ أخرجه مسلم (590) . --- . إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في زمن كان بين أصحابه، وكان عصمة  لأصحابه رضي الله عنهم؛ فإن الله تعالى قال: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} +++ الأنفال: 33 . --- . وقد مضى صلى الله عليه وسلم، وبقيت الأمة بعده، فالعصمة بعده في التزام هديه والسير على طريقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. إن الفتنة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن واسعة وعريضة رغم كل الشدائد التي مر بها الصحابة في أول المبعث، لكن ما يأتي من الفتن بعد ذلك شيء عظيم مهول، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو يحدث الأمة ويخبرها بحالها: «إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه» +++ أخرجه مسلم (1844) . --- . أي: جعل سلامتها ووقاية الشرور في أولها. وقوله: «هذه هذه» أي: هذه التي سيدركه الهلاك بها. إن أمر الفتنة أمر عظيم، استشفه العلماء واستفادوه من كتاب الله تعالى ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يخلو كتاب من كتب السنة إلا وفيه باب أو كتاب مستقل عن الفتن وعما يتعلق بها وطريق الوقاية منها والسلامة. إن الفتنة - أيها الإخوة - لا تصيب الناس خبط عشواء، بل لها أسباب ولها مقدمات، متى ما جاءت هذه الأسباب أدرك الإنسان من الفتنة ما يدركه، ذاك أن الفتن يختبر فيها الناس ليرى إيمانهم، وليرى ما معهم من الصدق، وليرى ما ما معهم من الإقبال على الله والصبر على دينه. ولذلك السعيد من جنب الفتن، أي: وقي شرها، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر».+++ أخرجه أبو داود (4263) . --- . ولذلك كان الصحابة - رضي الله عنهم - يستشعرون الفتنة ويبادرون إلى المعالجة. وإليك هذا النموذج في قصة أبي طلحة رضي الله عنه: فإن أبا طلحة كان يصلي في حائطه، فطار دبسي +++ طائر يشبه اليمامة --- فطفق يتردد، يلتمس مخرجا، فأعجبه ذلك، فجعل يتبعه بصره ساعة، ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لا يدري كم صلى، فقال: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة. فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة وقال: يا رسول الله، هو صدقة لله، فضعه حيث شئت +++ أخرجه مالك في الموطأ (69) . --- . تصدق بالبستان لأنه شغله عن صلاته بتتبع طائر تنقل بين أغصانه وأشجاره.. فهذا الحس المرهف، وهذا الاستشعار الدقيق، وهذه المبادرة لمعالجة الفتنة من أوائل ظهور علاماتها من توفيق الله عز وجل للعبد.. فهذا الصحابي الكريم - رضي الله عنه - أشغله هذا النظر، وهذا الإعجاب بسعة مزرعته، وتنقل الطير فيها، حتى وقع في نفسه ما وقع، فانصرف عن صلاته، فرأى أنه لا خروج له من هذه الفتنة إلا بأن يتخلص مما فتنه وصرفه عن لقاء ربه! الله أكبر! ما أطيب تلك القلوب! إنها قلوب حية، قلوب ترجو ما عند الله عز وجل، قلوب نفذت ببصائرها إلى الدار الآخرة، فكان غاية مناها بلوغ ما عند الله عز وجل، فمهما خسروا قبل ذلك، ومهما خلوا قبل ذلك، فهم فيه رابحون - «ربح البيع يا صهيب» كما قال النبي صلى الله عليه وسلم +++ أخرجه الحاكم في المستدرك (5706) --- - ذاك نظر لا يكون إلا لمن صدق إيمانه باليوم الآخر، فإنه من صدق إيمانه باليوم الآخر هانت عليه الدنيا كلها؛ لأنه يعلم أن ما عند الله خير وأبقى. الفتن أيها الإخوة أول ما تعلق فإنها تعلق بالقلوب، فإذا كانت القلوب سليمة صحيحة راشدة نقية طاهرة  طيبة سلمت من الفتن، وكانت كحال أبي طلحة في فتنته ومعالجة انصرافه، وإذا كانت القلوب غافلة مريضة أو حتى ميتة تمكنت منها الفتنة فزادتها هلاكا وفسادا. ولهذا محور النجاح، ومفتاح النجاح في الفتن هو ما في صدرك، وما بين جنبيك؛ القلب، أصالح هو فأبشر بالنجاة، أم فاسد هو فتدارك نفسك قبل الهلاك. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح من حديث حذيفة: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه» +++ أخرجه مسلم (144) --- . فما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عضوا آخر، وما ذكر سمعا ولا بصرا ولا بدنا، إنما ذكر أول ما ذكر المحور والمركز الذي تعرض عليه الفتن، فمتى كان مقدم الجيش قويا انصدت الفتنة وانخذلت، وإذا أسر القلب وكان ضعيفا أسر البدن. ولذلك يجب على المؤمن في مقابلة كل فتنة عامة أو خاصة أن ينظر إلى قلبه، فإن كنت ذا قلب سليم فأبشر فالنجاة تلوح في الأفق، وإن كنت ذا قلب مريض أو قلب ميت فتدارك نفسك قبل أن تزداد هلاكا وموتا، فإن القلوب هي مراكب النجاة زمن الفتنة، و أشبه ما يكون بالسفينة التي يخرق بها الإنسان عباب أمواج الفتن المتلاطمة، فإذا كانت قوية متينة محكمة صالحة نجا، وإلا هلك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا» ثم ذكر انقسام القلوب في هذه الاختبارات، فالفتن هنا هي الاختبارات، والنتيجة واحدة من اثنتين؛ فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب ردها واستفاق من خطرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير القلوب مع توالي هذا الاختبار إلى قلبين؛ أسود مربادا كالكوز مجخيا؛ أي: كالكوب مقلوبا، لو صببت فيه من اليوم إلى غد ماء لم يدخله شيء، بمعنى أنه يختم عليه ويطبع، ولا ينتفع بشيء من الذكر ولا من الهدى ولا من الوحي، فالماء في حياة الأبدان يشبه الوحي في حياة القلوب، أتحيا الأبدان بلا ماء؟ لا، كذلك القلوب لا تحيا بلا هدى، وإن كان الكوب مقلوبا فإنه لن يدخله ماء، كذا القلب إذا كان منكوسا فإنه لن يقبل هدى، ولن ينتفع بوعظ، ولن يجري فيه خير، وهذا هو القلب الذي أشرب الفتن.. ولا يلزم أن يكون هذا من أول اختبار، إنما هذا من اختبارات متوالية متعاقبة يتلو بعضها بعضا، ونهاية تلك الاختبارات هو أن يكون القلب على هذه الحال؛ كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا. أما القسم الثاني «على أبيض مثل الصفا» فهذا لون وقوة؛ مثل الصفا؛ أي الحجر في قوته ورده للواردات وصده للفتن القادمة إليه، لا تضره فتنة، فهكذا تكون القلوب بعد عرض الفتن عليها، فشبه عرض الفتن على القلوب شيئا فشيئا بعرض عيدان الحصير، وهي في تواليها تشكل حال القلب من الاستقامة والانحراف. إن الفتن ألوان وأشكال، وما يفتن زيدا قد لا يفتن عبيدا، وما يفشل فيه فلان قد لا يفشل فيه آخر، ولذلك ليست الفتنة واحدة في حال الناس كلهم، بل مختلفة، فمن الناس من فتنته المال، ومنهم من فتنته النساء، ومنهم من فتنته الجاه، ومنهم من فتنته المناصب، ومنهم من فتنته الولد، ومنهم من فتنته العقار، ومنهم من فتنته الأسهم... فهذه أشكال وألوان في صور الفتن ونماذجها، فمن سلم من فتنة فقد لا يسلم من الأخرى، لذلك ينبغي أن يعرف أن الفتن لا تنحصر في لون واحد. وفي الجملة الفتن نوعان: فتن شبهات وفتن شهوات. فلو أردنا الحصر الإجمالي للفتن وصنوفها وأنواعها وجدناها تندرج تحت مظلتين؛ فتن الشبهات، وفتن الشهوات. والفرق بينهما أن فتن الشبهات تتعلق بالعلم والمعرفة، وأما فتن الشهوات فتتعلق بالإرادة والقصد والرغبة.  وكلاهما خطر على القلب، وكلاهما مفسد للقلب إذا استسلم له الإنسان وبلي به، لكن فتن الشبهات أعظم خطرا وأشد إفسادا للقلب من فتن الشهوات، وكلاهما من أسباب هلاك القلب وفساده، وهو ما يوجب وقاية القلوب من هذا وذاك. واليوم حياة الناس مليئة بالنوعين من الفتن؛ فتن الشبهات بالأفكار المنحرفة، والآراء الصادة عن دين الله عز وجل من التشكيك والتشبيه والمعارضة لشرع الله تعالى والطعن في أحكام الشريعة، والنيل من أولياء الله عز وجل، والاستهزاء بالصالحين، وما أشبه ذلك من قائمة طويلة تتعلق بالشبهات. أما القسم الثاني من الفتن التي ملئت بها حياة الناس اليوم، ففتن الشهوات بشتى صورها، سواء كان ذلك في مال، أو في في نساء، أو انحرافات عملية وسلوكية، فكل ذلك مندرج تحت فتن الشهوات، وهما مما يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تعوذوا بالله من الفتن». قولوا يا إخواني: نعوذ بالله من الفتن؛ فإنه لا نجاة لكم إن لم يعصمكم الله ويحمكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن. إن الوقوع في الفتنة ليس خبط عشواء، فالوقوع في الفتنة له أسباب، فلا يفتن الإنسان ويقع في فساد القلب وفساد العمل دون سبب، بل لا بد من أسباب. لقد خلق الله تعالى الخلق على الفطرة، وهي محبة العبادة والإقبال عليها، قال صلى الله عليه وسلم : «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه» +++ أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658)  --- . فكل إنسان مجبول على محبة الله في أصل الخلقة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم +++ (2865) . --- من  حديث عياض بن حمار: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم». حنفاء: أي على الجادة مائلين عن الشرك، وعن الفساد وعن الانحرف. فاجتالتهم الشياطين: أي صرفتهم، وأخذتهم يمينا وشمالا، وأخرجتهم عن الصراط المستقيم، أي: صرفتهم عن طريق الهدى إلى أنواع الانحرافات وسبل الغواية والضلال. فقوله: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» أفادنا هذا أن الأصل في الناس الاستقامة، وأن الأصل في الخلق الهداية، ثم الناس بعد ذلك ينشئون على أنواع من الصوارف تصرفهم عن طريق الاستقامة. وأعظم أسباب الانصراف عن الهدى:  قبول القلب للفساد؛ فإن القلب إذا كان مستعدا للفساد متهيئا لقبوله انصرف عن الحق والهدى، ولذلك في حديث حذيفة الذي ذكرته في عرض الفتن على القلوب قال صلى الله عليه وسلم: «فأي قلب أشربها» تصور هذا المنديل إذا أحضرنا له هذا الماء ووضع فيه تبلل وتشرب وسحب من الماء على قدر حجمه، فكذلك القلوب في الفتن إذا كانت متهيئة ليست متحصنة بالله عز وجل أشربت الفتن كما شرب هذا المنديل الماء، وتتخلل جميع أجزاء القلب، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، هذه النكتة هي غلاف على القلب يتبعه آخر، ويتبعه آخر، حتى يصبح القلب مغلفا بطبقة السواد التي تحيط به نتيجة المعاصي والسيئات. إذن الفتن لا تصيب القلوب بالفساد إلا إذا كانت القلوب متهيئة، وإلا إذا كان في القلوب إقبال واستعداد لتشرب تلك الفتن، أما القلوب الحية فإنها ترد الفتنة، ولذلك أيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها وردها بصلابته وقوته نكتت فيه نكتة بيضاء. إذن الفتن لا بد في عرضها على القلوب أن تترك أثرا؛ إما أثرا سيئا رديئا بأن يشربها القلب وتترك فيه نكتة سوداء، أو تترك أثرا طيبا فيكون في القلب من أثر طاعة الله عز وجل لذة الإيمان التي تنعكس على القلب بياضا ونصاعة. فهذا هو السبب الأول من أسباب الوقوع في الفتنة: استعداد القلوب. كذلك الاستشراف لها، أي: التعرض للفتنة، سواء كانت فتنة خاصة أو فتنة عامة، فالذي مثلا يدخل إلى المواقع الإباحية يقول: أرى؛ هذا عرض نفسه للفتن، والذي يذهب لأماكن الشر والفساد العملي هذا عرض نفسه للفتنة، والذي يقرأ الكتب المنحرفة التي فيها الأفكار المعارضة للشريعة والمكذبة للدين هذا عرض نفسه للفتنة.. فهذه كلها أنواع من الاستشراف، واليوم يقال: دع الناس يطلعون، دعهم يرون، دعهم يدرون! حسنا لا بأس أن يقرءوا وأن يطلعوا، لكن إذا كانوا ذوي قدرة وبصر، أما أن تدخل من لا يحسن السباحة في موج متلاطم وتقول له: اسبح ودعه يتعلم السباحة، فأنت تحكم عليه بالغرق، فليس صحيحا أن يفتح الباب للناس وأن يقال: هيا ادخلوا، خذوا ما شئتم، أنتم الآن بلغتم عقلا ورشدا وتستطيعون أن تأخذوا النافع من الضار، فهذه فرضية ليست صحيحة، وهي تماما كما لو ذهبنا جميعا الآن للبحر، ومنا من يعرف السباحة ومنا من لا يعرف السباحة، وركبنا السفينة، فلما توسطنا قلنا: الجميع يلقي بنفسه في البحر، من يعرف ومن لا يعرف السباحة، فمن لا يعرف السباحة يتعلم، ومن يعرف السباحة فالحمد لله سيقي نفسه.. فهل هذا من الحكمة في شيء؟ وهل هذا رشد؟ أليس هذا إلقاء بالنفس إلى التهلكة؟ كل أحد يقول: نعم هذا إلقاء بالنفس إلى التهلكة، لكن في موضوع الديانة أن نفتح للناس كل أبواب الفساد، وكل أبواب الشر، سواء كان الشر العملي السلوكي الأخلاقي، أو الشر الفكري العقدي نقول: لا هم يميزون ويعرفون، دعهم يرون حتى يعرفوا الخير من الشر. أقول: غير صحيح فتح أبواب الشر للناس بدعوى قدرتهم على التمييز، فنحن في هذه الحال كمن أشعل النار في قش وتركه وقال: سينطفئ من نفسه، أو سيتوقى الناس شره بكل سبيل من سبل التوقي.. إن من الغلط أن تعرض نفسك للهلاك؛ ففي مسند أحمد +++ (15156) . ---  أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب ، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب وقال: «أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟!». والتوراة من أشرف كتب الله عز وجل بعد القرآن، ولم يأت ذكر كتاب في القرآن مثلما جاءت التوراة، ولذلك هو أعظم كتاب أنزله الله على رسول بعد القرآن، إلا أنه كتاب جرى فيه من التحريف والتعديل والتبديل والتغيير ما جرى فأصبح لا يعرف فيه الحق من الباطل. وأثقل الناس إيمانا بعد النبي في الأمة وبعد أبي بكر: عمر رضي الله عنه، ومع ذلك أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم مطالعته لهذه الكتب لما فيها من الانصراف عن الهدى الخالص، ولما فيها من تعريض النفس لضلالات وانحرافات الإنسان غني عنها. فينبغي للمؤمن أن يبعد نفسه عن الفتن، سواء كانت فتن شهوات أو فتن الشبهات. ولذلك كان من علامات الآخرة ودلائل قرب الساعة أن يفر المؤمن بدينه من الفتن  عندما تكثر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في أعظم فتنة، وهو الدجال: «من سمع بالدجال فلينأ عنه» أي: يبعد عنه فلا يقول: آتي وأحاجه وأبطل قوله، «فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه، مما يبعث به من الشبهات»، +++ أخرجه أبو داود (4319) . --- . وهذا فيه الخوف على الإيمان، لذلك لا تعجب حين يأتي خبر عن سعيد بن المسيب أن رجلا أتاه فقال: أقرأ عليك آية من أهل البدع فيقول: ولا آية. حتى القرآن لا يسمعه من المبتدع خشية أن يكون في ذلك ضرر أو ضلال. ويأتي آخر لمالك بن أنس - رضي الله عنه - فيقول: أريد أن أناظرك، قال: اذهب فابحث عن دينك فإني قد هديت. ويمتنع عن مناظرته.. كل هذا لأجل النأي بالنفس عن الفتن. والآن نحن حصيلتنا ضحلة في غالب أمور الشريعة، هذا هو المستوى العام، وتجد الواحد منا يقلب في القنوات يبحث عن مناظرة سني مع رافضي ، ومسلم مع نصراني، يقول: أرى وأعرف، نقول: لا بأس إن كنت على حصيلة جيدة ومعرفة بالصواب من الخطأ والقواعد، لكن عندما تقدم وتدخل هذا البحر دون أن يكون عندك معرفة، ولا بصيرة، ولا قواعد متينة تبني عليها فأنت تعرض نفسك للهلاك. وأضرب لذلك مثالا كلنا يتفق عليه: الآن هل يدخل أحدنا الحجر الصحي الذي يحجر فيه على المرضى مرضا معديا ويقول: ما يضر أن أدخل وأرى المرضى وأخالطهم مع أنهم محجورون صحيا؟ لا. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فر من المجذوم فرارك من الأسد» +++ أخرجه أحمد (9722) --- وهو مرض عضوي، إذا ابتلي به الإنسان فصبر كان له من الأجر عند الله ما يكتبه للصابرين. والأمراض الإيمانية القلبية أعظم خطرا، ولذلك كانت الوقاية منها أكبر وأوجب وألزم لمن يحافظ على دينه وإيمانه، ولهذا جاء التحذير في كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن التعرض للفتن فقال: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به» +++ أخرجه البخاري (7081)، ومسلم (2886) . --- . فمراتب التورط في الفتنة ( قعود - قيام – مشي – سعي)، وكلما كنت أبعد عن الفتنة كنت أسلم في دينك وكنت أقرب إلى الخير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر مراتب الناس : «من تشرف لها تستشرفه» أي: من تعرض لها تستذله وتأخذ بقلبه. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به». وبهذا يصون الإنسان نفسه من الفتنة. وهنا نقول: إن من غفل عن أسباب الهداية كان ذلك موقعا له في الفتن، فالذي يقصر في أسباب الهداية من الأذكار، وقراءة القرآن، والصلاة، وسائر الواجبات الشرعية، كان ضعيف القلب، وإذا ضعف القلب تعرض للفتن، وتوالت عليه أنواع الصوارف التي تصرفه عن الحق، لذلك كان من الضروري للمؤمن أن يأخذ بأسباب الهداية، وأن يستكثر من أصحاب الصلاح، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث معقل بن يسار: «العبادة في الهرج كهجرة إلي» +++ أخرجه مسلم (2948) . --- يعني العبادة في زمن الفتنة كهجرة إلي، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا اشتغل الإنسان بالعبادة زمن الفتن وكثرة الفساد في الناس فهو في الأجر كما لو هاجر إليه صلى الله عليه وسلم زمن الهجرة المشروعة، هذا في الأجر، وهو في الصيانة والأمان على دينه كما لو هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فالعبادة زمن الفتن والشرور تثبت القلب، والمقصود العبادة بمفهومها العام؛ عبادة القلب، وعبادة البدن؛ بالاشتغال بالواجبات والمستحبات، والإقبال على الله تعالى، وكثرة الدعاء، وكثرة الذكر، فكلها مثبتات للقلوب، فإذا اشتغل بها الإنسان توقى شر الفتن وحفظ منها وصان الله  تعالى قلبه من الضلال. إن ما ذكرته هو مجمل ما ترجع إليه أسباب الفتنة، فأسباب الفتنة إما أن تكون استعداد القلب أو الاستشراف، وإما أن تكون للتقصير في أسباب الهداية، فإن التقصير في أسباب الهداية يوقع في الانحراف والضلال. أسباب الوقاية من الفتن: إن من أسباب الوقاية من الفتن: اللجوء إلى الله، وصدق الإقبال عليه، والتضرع بين يديه، ولذلك كان الدعاء بالسلامة من الفتنة كثيرا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يعلم أصحابه الدعاء الذي يسألون الله تعالى فيه الوقاية من الفتن كما يعلمهم السورة من القرآن، وهذا يظهر لنا أهمية هذا الدعاء وحاجة الناس الماسة إلى أن يسألوا الله تعالى أن يصونهم وأن يحفظهم وأن يقيهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن. ومن أسباب الوقاية من الفتن: الإنابة إلى الله عز وجل، والإنابة إلى الله عز وجل بكثرة التوبة وكثرة الاستغفار، فكثرة التوبة والاستغفار تكسب القلب قوة وتكسبه صلاحا واستقامة، وبذلك يتوقى الفتن. ومن أسباب الوقاية من الفتن: المبادرة للأعمال الصالحة، لذلك جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال» أي: الأعمال الصالحة «فتنا كقطع الليل المظلم» +++ أخرجه مسلم (118) . --- ؛ كقطع الليل البهيم الذي لا يرى فيه شيء؛ لأنه مظلم شديد الظلمة. والذي يعينه على الرؤية في هذا الظرف هو صلاح عمله، فانظر إلى عملك وصلتك بالله عز وجل، وبادر إلى الصلاح والاستقامة، وحافظ على الصلوات، فالصلاة نور، والله تعالى قد جعل هذا النور في اليوم خمس مرات زادا تستزيد به؛ مثال ذلك الجوالات، فإذا انتهى الشحن فإنك تزيد الشحن بوضعها في موضع الشحن، كذلك القلوب تحتاج إلى شحن حتى يكون نورها مضيئا يميز به الإنسان بين الحق والباطل. وتشحن القلوب بالطاعة والإحسان.. فهذه الصلوات محطات يقف فيها الإنسان ليتزود، فكلما زادت صلاتك، وصلحت صلاتك، ازداد نورك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الصلاة نور» +++ أخرجه مسلم (223) --- فاستقل واستكثر، والنور يميز به الإنسان بين الحق والباطل، ويكشف الله تعالى به مواطن الضلال ويهديه به سبل السلام. ومن أسباب الوقاية من الفتن: التقوى؛ فإن الله تعالى قد أمر المؤمنين بالتقوى فقال: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} +++ الأنفال: 25 --- . ووعد المتقين بالمخرج من كل ضيق؛ قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب} +++ الطلاق: 2، 3 --- ، وتقوى الله تجلب للإنسان الخير وتصرف عنه الشر. ومن أسباب الوقاية من الفتن: الاستجابة لله ولرسوله؛قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} +++ الأنفال: 24 --- . ومن أسباب الوقاية من الفتن: لزوم السنة؛ فكلما ازداد الإنسان لزوما للسنة وإقبالا عليها؛ كان ذلك من دواعي سلامته من الفتن الظاهرة والباطنة. ومن أسباب الوقاية من الفتن: دعاء الله صادقا بكل دعاء يهدى به إلى الرشد ويتوقى به من الشر، فيكون ذلك من أسباب وقايته من الفتن، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «تعوذوا بالله من الفتن». ومن أسباب الوقاية من الفتن: الخوف من الفتنة، وعدم الأمن من مكر الله، فهو من أسباب الوقاية من الفتن والهداية، ولذلك كان من دعاء الصالحين والنبيين الصادقين أن يتوفاهم الله تعالى على الإيمان، فهذا يوسف عليه السلام يقول: {توفني مسلما وألحقني بالصالحين} +++ يوسف: 101 . --- ، وإبراهيم عليه السلام يدعو الله أن يقيه شر الأصنام وعبادتها فيقول: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} +++ إبراهيم: 35 . --- . فلا تأمن على نفسك من الفتنة، فالخوف من الفتن سبيل عظيم للوقاية منها؛ قال تعالى: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} +++ الأعراف: 99 --- . بقي علينا شيء يسير مما يتعلق بالأسباب التي يتوقى بها الإنسان الفتن.. ذكرنا جملة من الأسباب ومن أبرزها: أن يدعو الإنسان الله عز وجل صادقا أن يقيه من الفتن، فإذا قلت في آخر الصلاة: «اللهم إني أعوذ بك من  عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» بقلب حاضر فأبشر بعطاء الله عز وجل؛ فإن الله لا يخيب من اعتصم به والتجأ. وكثير من الناس يقولون الأذكار والأدعية دون تأمل ولا فكر ولا اعتبار ولا حضور قلب، فتكون ككلام يقوله دون أثر ولا يكون له نفع، فقد يؤجر عليه أجر الذاكر بلسانه، لكن لا يتذوق طعمه ولا يعرف منزلته ولا يجني ثماره إذا لم يكن ذا قلب حاضر. لذلك تنبه وكن على فطنة أن كل ذكر تقوله أو كل دعاء تقوله دون حضور قلب فإن أثره ضعيف، تماما مثل السهم الذي في يد ضعيف الرمي لا يصل إلا إلى مدى قريب، لكن إذا كان ذا رمي قوي وبنفس السهم فإنه يصل إلى آخر المرمى، والفرق بين هذا وذاك في قوة الرامي، فإذا قلت: أعوذ بالله من الفتن فليتحرك قلبك قبل أن يتحرك لسانك، ليحضر قلبك في معنى هذا الدعاء قبل أن تنطق به وأنت غافل، فإن ذلك من دواعي حصول الإجابة والتوفيق إلى الهداية. ومن أسباب توقي الفتن أن يكثر المؤمن ذكر هادم اللذات، أي: ذكر الموت، والنفاذ بالبصر إلى الآخرة، فإن هذا من أعظم أسباب الوقاية من الفتن؛ لأنه يذكر أنه سيقف بين يدي الله تعالى، وسيسأله عن الدقيق والجليل، وسيحاسبه على ما كان منه من عمل، فيكون ذلك حاملا له على الاستقامة، وحاملا له على الهداية، ومعينا له على مراجعة المسار وتصويب الخطأ وتقويم المعوج والاستزادة في الخير. ومن الأسباب العظيمة التي بها تحصل النجاة من الفتن: الإقبال على القرآن العظيم، فبقدر ما يكون معك من الإقبال على كتاب الله عز وجل، بقدر ما تحيا روحك ويسلم قلبك، ويستنير فؤادك، وتبصر مواقع الهدى، وتخرج من الظلمات إلى النور، يقول الله عز وجل في وصف رسوله: {يخرجهم من الظلمات إلى النور} +++ البقرة: 257 --- أخرجهم بهذا الكتاب المبين، هذا النور العظيم الذي جعله الله تعالى رسالة لكل واحد من البشر، فكل واحد منا بين يديه رسالة من الله جل في علاه، فبقدر ما يقبل على القرآن تلاوة، وحفظا، وفهما، وتدبرا، وعملا، ودعوة، ينال من الهداية، ويتوقى سبل الردى والضلالة. ولذلك نعجب أن كثيرا من الناس يقرءون القرآن لكنهم لا يجدون له أثرا في سلوكهم، بسبب أن إقبالهم محصور على حروفه دون معانيه، وعلى قراءته دون العمل به، فيكون القرآن ضعيف الأثر.. والقرآن من عظيم تأثيره أن رب العالمين يقول فيه:  {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا} +++ الرعد: 31 . --- . هذه الآية تبين عظيم تأثير القرآن، ومعنى الآية أنه لو أن هناك شيئا يقرأ ويتلى، فتتحرك به الجبال، أي: تسير، أو تقطع به الأرض على عظيم صلابتها، أو يخاطب به الموتى فيقومون ويتكلمون، لو كان هناك شيء يفعل هذا التأثير لكان هذا القرآن، فالقرآن له من التأثير العظيم ما بينه رب العالمين في هذه الآية. وقال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} +++ الحشر: 21 --- . فكيف بقلوبنا! أين أثر القرآن فيها؟ غائب في كثير من الأحيان، والسبب أن القرآن قد غفل عنه، ثم إذا قرئ فإنه تقرأ ألفاظه دون فهم معانيه، وإذا قرئ كان في اللسان دون أن يكون في القلب والجوراح، وبالتالي ضعف أثره. إن القرآن أعظم أسباب الهداية، ولذلك يقول الله لرسوله: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا} +++ النحل: 102 --- . فالقرآن تثبيت للقلوب، وفيه من القصص والأخبار ما يجعل القلوب في غاية الحضور، قال تعالى: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} +++ هود: 120 . --- . يثبت الفؤاد، ويحفظه من المزلزلات والمزيغات والمضلات، كل ذلك من فضل الله عز وجل. والمؤمنون الصادقون تتحرك قلوبهم عندما يستمعون إلى القرآن، قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} +++ الأنفال: 2 --- . وأعظم ذكر الله تلاوة آياته، هكذا يكون المؤمن مع القرآن في زيادة وخير، أما من يقرؤه فلا يجد له أثرا في سلوكه ولا في عمله، فذاك المنقوص الذي يصد عن القرآن إما غافلا أو خاسرا. ومن أسباب الوقاية من الفتن: التحلي بالصبر، ولذلك كان أعظم ما يعطاه العبد الصبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر» +++ أخرجه البخاري (1469)، ومسلم (1053). --- . فعطاء الصبر أعظم عطاء يعطيه الله تعالى العبد ويوفقه إليه؛ لأنه بالصبر يتوقى الشبهات، وبالصبر يتوقى الشهوات، وبالصبر يقوم بالطاعات، وبالصبر يتوقى السيئات، وبذلك يبلغ أعلى الدرجات،  فيكون من الذين قال فيهم جل في علاه: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} +++ الزمر: 10 . --- . هذه جملة من المسائل التي تتعلق بالتعوذ بالله من الفتن. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيذنا وإياكم من الفتن، وأن يرزقنا وإياكم قلوبا سليمة، وأن يحفظنا وإياكم فيما بقي من أعمالنا، وأن يغفر لنا ما كان من الخطأ والزلل، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.  

المشاهدات:14431
 

الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأعوذ بالله من الفتن، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يقبضنا إليه غير مفتونين.. بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ، عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ؛ إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا أَقْبُرٌ، فَقَالَ: «مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟». فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: «فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟». قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ». ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ مَعَهُ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ» قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، قَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ أخرجه مسلم (2867). .

هذا الأمر النبوي المتكرر لأصحابه وهم في دار هجرته في المدينة، حيث أمِنوا على أنفسهم ودينهم؛ يُشعِر بخطورة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يتعوذوا بالله منه؛ فإن استعاذة المؤمن من شيء لا تكون إلا من مرهوب، فلا تكون الاستعاذة إلا من مَخُوف، أي: من شيء يُخاف؛ لأنها طلب الحماية، فعندما تقول: أعوذ بالله فالمعنى: أعتصم بالله، وأحتمي بالله، وألتجئ إلى الله، وأطلب العون والوقاية من الله، وهذا لا يكون في الغالب إلا فيما لا حيلة للإنسان في دفعه، فإن الإنسان يسعى إلى توقي الأضرار والسلامة من الشرور والآفات، وقد يُوفَّق إلى ذلك، لكنه عندما يعتصم بالله عز وجل ينال من الوقاية من الأضرار والشرور ما لا يدرك بجهده وقوته وعمله، فإن ما يدفعه الله تعالى عن العبد بإيمانه وتقواه أعظم مما يدفعه بحوله وقوته.. لا حول ولا قوة إلا بالله.

الفتن - أيها الإخوة - شيء يصرف الإنسان عن الحق إلى الضلال، ويَنقُص دين الإنسان، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من الفتن، فقال: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ».

وقد يقول قائل: إن الناس كلهم مفتونون.

فنقول: نعم، قال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} العنكبوت: 1، 2 . .

فما من أحد إلا وهو جارٍ عليه فتنة، فليس منَّا إلا وهو مختبَر.. إلا وهو ممتحَن.. إلا وهو مبتلًى، فمادة الحياة وموضوعها هو البلاء، قال تعالى:  {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} الملك: 2 . ، وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} الأنبياء: 35 . .  فما من أحد إلا وهو في ابتلاء واختبار وامتحان وفتنة..

لكنَّ هذا الذي قضى الله تعالى وجعل سنن الكون عليه، وأجرى عليه حال الناس؛ ليس هو المطلوب في قوله صلى الله عليه وسلم: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ». يعني عندما نقول: نعوذ بالله من الفتن فنحن لا نسأل الله عز وجل ألا يختبرنا، فما منا إلا وهو مختبَر، لكننا نسأل الله عز وجل أن يقينا الصوارف التي تصرفنا عن الحق، ونسأل الله عز وجل عندما نقول: نعوذ بالله من الفتن ألا نسقط فيما نُختبر به، سواء كان اختبارًا خاصًّا أو عامًّا.

ومن هنا نصل لمعنى الفتنة،  فما معنى الفتنة التي ترد في كلام الله، وفي كلام رسوله، وفي كلام أهل العلم؟

الفتنة: هي الاختبار، وقد جرت على كل إنسان، فما من إنسان إلا وهو مختبر، وكلنا سنُفتَن ونُختبَر في معاشنا وفي مماتنا، ولذلك نحن نتعوذ بالله من فتنة المحيا ومن فتنة الممات.. وليس التعوذ هنا بألا نُختبَر؛ إنما التعوذ ألا نسقط في الاختبار.. وهذا أمر لا بد أن يتضح؛ لأن بعض الناس يقول: كيف نستعيذ بالله من الفتن ونحن مختبرون!

على كل حال، ما منا إلا مختبر، وكل لحظة في حياة الإنسان هي اختبار له، وكل موقف هو اختبار له؛ فإما أن يوفَّق إلى هدى وينجح، وإما أن يُخذَل فلا يُوفَّق إلى ما يجب عليه في ذلك الموقف فيُفتن.

إذن الفتنة تُطلَق على الاختبار، وهذا لا سلامة لأحد منه، فموضوع الحياة هو الابتلاء والاختبار، لكن الفتنة تُطلَق أيضًا ويُراد بها نتيجة الاختبار، وهي إما السقوط في تلك الاختبارات، أو عدم التجاوز لما امتُحن فيه الإنسان، وهذا هو الذي يستعيذ منه المؤمن عندما يقول: نعوذ بالله من الفتن، وهذا هو الذي يستعيذ منه المؤمن حين يقول في صلاته: أعوذ بالله من فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال. وفتنةُ المسيح الدجال إذا خرج لن تستثني أحدًا، فكل أحد يُبتلى به إلا من يعصمه الله عز وجل، وابتلاءُ الناس به نتيجته إما سلامة ووقاية ونجاة، وإما خِذلان وانصياع واتباع لفتنته وشره.

لذلك لنفهم عندما نقول: نعوذ بالله من الفتن ما الذي نستعيذ بالله منه؟ إننا نستعيذ بالله عز وجل - أيها الإخوة الأحباب - من السقوط في الفتنة، ومن الفشل، ومن أن يكلنا الله تعالى إلى أنفسنا، ومن ألا نُوفَّق إلى ما يحب الله تعالى ويرضى في تلك الاختبارات.

إن النبي صلى الله عليه وسلم نصح الأمة نصحًا بينًا ظاهرًا في كل ما يخشاه عليها.. ومما كان يؤكد عليه صلى الله عليه وسلم الاستعاذة بالله من الفتن؛ كما تقدم في حديث زيد بن ثابت في القصة التي ذكرت في مسير النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم الاستعاذة بالله من الفتن كما يعلمهم السورة من القرآن؛ ففي الصحيح من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: قُولُوا: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ»  أخرجه مسلم (590) . .

إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في زمنٍ كان بين أصحابه، وكان عصمة  لأصحابه رضي الله عنهم؛ فإن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الأنفال: 33 . .

وقد مضى صلى الله عليه وسلم، وبقيت الأمة بعده، فالعصمة بعده في التزام هديه والسير على طريقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

إن الفتنة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن واسعة وعريضة رغم كل الشدائد التي مر بها الصحابة في أول المبعث، لكن ما يأتي من الفتن بعد ذلك شيء عظيم مهول، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو يحدث الأمة ويخبرها بحالها: «إِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ» أخرجه مسلم (1844) .  . أي: جعل سلامتها ووقاية الشرور في أولها. وقوله: «هَذِهِ هَذِهِ» أي: هذه التي سيدركه الهلاك بها.

إن أمر الفتنة أمر عظيم، استشفه العلماء واستفادوه من كتاب الله تعالى ومن سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يخلو كتاب من كتب السُّنة إلا وفيه باب أو كتاب مستقل عن الفتن وعما يتعلق بها وطريق الوقاية منها والسلامة.

إن الفتنة - أيها الإخوة - لا تُصيب الناس خبط عشواء، بل لها أسباب ولها مقدِّمات، متى ما جاءت هذه الأسباب أدرك الإنسان من الفتنة ما يدركه، ذاك أن الفتن يُختبَر فيها الناس لِيُرَى إيمانهم، وليرى ما معهم من الصدق، وليرى ما ما معهم من الإقبال على الله والصبر على دينه. ولذلك السعيد من جُنِّب الفتن، أي: وُقي شرها، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنُ، وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ». أخرجه أبو داود (4263) . .

ولذلك كان الصحابة - رضي الله عنهم - يستشعرون الفتنة ويبادرون إلى المعالجة.

وإليك هذا النموذج في قصة أبي طلحة رضي الله عنه: فإن أبا طلحة كَانَ يُصَلِّي فِي حَائِطِهِ، فَطَارَ دُبْسِيٌّ طائر يشبه اليمامة فَطَفِقَ يَتَرَدَّدُ، يَلْتَمِسُ مَخْرَجًا، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، فَجَعَلَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ سَاعَةً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى صَلَاتِهِ، فَإِذَا هُوَ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَقَالَ: لَقَدْ أَصَابَتْنِي فِي مَالِي هَذَا فِتْنَةٌ. فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ لَهُ الَّذِي أَصَابَهُ فِي حَائِطِهِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ صَدَقَةٌ لِلَّهِ، فَضَعْهُ حَيْثُ شِئْتَ أخرجه مالك في الموطأ (69) . .

تصدق بالبستان لأنه شغله عن صلاته بتتبع طائر تنقل بين أغصانه وأشجاره.. فهذا الحس المرهف، وهذا الاستشعار الدقيق، وهذه المبادرة لمعالجة الفتنة من أوائل ظهور علاماتها من توفيق الله عز وجل للعبد..

فهذا الصحابي الكريم - رضي الله عنه - أشغله هذا النظر، وهذا الإعجاب بسعة مزرعته، وتنقل الطير فيها، حتى وقع في نفسه ما وقع، فانصرف عن صلاته، فرأى أنه لا خروج له من هذه الفتنة إلا بأن يتخلص مما فتنه وصرفه عن لقاء ربه! الله أكبر! ما أطيب تلك القلوب! إنها قلوب حية، قلوب ترجو ما عند الله عز وجل، قلوب نفذت ببصائرها إلى الدار الآخرة، فكان غاية مناها بلوغ ما عند الله عز وجل، فمهما خسروا قبل ذلك، ومهما خلوا قبل ذلك، فهم فيه رابحون - «رَبِحَ الْبَيْعُ يَا صُهَيْبُ» كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الحاكم في المستدرك (5706) - ذاك نظر لا يكون إلا لمن صدق إيمانه باليوم الآخر، فإنه من صدق إيمانه باليوم الآخر هانت عليه الدنيا كلها؛ لأنه يعلم أن ما عند الله خير وأبقى.

الفتن أيها الإخوة أول ما تعلق فإنها تعلق بالقلوب، فإذا كانت القلوب سليمة صحيحة راشدة نقية طاهرة  طيبة سلِمت من الفتن، وكانت كحال أبي طلحة في فتنته ومعالجة انصرافه، وإذا كانت القلوب غافلة مريضة أو حتى ميتة تمكنت منها الفتنة فزادتها هلاكًا وفسادًا.

ولهذا محور النجاح، ومفتاح النجاح في الفتن هو ما في صدرك، وما بين جنبيك؛ القلب، أصالح هو فأبشر بالنجاة، أم فاسد هو فتدارك نفسك قبل الهلاك.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح من حديث حذيفة: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ؛ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» أخرجه مسلم (144) .

فما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عضوًا آخرَ، وما ذكر سمعًا ولا بصرًا ولا بدنًا، إنما ذكر أول ما ذكر المحور والمركز الذي تُعرض عليه الفتن، فمتى كان مقدَّم الجيش قويًّا انصدت الفتنة وانخذلت، وإذا أُسر القلب وكان ضعيفًا أسر البدن.

ولذلك يجب على المؤمن في مقابلة كل فتنة عامة أو خاصة أن ينظر إلى قلبه، فإن كنت ذا قلب سليم فأبشر فالنجاة تلوح في الأفق، وإن كنت ذا قلب مريض أو قلب ميت فتدارك نفسك قبل أن تزداد هلاكًا وموتًا، فإن القلوب هي مراكب النجاة زمن الفتنة، و أشبه ما يكون بالسفينة التي يخرق بها الإنسان عُبَاب أمواج الفتن المتلاطمة، فإذا كانت قوية متينة محكمة صالحة نجا، وإلا هلك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا» ثم ذكر انقسام القلوب في هذه الاختبارات، فالفتن هنا هي الاختبارات، والنتيجة واحدة من اثنتين؛ فأي قلب أُشربها نُكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب ردها واستفاق من خطرها نُكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير القلوب مع توالي هذا الاختبار إلى قلبين؛ أسود مربادًّا كالكوز مجخيًا؛ أي: كالكوب مقلوبًا، لو صببت فيه من اليوم إلى غد ماء لم يدخله شيء، بمعنى أنه يُختم عليه ويطبع، ولا ينتفع بشيء من الذكر ولا من الهدى ولا من الوحي، فالماء في حياة الأبدان يشبه الوحي في حياة القلوب، أتحيا الأبدان بلا ماء؟ لا، كذلك القلوب لا تحيا بلا هدى، وإن كان الكوب مقلوبًا فإنه لن يدخله ماء، كذا القلب إذا كان منكوسًا فإنه لن يقبل هدى، ولن ينتفع بوعظ، ولن يجري فيه خير، وهذا هو القلب الذي أُشرب الفتن.. ولا يلزم أن يكون هذا من أول اختبار، إنما هذا من اختبارات متوالية متعاقبة يتلو بعضها بعضًا، ونهاية تلك الاختبارات هو أن يكون القلب على هذه الحال؛ كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا.

أما القسم الثاني «عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا» فهذا لون وقوة؛ مثل الصفا؛ أي الحجر في قوته ورده للواردات وصده للفتن القادمة إليه، لا تضره فتنة، فهكذا تكون القلوب بعد عرض الفتن عليها، فشبَّه عرض الفتن على القلوب شيئًا فشيئًا بعرض عيدان الحصير، وهي في تواليها تشكل حال القلب من الاستقامة والانحراف.

إن الفتن ألوان وأشكال، وما يفتن زيدًا قد لا يفتن عبيدًا، وما يفشل فيه فلان قد لا يفشل فيه آخر، ولذلك ليست الفتنة واحدة في حال الناس كلهم، بل مختلفة، فمن الناس من فتنته المال، ومنهم من فتنته النساء، ومنهم من فتنته الجاه، ومنهم من فتنته المناصب، ومنهم من فتنته الولد، ومنهم من فتنته العقار، ومنهم من فتنته الأسهم... فهذه أشكال وألوان في صور الفتن ونماذجها، فمن سلم من فتنة فقد لا يسلم من الأخرى، لذلك ينبغي أن يعرف أن الفتن لا تنحصر في لون واحد.

وفي الجملة الفتن نوعان: فتن شبهات وفتن شهوات.

فلو أردنا الحصر الإجمالي للفتن وصنوفها وأنواعها وجدناها تندرج تحت مظلتين؛ فتن الشبهات، وفتن الشهوات.

والفرق بينهما أن فتن الشبهات تتعلق بالعلم والمعرفة، وأما فتن الشهوات فتتعلق بالإرادة والقصد والرغبة.  وكلاهما خطر على القلب، وكلاهما مفسِد للقلب إذا استسلم له الإنسان وبُلِي به، لكن فتن الشبهات أعظم خطرًا وأشد إفسادًا للقلب من فتن الشهوات، وكلاهما من أسباب هلاك القلب وفساده، وهو ما يوجب وقاية القلوب من هذا وذاك.

واليوم حياة الناس مليئة بالنوعين من الفتن؛ فتن الشبهات بالأفكار المنحرفة، والآراء الصادة عن دين الله عز وجل من التشكيك والتشبيه والمعارضة لشرع الله تعالى والطعن في أحكام الشريعة، والنيل من أولياء الله عز وجل، والاستهزاء بالصالحين، وما أشبه ذلك من قائمة طويلة تتعلق بالشبهات.

أما القسم الثاني من الفتن التي مُلئت بها حياة الناس اليوم، ففتن الشهوات بشتى صورها، سواء كان ذلك في مال، أو في في نساء، أو انحرافات عملية وسلوكية، فكل ذلك مندرج تحت فتن الشهوات، وهما مما يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ».

قولوا يا إخواني: نعوذ بالله من الفتن؛ فإنه لا نجاة لكم إن لم يعصمكم الله ويحمكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن. إن الوقوع في الفتنة ليس خبط عشواء، فالوقوع في الفتنة له أسباب، فلا يفتن الإنسان ويقع في فساد القلب وفساد العمل دون سبب، بل لا بد من أسباب.

لقد خلق الله تعالى الخلق على الفطرة، وهي محبة العبادة والإقبال عليها، قال صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658)   .

فكل إنسان مجبول على محبة الله في أصل الخلقة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم (2865) . من  حديث عِيَاض بن حِمَار: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ».

حنفاء: أي على الجادة مائلين عن الشرك، وعن الفساد وعن الانحرف. فاجتالتهم الشياطين: أي صرفتهم، وأخذتهم يمينًا وشمالًا، وأخرجتهم عن الصراط المستقيم، أي: صرفتهم عن طريق الهدى إلى أنواع الانحرافات وسبل الغواية والضلال.

فقوله: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ» أفادنا هذا أن الأصل في الناس الاستقامة، وأن الأصل في الخلق الهداية، ثم الناس بعد ذلك يُنَشَّئون على أنواع من الصوارف تصرفهم عن طريق الاستقامة.

وأعظم أسباب الانصراف عن الهدى:  قبول القلب للفساد؛ فإن القلب إذا كان مستعدًّا للفساد متهيئًا لقبوله انصرف عن الحق والهدى، ولذلك في حديث حذيفة الذي ذكرته في عرض الفتن على القلوب قال صلى الله عليه وسلم: «فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا» تصور هذا المنديل إذا أحضرنا له هذا الماء ووُضع فيه تبلل وتشرب وسحب من الماء على قدر حجمه، فكذلك القلوب في الفتن إذا كانت متهيئة ليست متحصنة بالله عز وجل أُشربت الفتن كما شرب هذا المنديل الماء، وتتخلل جميع أجزاء القلب، فأي قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء، هذه النكتة هي غلاف على القلب يتبعه آخر، ويتبعه آخر، حتى يصبح القلب مغلفًا بطبقة السواد التي تحيط به نتيجة المعاصي والسيئات.

إذن الفتن لا تصيب القلوب بالفساد إلا إذا كانت القلوب متهيئة، وإلا إذا كان في القلوب إقبال واستعداد لتشرب تلك الفتن، أما القلوب الحية فإنها ترد الفتنة، ولذلك أيما قلب أُشربها نُكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أَنكرها وردها بصلابته وقوته نُكتت فيه نكتة بيضاء.

إذن الفتن لا بد في عرضها على القلوب أن تترك أثرًا؛ إما أثرًا سيئًا رديئًا بأن يشربها القلب وتترك فيه نكتة سوداء، أو تترك أثرًا طيبًا فيكون في القلب من أثر طاعة الله عز وجل لذة الإيمان التي تنعكس على القلب بياضًا ونصاعة.

فهذا هو السبب الأول من أسباب الوقوع في الفتنة: استعداد القلوب.

كذلك الاستشراف لها، أي: التعرض للفتنة، سواء كانت فتنة خاصة أو فتنة عامة، فالذي مثلًا يدخل إلى المواقع الإباحية يقول: أرى؛ هذا عرض نفسه للفتن، والذي يذهب لأماكن الشر والفساد العملي هذا عرض نفسه للفتنة، والذي يقرأ الكتب المنحرفة التي فيها الأفكار المعارضة للشريعة والمكذبة للدين هذا عرض نفسه للفتنة.. فهذه كلها أنواع من الاستشراف، واليوم يقال: دعِ الناس يطَّلعون، دعهم يرون، دعهم يدرون! حسنًا لا بأس أن يقرءوا وأن يطلعوا، لكن إذا كانوا ذوي قدرة وبصر، أما أن تدخل من لا يحسن السباحة في موج متلاطم وتقول له: اسبح ودعه يتعلم السباحة، فأنت تحكم عليه بالغرق، فليس صحيحًا أن يُفتح الباب للناس وأن يقال: هيا ادخلوا، خذوا ما شئتم، أنتم الآن بلغتم عقلًا ورشدًا وتستطيعون أن تأخذوا النافع من الضار، فهذه فرضية ليست صحيحة، وهي تمامًا كما لو ذهبنا جميعًا الآن للبحر، ومنا من يعرف السباحة ومنا من لا يعرف السباحة، وركبنا السفينة، فلما توسطنا قلنا: الجميع يلقي بنفسه في البحر، من يعرف ومن لا يعرف السباحة، فمن لا يعرف السباحة يتعلم، ومن يعرف السباحة فالحمد لله سيقي نفسه.. فهل هذا من الحكمة في شيء؟ وهل هذا رشد؟ أليس هذا إلقاء بالنفس إلى التهلكة؟ كل أحد يقول: نعم هذا إلقاء بالنفس إلى التهلكة، لكن في موضوع الديانة أن نفتح للناس كل أبواب الفساد، وكل أبواب الشر، سواء كان الشر العملي السلوكي الأخلاقي، أو الشر الفكري العقدي نقول: لا هم يميزون ويعرفون، دعهم يرون حتى يعرفوا الخير من الشر. أقول: غير صحيح فتح أبواب الشر للناس بدعوى قدرتهم على التمييز، فنحن في هذه الحال كمن أشعل النار في قش وتركه وقال: سينطفئ من نفسه، أو سيتوقى الناس شره بكل سبيل من سبل التوقي..

إن من الغلط أن تعرض نفسك للهلاك؛ ففي مسند أحمد (15156) .  أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَ وَقَالَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟!».

والتوراة من أشرف كتب الله عز وجل بعد القرآن، ولم يأت ذكر كتاب في القرآن مثلما جاءت التوراة، ولذلك هو أعظم كتاب أنزله الله على رسول بعد القرآن، إلا أنه كتاب جرى فيه من التحريف والتعديل والتبديل والتغيير ما جرى فأصبح لا يُعرف فيه الحق من الباطل.

وأثقل الناس إيمانًا بعد النبي في الأمة وبعد أبي بكر: عمر رضي الله عنه، ومع ذلك أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم مطالعته لهذه الكتب لِما فيها من الانصراف عن الهدى الخالص، ولما فيها من تعريض النفس لضلالات وانحرافاتٍ الإنسانُ غني عنها.

فينبغي للمؤمن أن يبعِد نفسه عن الفتن، سواء كانت فتن شهوات أو فتن الشبهات. ولذلك كان من علامات الآخرة ودلائل قرب الساعة أن يفر المؤمن بدينه من الفتن  عندما تكثُر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في أعظم فتنة، وهو الدجال: «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ» أي: يبعد عنه فلا يقول: آتي وأحاجه وأبطل قوله، «فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ، مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ»، أخرجه أبو داود (4319) . .

وهذا فيه الخوف على الإيمان، لذلك لا تعجب حين يأتي خبر عن سعيد بن المسيب أن رجلًا أتاه فقال: أقرأ عليك آية من أهل البدع فيقول: ولا آية. حتى القرآن لا يسمعه من المبتدع خشية أن يكون في ذلك ضرر أو ضلال. ويأتي آخر لمالك بن أنس - رضي الله عنه - فيقول: أريد أن أناظرك، قال: اذهب فابحث عن دِينك فإني قد هُديت. ويَمتنع عن مناظرته..

كل هذا لأجل النأي بالنفس عن الفتن. والآن نحن حصيلتنا ضحلة في غالب أمور الشريعة، هذا هو المستوى العام، وتجد الواحد منا يقلِّب في القنوات يبحث عن مناظرة سني مع رافضي ، ومسلم مع نصراني، يقول: أرى وأعرف، نقول: لا بأس إن كنت على حصيلة جيدة ومعرفة بالصواب من الخطأ والقواعد، لكن عندما تُقدِم وتدخل هذا البحر دون أن يكون عندك معرفة، ولا بصيرة، ولا قواعد متينة تبني عليها فأنت تعرض نفسك للهلاك.

وأضرب لذلك مثالًا كلنا يتفق عليه: الآن هل يدخل أحدنا الحجر الصحي الذي يحجر فيه على المرضى مرضًا معديًا ويقول: ما يضر أن أدخل وأرى المرضى وأخالطهم مع أنهم محجورون صحيًّا؟ لا. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ» أخرجه أحمد (9722) وهو مرض عضوي، إذا ابتُلي به الإنسان فصبر كان له من الأجر عند الله ما يكتبه للصابرين. والأمراض الإيمانية القلبية أعظم خطرًا، ولذلك كانت الوقاية منها أكبر وأوجب وألزم لمن يحافظ على دينه وإيمانه، ولهذا جاء التحذير في كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن التعرض للفتن فقَالَ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» أخرجه البخاري (7081)، ومسلم (2886) . .

فمراتب التورط في الفتنة ( قعود - قيام – مشي – سعي)، وكلما كنت أبعد عن الفتنة كنت أسلم في دينك وكنت أقرب إلى الخير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر مراتب الناس : «مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ» أي: مَن تعرض لها تستذله وتأخذ بقلبه. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ». وبهذا يصون الإنسان نفسه من الفتنة.

وهنا نقول: إن من غفل عن أسباب الهداية كان ذلك موقِعًا له في الفتن، فالذي يقصر في أسباب الهداية من الأذكار، وقراءة القرآن، والصلاة، وسائر الواجبات الشرعية، كان ضعيف القلب، وإذا ضعف القلب تعرض للفتن، وتوالت عليه أنواع الصوارف التي تصرفه عن الحق، لذلك كان من الضروري للمؤمن أن يأخذ بأسباب الهداية، وأن يستكثر من أصحاب الصلاح، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث مَعْقِل بن يَسَار: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»  أخرجه مسلم (2948) . يعني العبادة في زمن الفتنة كهجرة إليّ، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا اشتغل الإنسان بالعبادة زمن الفتن وكثرة الفساد في الناس فهو في الأجر كما لو هاجر إليه صلى الله عليه وسلم زمن الهجرة المشروعة، هذا في الأجر، وهو في الصيانة والأمان على دينه كما لو هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

فالعبادة زمن الفتن والشرور تثبت القلب، والمقصود العبادة بمفهومها العام؛ عبادة القلب، وعبادة البدن؛ بالاشتغال بالواجبات والمستحبات، والإقبال على الله تعالى، وكثرة الدعاء، وكثرة الذكر، فكلها مثبتات للقلوب، فإذا اشتغل بها الإنسان توقى شر الفتن وحُفِظ منها وصان الله  تعالى قلبه من الضلال.

إن ما ذكرته هو مجمل ما ترجع إليه أسباب الفتنة، فأسباب الفتنة إما أن تكون استعداد القلب أو الاستشراف، وإما أن تكون للتقصير في أسباب الهداية، فإن التقصير في أسباب الهداية يوقع في الانحراف والضلال.

أسباب الوقاية من الفتن:

إن من أسباب الوقاية من الفتن: اللجوء إلى الله، وصدق الإقبال عليه، والتضرع بين يديه، ولذلك كان الدعاء بالسلامة من الفتنة كثيرًا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يعلِّم أصحابه الدعاء الذي يسألون الله تعالى فيه الوقاية من الفتن كما يعلمهم السورة من القرآن، وهذا يُظهِر لنا أهمية هذا الدعاء وحاجة الناس الماسة إلى أن يسألوا الله تعالى أن يصونهم وأن يحفظهم وأن يقيهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.

ومن أسباب الوقاية من الفتن: الإنابة إلى الله عز وجل، والإنابة إلى الله عز وجل بكثرة التوبة وكثرة الاستغفار، فكثرة التوبة والاستغفار تُكسِب القلب قوة وتكسبه صلاحًا واستقامةً، وبذلك يتوقى الفتن.

ومن أسباب الوقاية من الفتن: المبادرة للأعمال الصالحة، لذلك جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ» أي: الأعمال الصالحة «فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ»  أخرجه مسلم (118) . ؛ كقطع الليل البهيم الذي لا يُرى فيه شيء؛ لأنه مظلم شديد الظلمة. والذي يعينه على الرؤية في هذا الظرف هو صلاح عمله، فانظر إلى عملك وصلتك بالله عز وجل، وبادر إلى الصلاح والاستقامة، وحافظ على الصلوات، فالصلاة نور، والله تعالى قد جعل هذا النور في اليوم خمس مرات زادًا تستزيد به؛ مثال ذلك الجوالات، فإذا انتهى الشحن فإنك تزيد الشحن بوضعها في موضع الشحن، كذلك القلوب تحتاج إلى شحن حتى يكون نورها مضيئًا يميز به الإنسان بين الحق والباطل. وتُشحَن القلوب بالطاعة والإحسان..

فهذه الصلوات محطات يقف فيها الإنسان ليتزود، فكلما زادت صلاتك، وصلحت صلاتك، ازداد نورك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الصَّلاةُ نُورٌ» أخرجه مسلم (223) فاستقل واستكثر، والنور يميز به الإنسان بين الحق والباطل، ويكشف الله تعالى به مواطن الضلال ويهديه به سبل السلام.

ومن أسباب الوقاية من الفتن: التقوى؛ فإن الله تعالى قد أمر المؤمنين بالتقوى فقال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} الأنفال: 25 . ووعد المتقين بالمخرج من كل ضيق؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} الطلاق: 2، 3 ، وتقوى الله تجلب للإنسان الخير وتصرف عنه الشر.

ومن أسباب الوقاية من الفتن: الاستجابة لله ولرسوله؛قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} الأنفال: 24 .

ومن أسباب الوقاية من الفتن: لزوم السُّنة؛ فكلما ازداد الإنسان لزومًا للسنة وإقبالًا عليها؛ كان ذلك من دواعي سلامته من الفتن الظاهرة والباطنة.

ومن أسباب الوقاية من الفتن: دعاء الله صادقًا بكل دعاء يُهدى به إلى الرشد ويُتوقى به من الشر، فيكون ذلك من أسباب وقايته من الفتن، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ».

ومن أسباب الوقاية من الفتن: الخوف من الفتنة، وعدم الأمن من مكر الله، فهو من أسباب الوقاية من الفتن والهداية، ولذلك كان من دعاء الصالحين والنبيين الصادقين أن يتوفاهم الله تعالى على الإيمان، فهذا يوسف عليه السلام يقول: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} يوسف: 101 . ، وإبراهيم عليه السلام يدعو الله أن يقيه شر الأصنام وعبادتها فيقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} إبراهيم: 35 . .

فلا تأمن على نفسك من الفتنة، فالخوف من الفتن سبيل عظيم للوقاية منها؛ قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} الأعراف: 99 .

بقي علينا شيء يسير مما يتعلق بالأسباب التي يتوقى بها الإنسان الفتن.. ذكرنا جملة من الأسباب ومن أبرزها: أن يدعو الإنسان الله عز وجل صادقًا أن يقيه من الفتن، فإذا قلت في آخر الصلاة: «اللهم إني أعوذ بك من  عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» بقلب حاضر فأبشر بعطاء الله عز وجل؛ فإن الله لا يخيب من اعتصم به والتجأ. وكثير من الناس يقولون الأذكار والأدعية دون تأمل ولا فكر ولا اعتبار ولا حضور قلب، فتكون ككلام يقوله دون أثر ولا يكون له نفع، فقد يؤجر عليه أجر الذاكر بلسانه، لكن لا يتذوق طعمه ولا يعرف منزلته ولا يجني ثماره إذا لم يكن ذا قلب حاضر.

لذلك تنبه وكن على فطنة أن كل ذكر تقوله أو كل دعاء تقوله دون حضور قلب فإن أثره ضعيف، تمامًا مثل السهم الذي في يد ضعيف الرمي لا يصل إلا إلى مدى قريب، لكن إذا كان ذا رمي قوي وبنفس السهم فإنه يصل إلى آخر المرمى، والفرق بين هذا وذاك في قوة الرامي، فإذا قلت: أعوذ بالله من الفتن فليتحرك قلبك قبل أن يتحرك لسانك، ليحضر قلبك في معنى هذا الدعاء قبل أن تنطق به وأنت غافل، فإن ذلك من دواعي حصول الإجابة والتوفيق إلى الهداية.

ومن أسباب توقي الفتن أن يكثر المؤمن ذكر هادم اللذات، أي: ذكر الموت، والنفاذ بالبصر إلى الآخرة، فإن هذا من أعظم أسباب الوقاية من الفتن؛ لأنه يذكر أنه سيقف بين يدي الله تعالى، وسيسأله عن الدقيق والجليل، وسيحاسبه على ما كان منه من عمل، فيكون ذلك حاملًا له على الاستقامة، وحاملًا له على الهداية، ومعينًا له على مراجعة المسار وتصويب الخطأ وتقويم المعوج والاستزادة في الخير.

ومن الأسباب العظيمة التي بها تحصل النجاة من الفتن: الإقبال على القرآن العظيم، فبقدر ما يكون معك من الإقبال على كتاب الله عز وجل، بقدر ما تحيا روحك ويسلم قلبك، ويستنير فؤادك، وتبصر مواقع الهدى، وتخرج من الظلمات إلى النور، يقول الله عز وجل في وصف رسوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} البقرة: 257 أخرجهم بهذا الكتاب المبين، هذا النور العظيم الذي جعله الله تعالى رسالة لكل واحد من البشر، فكل واحد منا بين يديه رسالة من الله جل في علاه، فبقدر ما يقبل على القرآن تلاوة، وحفظًا، وفهمًا، وتدبرًا، وعملًا، ودعوة، ينال من الهداية، ويتوقى سبل الردى والضلالة.

ولذلك نعجب أن كثيرًا من الناس يقرءون القرآن لكنهم لا يجدون له أثرًا في سلوكهم، بسبب أن إقبالهم محصور على حروفه دون معانيه، وعلى قراءته دون العمل به، فيكون القرآن ضعيف الأثر.. والقرآن من عظيم تأثيره أن رب العالمين يقول فيه:  {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} الرعد: 31 . .

هذه الآية تبين عظيم تأثير القرآن، ومعنى الآية أنه لو أن هناك شيئًا يُقرأ ويُتلى، فتتحرك به الجبال، أي: تسير، أو تقطع به الأرض على عظيم صلابتها، أو يخاطب به الموتى فيقومون ويتكلمون، لو كان هناك شيء يفعل هذا التأثير لكان هذا القرآن، فالقرآن له من التأثير العظيم ما بيَّنه رب العالمين في هذه الآية.

وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} الحشر: 21 .

فكيف بقلوبنا! أين أثر القرآن فيها؟ غائب في كثير من الأحيان، والسبب أن القرآن قد غُفل عنه، ثم إذا قُرِئ فإنه تُقرأ ألفاظه دون فهم معانيه، وإذا قُرِئ كان في اللسان دون أن يكون في القلب والجوراح، وبالتالي ضعف أثره.

إن القرآن أعظم أسباب الهداية، ولذلك يقول الله لرسوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} النحل: 102 .

فالقرآن تثبيت للقلوب، وفيه من القصص والأخبار ما يجعل القلوب في غاية الحضور، قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} هود: 120 .  . يثبت الفؤاد، ويحفظه من المزلزِلات والمزيغات والمضلات، كل ذلك من فضل الله عز وجل.

والمؤمنون الصادقون تتحرك قلوبهم عندما يستمعون إلى القرآن، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} الأنفال: 2 . وأعظم ذكر الله تلاوة آياته، هكذا يكون المؤمن مع القرآن في زيادة وخير، أما من يقرؤه فلا يجد له أثرًا في سلوكه ولا في عمله، فذاك المنقوص الذي يُصد عن القرآن إما غافلاً أو خاسرًا.

ومن أسباب الوقاية من الفتن: التحلي بالصبر، ولذلك كان أعظم ما يعطاه العبد الصبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» أخرجه البخاري (1469)، ومسلم (1053). .

فعطاء الصبر أعظم عطاء يعطيه الله تعالى العبد ويوفقه إليه؛ لأنه بالصبر يتوقى الشبهات، وبالصبر يتوقى الشهوات، وبالصبر يقوم بالطاعات، وبالصبر يتوقى السيئات، وبذلك يبلغ أعلى الدرجات،  فيكون من الذين قال فيهم جل في علاه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر: 10 . .

هذه جملة من المسائل التي تتعلق بالتعوذ بالله من الفتن.

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيذنا وإياكم من الفتن، وأن يرزقنا وإياكم قلوبًا سليمة، وأن يحفظنا وإياكم فيما بقي من أعمالنا، وأن يغفر لنا ما كان من الخطأ والزلل، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.  

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : أهمية الدعاء ( عدد المشاهدات85990 )
3. خطبة: التقوى ( عدد المشاهدات80480 )
4. خطبة: حسن الخلق ( عدد المشاهدات74767 )
6. خطبة: بمناسبة تأخر نزول المطر ( عدد المشاهدات61831 )
7. خطبة: آفات اللسان - الغيبة ( عدد المشاهدات56369 )
9. خطبة: صلاح القلوب ( عدد المشاهدات53355 )
12. خطبة:بر الوالدين ( عدد المشاهدات50919 )
13. فما ظنكم برب العالمين ( عدد المشاهدات50644 )
14. خطبة: حق الجار ( عدد المشاهدات46025 )
15. خطبة : الإسراف والتبذير ( عدد المشاهدات45573 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف