كثيرًا ما ينتابنا شعور بأن ما توصلنا إليه، أو نشأنا عليه، أو اخترناه وأخذنا به من آراء أو تصورات أو أقوال أو مواقف خاصة منها أو عامة، دينيةً منها أو دنيوية هو الصواب الخالص الذي لا صواب غيره، وهو الحق المحض الذي كل الخطأ واحتمالاته في سواه.
وليس هذا شعورًا نجده فيما لا يقبل نقاشًا، ولا يحتمل نظرًا من المسلمات والثوابت التي تتربع على طود من الحجج الداحضة والبراهين الساطعة والأدلة القاطعة، بل إن ذلك يحصل في أمور مشتبهة ملتبسة وخبايا في الزوايا لا يتبين فيها الصواب إلا للأفراد والأفذاذ ممن صحت قصودهم، ورسخت علومهم وطالت دربتهم ونفذت بصائرهم، وقد يكون الحق في كثير منها مقسومًا بين المختلفين.
وهذا المسلك المَشينُ في التعاطي مع القضايا الخاصة منها أو العامة، الدينية منها أو الدنيوية، المصيرية وغيرها إنما هو نتاج خليط من سوء الخصال، وعَشَى البصائر، وصَلَفِ النفوس المُنْبَثِقِ عن الجهل والظلم.
أيها الأحبة، إن تلمس بواعث هذا الشعور مما يساعدنا في علاجه والحد من آثاره، فمن أبرز مكونات هذا الشعور وبواعثه قلة الفقه وضحالة العلم، فإنه كلما رسخت قدم المرء في العلم اتسع أفقه، واستنارت بصيرته، فرسوخ العلم من أعظم الركائز التي تثمر الاعتذار للمخالف، وسعة الصدر به.
قال يحيى بن سعيد: ما برح المفتون يستفتون، فيحل هذا، ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحلل هلك لتحليله، ولا يرى المحلل أن المحرم هلك لتحريمه.
ومن أبرز مكونات هذا الشعور وبواعثه انحصار المرء في دائرة بيئة مغلقة أو مذهب ضيق أو قول واحد يمنعه من تصور الاختلاف والتنوع في الأقوال والآراء، فضلًا عن أن يظن صوابًا في غير ما هو عليه، فيفقد بذلك المعرفة بمراتب المسائل ومنازلها المتفق عليه منها والمختلف فيه، ما يسوغ فيه الخلاف وما لا يسوغ، ولما كان العلم بالخلاف بالغ الأثر في اتزان النفوس وفقهها، فقد اعتنى السلف الصالح ـ رحمهم الله ـ بذلك اعتناءً ظاهرًا.
قال سعيد بن جبير ـ رحمه الله ـ: من علم اختلاف الناس فقد فَقُهَ. وقال أيضًا: أعلم الناس أعلمهم بالاختلاف. وقال قتادة: قال لي سعيد بن المسيب: ما رأيت أحدًا أسأل عما يُختَلَف فيه منك. قلت: إنما يسأل من يعقل عما يُختَلَف فيه، فأما ما لا يُخْتَلف فيه فلِمَ نسأل عنه.
ومن المكونات البارزة للشعور بالصوابية المطلقة كبر النفوس وعلوها وظنها أنها تملك الحق المطلق؛ فالكبر يورث النفس الإعجاب بما يكون منها من قول أو رأي أو عمل، فيعظم كل ذلك في عينه حتى يعمى عن فضل غيره وصوابه، فالقول ما قال والصواب ما رأى، وما أشبه حاله بما قص الله من قول فرعون لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}غافر: 29. ولقد كان سلفنا الصالح أبعد ما يكونون عن الكبر والإعجاب، فكان أحدهم لا يُبعد احتمالَ صواب قول مخالفه فيما يسوغ فيه الخلاف من مسائل الاجتهاد ومَطارِحِ الآراء، فمن القول المشهور عن غير ما واحد منهم: قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب.
بل الأمر أبعد من ذلك؛ فقد نُقِل عن الشافعي ـ رحمه الله ـ أنه قال: ما ناظرت أحدًا إلا قلت: اللهم أجْرِ الحقَّ على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته. وقال أيضًا: ما ناظرت أحدًا فأحببت أن يخطئ. ولقد كان بين الليث بن سعد عالم مصر وبين الإمام مالك عالم أهل المدينة خلاف في مسائل من العلم عديدة، فكتب إليه الليث في بعض ذلك وختم تلك المناقشات بقوله: وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك؛ لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك مع استئناسي بمكانك، وإن نأت الدار؛ فهذه منزلتك عندي ورأيي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك وحاجةٍ إن كانت لك أو لأحدٍ يُوصل بك، فإني أُسَرُّ بذلك.
وأمثلةُ هذا في سِيَرِهم وأخبارهم كثيرةٌ.
إن حظًا كبيرًا مما نعيشه اليوم من الفوضى في جوانب عديدة من حياتنا العلمية والعملية الخاصة والعامة ناشئ عن فرط ثقتنا بأنفسنا وشعورنا بالصوابية المطلقة، وأننا مصيبون دائمًا، وأن الخطأ أبعد عنا من زحل. وبذلك بعدت الشقة بيننا وبين ما أمرنا الله به من العدل والإحسان في مثل قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ}النحل: 90، واتسم كثير من علاقاتنا بالحدة في الرأي، والعنف في التعامل مع مخالفينا في الدقيق والجليل، وضاقت مساحة طلب العذر والاعتذار للمخالف، ورحبت ساحة إساءة الظن بمخالفينا، بل بمن لم يظهر وفاقنا ولو لم يخالفنا، وصار بيننا في صغير المسائل ما قد لا يجوز أن يجري في كبيرها.
فهل من وقفة تأمل ونظرة علاج عسى أن يرأب الصدع ويجتمع الصف؟! اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا.