حَقًّا إنَّهُم يَكرَهوننا ويتَقصَّدونَ النَّيلَ مِنْ كلِّ ما هُوَ مُقدَّسٌ عِندَنا، صَدقَ اللهُ وهُوَ أصدَقُ القائِلينَ {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}آلِ عِمرانَ: مِنَ الآيَةِ 118.
فتارَةً: رَسَّامٌ يَستَهزِئُ بالرَّسولِ الكَريمِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ وأُخرَى: رَئيسٌ يُلصِقُ الفاشيَةَ وهِيَ مُنتَجٌ غَربيٌّ بالإسلامِ، وثالِثةُ الأثافِي: حَبْرُ الكَنيسَةِ الكَاثولِيكيةِ الأعظَمِ يَصِفُ الإسلامَ بالعُنفِ ومُخالَفةِ العَقلِ. ففي مُحاضرَةِ بابا الفاتيكانِ بنديكت السادِسِ عَشَرَ حَولَ الإيمانِ والعَقلِ في إحدَى الجامعاتِ الألمانيةِ ادَّعَى زُورًا وبُهتانًا أنَّ عَقيدةَ الإسلامِ تُقلِّصُ مِنْ دُورِ العَقلِ، وهَذا ما يُفسِّرُ مِنْ وِجهَةِ نَظرِهِ اعتِمادَ القِتالِ والعُنفِ والسَّيفِ أداةً لنَشْرِ العَقيدَةِ بخِلافِ المَسيحيَّةِ الَّتي تَرتَبِطُ بزَعمِهِ ارتِباطًا وَثيقًا بالعَقلِ، وقَدْ ساقَ لذَلِكَ شَواهِدَ مِنْ أقبَحِها اقتباسُهُ قَولًا للإمبراطورِ البيزَنطيِّ في القَرنِ الرابعَ عَشرَ "مَانويل الثَّاني باليولوجوس" الَّذي قالَ في حِوارِ مَعَ مُثقَّفٍ فارِسيٍّ: أرِني شَيئًا جَديدًا جاءَ بِهِ مُحمدٍ، وهُنا لَن تَجِدَ إلَّا كُلَّ ما هُوَ شَرٌّ ولا إنسانيٌّ، مِثْلُ أوامرِهِ بنَشرِ الإسلامِ بحَدِّ السَّيفِ.
وأنَّني سأضرِبُ صَفحًا عَنْ تَفنيدِ ما تَضمَّنَهُ هَذا الكَلامُ مِنْ مُغالَطاتٍ بيِّنَةٍ تُجافِي الحَقيقَةَ، وتَطرُّفٍ ضِدَّ الإسلامِ وتَشوَيهٍ لحَقائِقِهِ المُشرقَةِ. فاعتِبارُ الإسلامِ للعَقلِ واحتِفاؤُهُ بِهِ لا يُجاريهِ دِينٌ مِنَ الأديانِ ولا عَقيدَةٌ مِنَ العَقائِدِ، بَلِ اللهُ ـ تَعالَى ـ دَعا المُخالِفينَ لرَسُولِهِ مُحمدٍ أنْ يُعمِلوا عُقولَهُم نَظرًا فيما جاءَ بِهِ؛ ليَعرِفوا صِدْقَهُ وصِحَّةَ رِسالَتِهِ؛ قالَ ـ تَعالَى ـ: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}لأعرافِ:184. بَلْ إنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ قَدْ جَعلَ إعمالَ الفِكرِ ونَظرَ العَقلِ مِنْ طُرُقِ الوصولِ للإيمانِ بالقُرآنِ والوُقوفِ عَلَى أسرارِهِ فقالَ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}مُحمدٍ:24 ، وقالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}ص:29.
أفيُسوَّغُ بَعْدَ هَذا أنْ يُتَّهَمَ دِينُ الإسلامِ بالتَّقصيرِ في إعمالِ العَقلِ؟! والواقِعُ أنَّهُ لم يَطرُقِ العالَمُ دِينٌ ولا كِتابٌ حَفَلَ بالعَقلِ وحَثَّ عَلَى إعمالِهِ مِثلَ الكِتابِ والدِّينِ الَّذي جاءَ بِهِ مُحمدٌ.
أمَّا ما عابَ بِهِ بابا الفاتيكان دِينَ الإسلامِ مِنْ كَونِ عَقيدَتِهِ تُثبِتُ لِلَّهِ ـ تَعالَى ـ مُطلقَ السُّموِّ، وأنَّ مَشيئَتَهُ ليسَتْ مُرتبطَةً بأيٍّ مِنْ مَقولِتنا ولا حَتَّى بالعَقْلِ. فلا رَيْبَ أنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ لَه السموُّ المُطلَقُ مِنْ كلِّ وَجهٍ {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} النَّحلِ:60، وهَذا ممَّا يُمدَحُ بِهِ دِينُ الإسلامِ وعَقيدتِهِ، فأيُّ سُبَّةٍ أو عَيْبٍ في تَمجيدِ اللهِ وتَقديسِهِ ووصْفِهِ بما هُوَ أهلُهُ.
أمَّا قَوْلُهُ بأنَّ عَقيدةَ الإسلامِ تُثبِتُ لِلَّهِ مَشيئَةً لا تَرتَبِطُ بمَقولِتنا ولا حَتَّى بالعَقلِ، فاللهُ تَعالَى أخبرَنا بأنَّهُ حَكيمٌ عَليمٌ، وأنَّ مَشيئَتَهُ مُقترِنَةٌ بالحِكمَةِ في جَميعِ أحكامِهِ الكَونيَّةِ والشرعيةِ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}الإنسانِ:30. وهَذا ممَّا دَلَّ عَلَيْهِ كتابُ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- في مَواضِعِ لا تَكادُ تُحصَى. لكِنْ مِنَ المُهمِّ أنْ يُنزَلَ العَقْلُ مَنزلَتَهُ اللائِقَةَ، وهَذا ممَّا تُميِّزُ بِهِ الإسلامِ، فإنَّ إدراكَ تَفصيلِ حِكمَةِ اللهِ في خَلْقِهِ وشَرعِهِ ممَّا تَعجَزُ عَنْ مَعرِفتِها عُقولُ البَشرِ، فهَؤلاءِ يَكفيهِمُ العِلْمُ العامُّ والإيمانُ التامُّ.
وأمَّا ما ادَّعاهُ مِنْ أنَّ المَسيحيةَ تَرتَبِطُ بالعَقلِ ارتِباطًا وَثيقًا فهَذا ما لا يُصدِّقُهُ واقِعٌ وما آلَتْ إلَيْهِ عَقيدَةُ النَّصارَى بَعْدَ التَّبديلِ والتَّغييرِ والتَّحريفِ مِنْ مُخالَفاتٍ لصَريحٍ العُقولِ وسَليمِ الفِطَرِ في أُصولِ اعتِقادِهِم فَضلًا عَنْ فُروعِهِ وتَفاصيلِهِ. وقَدْ شَهِدَ عَلَيْهِم بذَلِكَ عُقَلاءُ العالَمِ مِنْ جَميعِ الأديانِ.
فأيْنَ العَقلُ في التَّثليثِ الَّذي هُوَ أصْلُ اعتِقادِ النَّصارَى؟!
وأينَ العَقلُ مِنَ اعتِقادِ النَّصارَى صَلْبَ مَعبودِهِم وإلهَهِمِ، ثُمَّ هُم مَعَ ذَلِكَ يُعظِّمونَ الصَّليبَ الآلَةَ الَّتي قُتِلَ بها إلهَهُم؟
وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الضَّلالاتِ المُجافيةِ لصَحيحِ المَعقولِ.
أمَّا ما يَتعلَّقُ باستِعمالِ القِتالِ في حِمايةِ الدَّعوةِ وتَحقيقِ أغراضِها وتَأمينها مِنْ أعدائِها المُتربِّصينَ بها، فكلُّ الأمَمِ عَبْرَ التاريخِ استَعملَتْهُ، والَّذي تَميَّزَ بِهِ الإسلامُ أنَّ اللهَ شَرَّعَ الجِهادَ وسَنَّ لَهُ مِنَ الأحكامِ ما يَكفُلُ تَحقيقَ العَدلِ والأمنِ مِنَ الظُّلمِ والاعتِداءِ. ولِذا لم يَمُرَّ عَلَى البشريةِ أعدَلُ مِنْ جِهادِ المُسلِمينَ ولا أرحَمُ مِنْ فاتِحيهِم. أمَّا النَّصارَى فإنَّهُ لم يُشرَعْ لهُمُ القِتالُ، ومَعَ ذَلِكَ فإنَّهُم اعتَدوا في قِتالِهِم قَديمًا وحَديثًا. كَيْفَ والكَنيسَةُ الَّتي يَتربَّعُ البابا عَلَى رَأسِ هَرمِها هِيَ مَنْ شَنَّ حَربًا ضَروسًا عَلَى الإسلامِ وأهلِهِ لمُدَّةِ قَرنَيْنِ مِنَ الزمانِ سَجَّلوا فيها أبشعَ صُوَرِ الظُّلمِ والاعتِداءِ والمُخالَفةِ لِما أمرَهُم بِهِ دِينُهُم كما يَزعُمونَ.
ففي الإنجيلِ الَّذي يُؤمِنُ بِهِ مَنْ قادُوا تِلكَ الحُروبَ الصَّليبيةَ الظالِمةَ أنَّ المَسيحَ -عَلَيْهِ السَّلامُ- قالَ في مَوعِظةِ الجَبلِ: طُوبَى لصانِعي السَّلامِ، وطُوبَى للرُّحَماءِ. فهَلْ كانَ أُولئكَ الصَّليبيُّونَ القَتلةُ المُعتَدونَ والسُّراقُ الغاصِبونَ صانِعي سَلامٍ رُحماءَ؟
ولقَدْ تَجلَّتْ تِلكَ الرَّحمَةُ والعَدالَةُ الغَربيةُ في أبهَى حُلَلِها في مَحاكِم التَّفتيشِ الَّتي تَولَّتْها الكَنيسَةُ الرحيمَةُ في الأندَلُسِ! أسبانيا
وللقائِلِ أنْ يَقولَ: ما لَنا وللماضي وقَدْ وَلَّى؟
فأَقولُ: لَيتَ البابا الَّذي كَلَّفَ نَفسَهُ التنقيبَ في الكُتُبِ الغابرَةِ ليَظفَرَ بنَصِّ ذَلِكَ الإمبراطُورِ البيزنطيِّ المَغمورِ ووفَّرَ جُهدَهُ لنُصحِ أتباعِ كَنيستِهِ وأهلِ دِيانَتِهِ مِمَّنْ يَنتَسِبونَ إلى المَسيحِ أن يَكفُّوا عَنْ حُروبِهِمُ الظالِمَةِ الاستِباقيَّةِ والارتِداديةِ الَّتي تَدورُ رَحاها في بِلادِ المُسلِمينَ فَتكًا وقَتلًا بالإنسانِ والحيوانِ والبُنيانِ في العِراقِ، وفِلسطينَ، ولُبنانَ، وأفغانستانَ، وغَيْرِ ذَلِكَ إمَّا بالأصالَةِ أو بالوَكالةِ.
أمَّا الجِهادُ الَّذي هُوَ ذُروَةِ سَنامِ الإسلامِ فلم يَكُنْ في يَوْمٍ مِنَ الأيامِ أداةٌ للظُّلمِ والاعتِداءِ أو البَغْيِ وسَلْبِ الحُقوقِ وانتِقاصِها، بَلْ كانَ وَسيلةً لخَيرِ البَشريةِ وإقامَةِ العَدلِ. فلا لَوْمَ عَلَى المُسلِمينَ إذا قامُوا بِهِ، فهُمْ إنَّما يَقومُونَ بِهِ طاعةً لِلَّهِ تَعالَى الَّذي أمَرَهُم بِهِ وإعلاءً لكَلمتِهِ وَفْقَ ضَوابطَ وحُدودٍ وشَرائعَ تُحقِّقُ المُصالِحَ وتَمنَعُ الشُّرورَ والمَفاسِدَ.
ومِنَ الجَديرِ بالذِّكْرِ في هَذا المَقامِ أنْ يُقالَ: إنَّ ممَّا يُفسِّرُ هَذا الإرجافَ الغَرْبيَّ حَوْلَ الجِهادِ أنَّهُ غُصَّةٌ وشَجًّا في حُلوقِ أعداءِ المُسلِمينَ يَحولُ دُونَهم ودُونَ الهيمَنَةِ عَلَى بِلادِ المُسلِمينَ وثَرَواتِهِم.
حَقًّا إنَّهُم يَكرهونَنا.
فهَلْ سَيمَحو الاعتِذارُ عن تِلكَ الجَرائمِ المُتلاحِقَةِ والإساءاتِ المُتواليَةِ والتَّشويهاتِ المُتتابِعَةِ للإسلامِ ورَسولِهِ وأهلِهِ؟!
فهَبْ أنَّ بابا الفاتِيكانِ اعتَذرَ عَنْ زُورِهِ وبُهتانِهِ، فهَلْ جاءَ بأكثَرِ ممَّا ذَكَرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾التَّوبةِ: 8؟
إنَّ مِنْ آكَدِ الواجِباتِ عَلَى المُسلِمينَ شُعوبًا وحُكوماتٍ أنْ يَعوا خُطورَةَ المَرحلَةِ، وأنْ يَفهَموا حَقيقَةَ مَوقفِ الغَربِ المَسيحيِّ مِنَ الإسلامِ ورَسولِهِ وأهلِهِ، فإنَّ التَّعاميَ عَنْ ذَلِكَ مَعَ سُطوعِ شَمسِهِ وبُدُوِّ قَسماتِهِ يُفقِدُنا التَّخطيطَ الرَّشيدَ والردَّ المُناسِبَ.
إنَّ عَلَيْنا جَميعًا أنْ نَبذُلَ قَصارَى جُهدِنا في نَصرِ دِينِنا ورَسولِنا بكلِّ وَسيلةٍ مُتاحةٍ، كلٌّ حَسبَ قُدرتِهِ، وإنني أخُصُّ بالذِّكرِ وَسائِلَ الأعلامِ في شَتَّى صُوَرِها أنْ تُضاعِفَ الجُهودَ في الوُقوفِ أمامَ هذهِ الحَمَلاتِ المُتكرِّرَةِ وأنْ تُبادِرَ إلى تَوضيحِ الإسلامِ وإبرازِ مَحاسنِهِ في عَقائدِهِ وتَشريعاتِهِ.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} يُوسَفَ: 21.
أخوكم/
د: خالد المصلح
23/ 8/ 1427هـ