بِسمِ اللهِ الرحمَنِ الرحيمِ
استَوقَفتْني أبياتُ شاعِرٍ مَشهورٍ بالمُجونِ في كُتُبِ الأدَبِ أنشَدَها في مَسيرِهِ إلى الحَجِّ:
إِلَهَنا مـا أعـْدَلَكْ |
مَلِيكَ كُـلِّ مَنْ مَلَكْ |
|
لَبَّيـْكَ قَدْ لَبَّيْتُ لَكْ |
لَبَّيْكَ إِنَّ الحَـمْدَ لَكْ |
|
والمُلْكَ لا شَريكَ لَكْ |
ما خـابَ عَبْدٌ سَأَلَكْ |
|
أنْتَ لَـهُ حَيْثُ سَلَكْ |
لَـولاكَ يا رَبِّ هَلَكْ |
|
لَبَيْكَ إِنَّ الحَمْدَ لكْ |
وَالمُلكَ لا شريكَ لَكْ |
|
وَاللَّـيل لمَّا أنْ حَلَكْ |
والسَّابِحَاتِ في الفَلَكْ |
|
على مَجاري المُنْسلِكْ |
كُـلُّ نَـبيٍّ ومَـلَكْ |
|
وكـلُّ مَن أهلَّ لَكْ |
سَبَّـحَ أو لبَّى فَـلَكْ |
|
يا مُخْطِئًا مـا أَغْفَلَكْ |
عَـجِّلْ وبادِرْ أجَلَكْ |
|
واخْتُمْ بخيرٍ عمـلَكَ |
لبَّيـكَ إنَّ الحمدَ لكْ |
|
والعِزَّ لا شريكَ لَكْ |
والحَمْـدَ والنعمةَ لَكْ |
فأَسَرَتْني كلمةُ: (لبَّيكَ)، فقلَّبْتُ فيها نَظَري، وأجَلْتُ في مَدلولاتِها فِكري، وأطلَقْتُ لها قَلَمي فكتَبْتُ هذهِ الكَلماتِ.
لبَّيكَ: أرَقُّ كَلِماتِ الإجابَةِ وألطفُها، تَنشرِحُ لها النُّفوسُ، وتَبتهجُ لسَماعِها المَسامِعُ.
لبَّيكَ: أعذَبُ كلمَةٍ يُجيبُ بها المُؤمِنونَ نِداءَ رَبِّهِم ودُعاءَهُ، تَهتِفُ بها قُلوبُهُم قَبْلَ ألسِنَتِهِم، كَيْفَ {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}يُونسَ: 25؟
لبَّيكَ: كلِمةٌ يُجيبُ بها المُحِبُّ حَبيبَهُ، والسُّرورُ قَدْ مَلأَ جَوانِحَهُ بدَعوتِهِ، والبَهجةُ عَمرَتْ فُؤادَهُ بنِداءِ سَيِّدِهِ و مَولاهُ، فلَهُ المِنَّةُ بنِدائِهِ، ومِنهُ الفَضْلُ بدَعْوتِهِ؛ {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}الحُجُراتِ: 17. حالُهُ وهُوَ يُجيبُ دَعوةَ رَبِّهِ، ويُلبِّي نِداءَ مَولاهُ تَهتِفُ:
لو جئتُكُم زائرًا أسعَى عَلَى بَصَري لم أقضِ حقًّا وأيُّ الحقِّ أدَّيْتُ!
لبَّيكَ: كلمَةٌ تَنضَحُ بتَعظيمِ الربِّ ـ جَلَّ جَلالُهُ ـ ولذَلِكَ يَعقُبُها في مَوارِدِها ثَناءٌ وتَمجيدٌ وتقديسٌ.
لبَّيكَ: بِها كانَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ يَهتِفُ في مُناجاةِ ربِّهِ ـ تَعالَى ـ إذا قامَ إلى الصَّلاةِ:"لبَّيكَ وسَعديكَ والخَيرُ كُلُّهُ في يَدَيكَ، أنا بِكَ وإلَيْكَ، تَباركْتَ وتَعالَيْتَ".صَحيحُ مُسلمٍ (771)
لبَّيكَ: بها أجابَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ ربَّهُ في نُسكِهِ، فكانَ يُهِلُّ بالتَّوحيدِ: "لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبيكَ، لَبيكَ لا شَريكَ لَكَ لَبيكَ، إنَّ الحَمدَ والنِّعمَةَ لَكَ والمُلكَ، لا شَريكَ لَكَ".صَحيحُ البُخاريِّ (1549)، وصحيحُ مُسلمٍ (1184)
لَبَّيكَ: كلمةُ إجابَةٍ دائمةٍ مُستمرَّةٍ مُقيمَةٍ فاللهُ جَلَّ في عُلاهُ لم يَرْضَ مِنَ العُبوديةِ إلَّا دَوامَها فقالَ ـ سُبحانَهُ ـ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}الحِجْرِ: 99.
قالَ الحَسنُ البَصريُّ: "لم يَجعلِ اللهُ لعَبدِهِ المُؤمنِ أجَلًا دُونَ المَوتِ". و لِذا كانَ أحَبَّ العَملِ إلى اللهِ أدوَمُهُ.رَوَى البُخاريُّ (6464)، ومُسلمٌ (782) مِنْ طَريقِ أبي سَلمةَ، عَنْ عائشَةَ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ سُئِلَ: أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى اللهِ؟ فقالَ: «أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ».
لبَّيكَ: كلِمَةٌ يُعلِنُ بها العَبدُ إجابَةَ ربِّهِ ومَولاهُ إجابَةَ دَوامٍ واستِمرارٍ، يَلتزِمُ فيها بالعُبوديةِ للمَلِكِ الدَّيانِ ويُجدِّدُ العَهدَ مَعَ اللهِ. فالشأنُ كُلُّ الشأنِ في دَوامِ العُبوديةِ واستِحضارِها في جَميعِ الأحوالِ، فإنَّ مِنَ الناسِ مَنْ يُمكِنُهُ التِزامُ عَهدِ العِبادَةِ يَومًا أو أيامًا، لكِنَّهُ يَعجَزُ عَنِ الدوامِ والاستِمرارِ؛ لِذا فإنَّ السابِقَ في العُبوديةِ هُوَ مَنْ سَعَى في تَحقيقِ دَوامِها، يَقولُ اللهُ ـ تَعالَى ـ عَنْ خَليلِهِ إبراهيمَ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}النَّحلِ: 120 لقَدْ كانَ مِنْ أسبابِ إمامَةِ إبراهيمَ للناسِ قُنوتُهُ ودَوامُ عُبوديتِهِ.
لبَّيكَ: كلمَةٌ تَردَّدَتْ عَلَى لِسانِ رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ في صَلاتِهِ ونُسكِهِ وفي العَديدِ مِنْ تَقلُّباتِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ فكانَ إذا رَأَى شَيئًا يُعجِبُهُ يُحِبُّ أن يَقولَ: «لبَّيْكَ، إنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ» السُّننُ الكُبرى (7/77) قالَ البَيْهقيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ: وهذِهِ كلمَةٌ صَدرَتْ مِنْ رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ في أَنْعَمِ حالِهِ يَومَ الحجِّ يَومَ عَرفَةَ، وفي أشَدِّ حالِهِ يَومَ الخَندَقِ. فكانَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ دائِمُ العُبوديةِ لربِّهِ في عُسرِهِ ويُسرِهِ، وفي مَنشَطِهِ ومَكرَهِهِ، وفي حِلِّهِ وسَفرِهِ، وفي غَيْبِهِ وشَهادتِهِ، رَوَى البُخاريُّ (1987) ومُسلمٌ (783) عَنْ عَلقمَةَ قالَ: قُلتُ لعائشَةَ: هَلْ كانَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ يَختَصُّ مِنَ الأيامِ شَيئًا؟ قالَتْ: لا، "كانَ عَملُهُ ديمَةً"صحيحُ البُخاريِّ (1987)، وصحيحُ مُسلمٍ (783) أي: مُستَمرًّا.
لبَّيكَ: يَهتِفُ بها المُؤمنُ ليَنزِعَ نَفسَهُ مِنْ مَواطِنِ الإساءَةِ ومَواقعِ العِثارِ يطلُبُ المَغفرَةَ والعَفوَ، لِسانُ حالِهِ يَقولُ:
رَبَّاهُ جئتُكَ طـائِعًا مُسْتَنْجِدًا تَكوِي حُشَاشاتي مَراراتُ النَّدَمْ
فاجعَلْ طريقي بالصَّلاحِ مُمَهَّدًا وأَنِـرْهُ بالحسناتِ يا رَبَّ الكَرَمْ.
خالد بن عبدالله المصلح
2/12/1426هـ