(تَقبَّل اللهُ) أعذَبُ تَهنِئةٍ وأوفَى دُعاءٍ بَعْدَ نَصَبٍ وعَملٍ، فالقَبولُ مُنيَةُ العامِلينَ، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}المائِدَةِ: 27، وممَّا يُروَى أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- جاءَهُ سائِلٌ، فقالَ ابنُ عُمَرَ لابنِهِ: أعطِهِ دِينارًا. فقالَ لَهُ ابنُهُ: تَقبَّلَ اللهُ مِنْكَ يا أبَتاهُ. فقالَ: لو عَلِمْتَ أنَّ اللهَ تَقبَّلَ مِنِّي سَجْدَةً واحِدةً أو صَدقةَ دِرهمٍ واحِدٍ لم يَكُنْ غائِبٌ أحَبَّ إليَّ مِنَ المَوْتِ، أتَدرِي ممَّنْ يَتقبلُ اللهُ؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}المائدَةِ: 27.
(تَقبَّلَ اللهُ) كَلمَةٌ يُهنِّئُ بِها المُسلِمونَ بَعضُهُم بَعْضًا يَوْمَ عِيدِهِم بَعْدَ عَملٍ في طاعَةِ اللهِ ونَصَبٍ، كما كانَ أصحابُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ يَقولُها بَعضُهُم بَعْضًا إذا التَقَوا يَوْمَ العِيدِ بَعْدَ طاعةٍ وإحسانٍ.
(تَقبَّلَ اللهُ) دَعوةٌ هَتَفَ بها إبراهيمُ الخَليلُ وابنُهُ إسماعيلُ ـ علَيْهِما السَّلامُ ـ لَمَّا فَرَغا مِنْ بِناءِ الكَعبَةِ البَيْتِ الحَرامِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}البَقرَةِ: 127. رَوَى ابنُ أبي حاتِمٍ عَنْ وُهيبِ بنِ الوَرْدِ أنَّهُ قَرأَ قَوْلَ اللهِ ـ تَعالَى ـ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}البَقرَةِ: 127، ثُمَّ بَكَى وهُوَ يَقولُ: يا خَليلَ الرحمَنِ، ترفَعُ قَوائمَ بَيْتِ الرَّحمنِ وأنتَ مُشفِقٌ ألَّا يُتقَبَّلَ مِنْكَ!
فهذِهِ حالُ عِبادِ اللهِ المُخلِصينَ، عَملٌ دائِبٌ في خِصالِ الإيمانِ ومَراتبِ الإحسانِ، مَعَ إشفاقٍ تامٍّ مِنْ عَدمِ قَبولِ المَلِكِ الديَّانِ؛ كما حَكَى اللهُ ـ تَعالَى ـ عَنْهُم في قَوْلِهِ:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}المُؤمِنونَ: 60 أي: يُعطونَ ما أعَطَوا مِنَ الصدَقاتِ والنفَقاتِ وسائرِ القُرباتِ {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي: خائفَةٌ ألَّا يُتقبَّلَ مِنْهُم.
(تَقبَّلَ اللهُ) تَهنِئةٌ ودُعاءٌ، تَنطَوِي عَلَى شَريفِ المَعانِي و جَليلِها.
(تَقبَّلَ اللهُ) إعلانُ كَمالِ الافتِقارِ إلى اللهِ ـ تَعالَى ـ وتَمامُ الإقرارِ بالمَنِّ والإحسانِ، يَتلاشَى بها كُلُّ مَنٍّ واغتِرارٍ، فلو عَمِلَ العِبادُ ما عَمِلوا مِنَ البِرِّ وصالِحِ الأعمالِ فليسَ بِهِم عَنْ رَحمَةِ اللهِ وبِرِّهِ وإحسانِهِ غِنًى؛ رَوَى البُخاريُّ(5673) ، ومُسلمٌ(2816) مِنْ حَديثِ أبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقولُ: «لَنْ يُدخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ».قالُوا: ولا أنتَ يا رَسُولَ اللهِ؟! قال: (لَا، وَلَا أَنَا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا».
قالَ بَعْضُ أهلِ العِلمِ: لو أنَّ العَبْدَ سَجدَ لِلَّهِ مُنْذُ أنْ وَضعَتْهُ أمُّهُ إلى أنْ آواهُ لَحْدُهُ، لمْ يُوفِّ اللهَ حَقَّهُ.
وعَذْبٌ ما قالَهُ الشاعِرُ:
ذُنُوبيَ إنْ فكَّرتُ فيها كثيرةٌ *** ورحمَةُ ربِّي مِنْ ذُنُوبيَ أوسَعُ
وما طَمَعِي في صالِحٍ قد عَمِلتُهُ *** ولكنَّنِي في رَحمَةِ اللهِ أطمَـعُ.
(تَقبَّلَ اللهُ) يَهتِفُ بها مَنْ جَدَّ في عَمَلِهِ وأحسَنَ، ومَنْ قَصَّرَ في سَيرِهِ وتأخَّرَ، فالكُلُّ فُقَراءُ إلى اللهِ، يَسألونَ رَبَّهُمُ الكَريمَ أنْ يَجودَ عَلَيْهِم بالقَبولِ، فيَزولُ بذَلِكَ كُلُّ عُجْبٍ وإدِّلالٍ بالعَمَلِ وعُلوٍّ عَلَى بَنِي البَشرِ، {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}النساءِ: 94، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}الحُجُراتِ: 17.
(تَقبَّلَ اللهُ) كَلِمَةٌ يَتذكَّرُ بها المُؤمِنونَ أنَّ الفَرْحةَ إنَّما تُتِمُّ بالقَبولِ مِنَ الربِّ تَعالَى، فيا لها مِنْ فَرحةٍ.
نَسألُ اللهَ الكَريمَ رَبَّ العَرْشِ العَظيمِ كما أذاقَنا فرحةَ الصائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ ألَّا يَحرِمَنا لَذَّةَ الفَرحةِ عِنْدَ لِقائِهِ.