الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، وأُصَلِّي وأُسلِّمُ عَلَى البَشيرِ النذيرِ والسِّراجِ المُنيرِ، نَبيِّنا مُحمدٍ وعَلَى آلهِ وأصحابهِ ومَنِ اتَّبعَ سُنَّتَهُ بإحسانٍ إلى يَومِ الدِّينِ، أمَّا بَعدُ:
فنِعمَةٌ مِنَ اللهِ جَليلةٌ ورَحمَةٌ كَبيرةٌ أنْ يُبلِّغَ اللهُ ـ تَعالَى ـ عَبدَهُ مَواسِمَ البِرِّ والخَيرِ، ولا شَكَّ أنَّ مَواسِمَ الخَيرِ فُرصَةٌ يَفتَحُها اللهُ ـ تَعالَى ـ لعِبادِهِ، فهِيَ مَيدانُ سِباقٍ يَستبِقُ فيهِ الناسُ إلى رَحمَةِ اللهِ ـ تَعالَى ـ ويَستبِقونَ فيهِ إلى فَضلِهِ وإحسانِهِ، وإلى عَظيمِ ثَوابِهِ وجَزيلِ عَطائِهِ ـ جَلَّ وعَلا ـ والفائِزُ في هَذا المِضمارِ هُوَ المُستَكثِرُ مِنَ الصالِحاتِ، السابِقِ إلى الخَيراتِ.
ولذَلِكَ أُهنِّئُ نَفسِي وإخواني المُسلِمينَ في كُلِّ مَكانٍ عَلَى هذِهِ النعمَةِ العَظيمَةِ الَّتي مَنَّ اللهُ ـ تَعالَى ـ بها عَلَيْنا جَميعًا، وهِيَ أنْ بَلَّغنا هَذا الشهرَ المُبارَكَ، شهرَ الصيامِ والقيامِ، شهرَ الطاعةِ والبِرِّ والإحسانِ، الشهرَ الَّذي اصطفاهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ فخَصَّهُ بجُملَةٍ مِنَ الخَصائِصِ الكَونيَّةِ والشرعيَّةِ.
فأعظَمُ خَصائِصِ هَذا الشهرِ الكَونيةِ أنَّهُ الشهرُ الَّذي اصطفاهُ اللهِ ـ تَعالَى ـ فجَعلَهُ مَحلًّا لإنزالِ القُرآنِ؛ يَقولُ اللهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}البَقرَةِ: 185 . فهذِهِ الخاصِّيةُ الكَونيةُ هِيَ الَّتي جَعلَها اللهُ تَعالَى سَببًا للصيامِ فقالَ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} بَعْدَ أنْ أخبَرَ بهَذا الاصطِفاءِ وهُوَ إنزالُ القُرآنِ عَلَى نَبيِّنا مُحمدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ في هَذا الشهرِ المُباركِ، لا سِيَّما أنَّ هَذا الشهرَ شهرٌ اُختُصَّ أيضًا بأنواعٍ أُخرَى مِنَ الخَصائصِ الكَونيةِ، وهِيَ أنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ هَيَّأهُ للعِبادِ ليُقبِلوا عَلَيْهِ فيهِ، ففَتحَ فيهِ أبوابَ الجَنَّةِ، وغَلَّقَ فيهِ أبوابَ النارِ، وصَفَّدَ فيهِ الشياطينَ، وذَلِكَ كلُّهُ تَهيئَةٌ لهَذا المَوسِمِ الكَريمِ حَتَّى يُقبِلَ الناسُ فيهِ عَلَى ربِّ العالَمينَ، ولذَلِكَ في رِوايَةِ التِّرمذيِّ يَقولُ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ: «وَيُنادِي مُنَادٍ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ»سُنَنُ التِّرمذيِّ (682)، فمِنَّةٌ مِنَ اللهِ ـ تَعالَى ـ أنْ نُدرِكَ هَذا المَوسِمَ، فيَنبَغي للعَبدِ أنْ يَشكُرَ اللهَ ـ تَعالَى ـ عَلَى بُلوغِ مَواسمِ الخَيرِ.
ورَمضانُ حُجَّةٌ لكَ أو عَلَيْكَ؛ إمَّا أن تَخرُجَ فيهِ برِبْحٍ وفَوزٍ وسَبقٍ، وإمَّا أنْ يَخرُجَ الإنسانُ خاسِرًا، ولهَذا جاءَ في الحَديثِ الصحيحِ أنَّهُ قالَ: «رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ».سُنَنُ الترمذيِّ (3545) كَيْفَ لا يُغفَرُ لَهُ وهُوَ شهرُ الصيامِ؛ فمَنْ صامَهُ إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تَقدَّمَ مِنْ ذَنبِهِ؟! كَيفَ لا يُغفَرُ لَهُ ومَنْ قامَ رَمضانَ إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تَقدَّمَ مِنْ ذَنبِهِ؟! كَيفَ لا يُغفرُ لَهُ والنبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ يَقولُ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ» وهِيَ ليلةٌ واحدةٌ مِنْ هَذا الشهرِ «إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»صحيحُ البُخاريِّ (1901)، وصحيحُ مُسلمٍ (760).؟! إنَّها خسارَةٌ كَبيرةٌ أنْ تَمُرَّ عَلَيْنا الأيامُ واللَّيالي ونَحنُ في غَفلَةٍ عَنْ هَذا المَوسمِ الكَبيرِ والمِضمارِ والمَيدانِ الَّذي يَتسابَقُ فيهِ الناسُ إلى الرحَماتِ.
فيَنبَغي لنا أنْ نَشحَنَ النُّفوسَ بعَظيمِ هذهِ الفُرصةِ، وأنْ نَملأَها استِشعارًا بما فِيها مِنَ الخَيرِ حَتَّى نَستبِقَ الخَيراتِ؛ فاللهُ ـ تَعالَى ـ يقولُ: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}البَقرَةِ: 148 ، وإنَّما تُسْتبَقُ الخَيراتُ عِندَما يَشعُرُ الإنسانُ بأنَّها فُرصةٌ تَفوتُ وليسَ أمرًا إذا لم تُدرِكْهُ اليَومَ تُدرِكْهُ غَدًا، فالعُمرُ فُرصةٌ في حَدِّ ذاتِهِ، ومَواسمُ الخَيرِ فُرصةٌ عَلَى وَجْهِ الخُصوصِ، فإذا فاتَتْ فاتَكَ خَيرٌ كَثيرٌ، ولو لم يَفُتْكَ إلا السبْقُ إلى الصالِحاتِ والدُّخولُ في زُمرةِ الَّذينَ قالَ فِيهِمُ اللهُ جَلَّ وعَلا: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}الواقِعةُ: 10 لكانَ ذَلِكَ كافيًا في الحِرمانِ والخَسارةِ، فكَيْفِ ونَحنُ في أوَّلِ هَذا الشهرِ؟!
أدعُو نَفسي وجَميعَ إخوانِي أنْ نُبيِّتَ النَّوايا الصالِحَةَ والعَزائمَ الراشدَةَ عَلَى أن نَستقبِلَ هَذا الشهرَ بالعِلمِ النافِعِ، والعَملِ الصالِحِ، وتَعلُّمِ ما نَتعبَّدُ بِهِ اللهَ تَعالَى، ونَشتغِلَ بهَذا العِلمِ تَرجمةً بالصومِ إيمانًا واحتِسابًا، وقيام إيمانًا واحتسابًا، بتِلاوَةٍ للقُرآنِ، والتَّنوعِ في أبوابِ الإحسانِ طَلبًا للأجرِ والمَثوبَةِ مِنَ اللهِ تَعالَى، ولِنعْلَمَ أنَّ عَطاءَ اللهِ جَزيلٌ وخَيرَهُ كَبيرٌ، وأنَّ ما يَكونُ مِنَ العَبْدِ إنَّما هِيَ أشياءُ قَليلَةٌ يُقدِّمُها فيَجِدُ مِنْها خَيرًا كَبيرًا، وقَدْ قالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلهِ وسَلَّمَ ـ في بيانِ عَظيمِ فَضلِ الربِّ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ: «وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً».صَحيحُ البُخاريِّ (7405)، وصَحيحُ مُسلِمٍ (2675) وذَلِكَ فَضلُ اللهِ، فيَنبَغي أنْ نُرِيَ اللهَ مِنْ أنفُسِنا خَيْرًا، وأنْ نَقبَلَ بالعزائمِ الراشِدَةِ، والنَّوايا الصادِقَةِ، والأعمالِ الصالِحَةِ؛ فهِيَ فُرصةٌ.
أسأَلُ اللهَ العَظيمَ ربَّ العَرشِ الكَريمِ أنْ يَستَعمِلَني وإيَّاكُم في الصالِحاتِ، وأنْ يَجعَلَهُ شَهرَ خَيْرٍ وبَركةٍ عَلَى الإسلامِ وأهلِهِ، وأنْ يُعينَنا فيهِ عَلَى الصِّيامِ والقِيام إيمانًا واحتِسابًا.