الحَمدُ لِلَّهِ ربِّ العالَمِينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى المَبعوثِ رَحمةً للعالَمِينَ، نَبيِّنا مُحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ أجمَعينَ،أمَّا بَعْدُ:
فإنَّ الناظِرَ في سِيرَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ وهَديِهِ يُلاحِظُ أنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ مُنْذُ أنْ قالَ لَهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المُدَّثِّرِ: 1، 2] لم يَترُكْ مَجالًا مِنْ مَجالاتِ خِطابِ الناسِ، ولا سَبيلًا مِنْ سُبُلِ إيصالِ صَوْتِهِ ودَعوتِهِ إلَيْهِم إلَّا وطَرَقَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ فكانَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ يُوافي المَوسِمَ كُلَّ عامٍ يَتبَعُ الحُجَّاجَ في رِحالِهِم والقَبائلَ في مَنازِلِهِم، ويَغشَى الناسَ في مَواسِمِهِم وأماكِنِ اجتِماعِهِم بسُوقِ عُكاظٍ ومَجنَّةَ وذي المَجازِ، يَدعوهُم إلى تَوحيدِ اللهِ ـ تَعالَى ـ وعِبادَتِهِ، مَعَ ما كانَ في هذِهِ الأمكِنَةِ مِنْ عَظيمِ الإثْمِ وكَبيرِهِ؛ رَوَى الإمامُ أحمدُ في مُسندِهِ (15448) مِنْ حَديثِ رَبيعَةَ بنِ عبادِ الدِّيليِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وكانَ جاهِليًّا أسلَمَ قالَ: «رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ بَصَرَ عَيْنَيَّ بسُوقِ ذي المَجازِ يَقولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) تُفْلِحُوا". ويَدخُلُ في فِجاجِها والناسُ مُتقصِّفونَ عَلَيْهِ، فما رَأيْتُ أحَدًا يَقولُ شَيئًا، وهُوَ لا يَسكُتُ، يَقولُ: "أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) تُفْلِحُوا"».
وهَكذا استَمرَّ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ بَعْدَ هِجْرتِهِ إلى المَدينةِ عَلَى هَذا السَّبيلِ؛ يَغشَى الناسَ في مَجالِسِهم ويَأتي مَجامِعَهُم، يُذكِّرهُم باللهِ ويَدعُوهُم إلَيْهِ، حَتَّى قالَ لَهُ عَبدُ اللهِ بنُ أبي ابنُ سَلولٍ قَبْلَ أنْ يَظهرَ الإسلامَ: «يا أيُّها المَرْءُ، إنَّهُ لا أحسَنُ مِمَّا تَقولُ إنْ كانَ حَقًّا، فلا تُؤذِنا بِهِ في مَجلِسِنا، وارجِعْ إلى رَحلِكَ، فمَنْ جاءَكَ مِنَّا فاقصُصْ عَلَيْهِ». رَواهُ البُخاريُّ (5784) ومُسلمٌ (3356) مِنْ حَديثِ أُسامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ولهَذا يَنبَغي لأهلِ العِلمِ ورَثَةُ الأنبياءِ أنْ يَتأسَّوا بالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ فلا يَدَعوا طَريقًا يتَمكَّنونَ مِنْ خِلالِهِ أنْ يَدعُوا الناسَ ويُبصِّروهُم بما يَنفعُهُم إلَّا ويَسلُكُونَهُ؛ فإنَّ الناسَ أحوَجُ ما يَكونونَ اليَوْمَ إلى مَنْ يَدَلُّهم عَلَى الطَّريقِ يَهديهِمُ السَّبيلَ، لا سِيَّما وأنَّ دُعاةَ الباطِلِ عَلَى اختِلافِ ألوانِهِ وأطيافِهِ يَتفانُونَ في نَشْرِ بِضاعَتِهِم وتَرويِجها ودَعوَةِ الناسِ إلَيْها.
وسُنَّةُ اللهِ في مُدافَعَةِ الباطِلِ وأهلِهِ تَقتَضي أنْ يُدافَعَ الباطلُ بالدَّعوَةِ إلى الهُدَى والحَقِّ، وأنْ يُزاحَمَ أهلُ الشرِّ في كُلِّ مَواقِعِ التَّأثيرِ عَلَى اختِلافِها وتَنوُّعِها، فلا يُسوَّغُ لأهلِ الحَقِّ أنْ يَقنَعوا بالضيِّقِ مِنْ وَسائِلِ التأثيرِ ويُعرِضوا عَنْ رَحِبِها، كما لا يُسوَّغُ أنْ يَتوارَى الحَقُّ أو أنْ يَنزَويَ أهلُهُ عَنْ مَجالاتِ التأثيرِ بحُجَّةِ وُجودِ الباطِلِ أو أهلِهِ، بَلْ إنَّ كُلَّ تأخُّرٍ في المُشارَكةِ أو إحجامٍ عَنِ التقدُّمِ إلى تِلْكَ المَواقِعِ سَبَبٌ لفَواتِ خَيْرٍ كَثيرٍ ووُقوعِ فسادٍ كبيرٍ، فكَمْ خَسِرَتِ الدَّعوَةُ والأُمَّةُ بسَببِ تأخُّرِ كَثيرٍ مِنْ عُلَمائِها ودُعاتِها في استِثمارِ الإعلامِ ووسائلِهِ في خِطابِ الناسِ ودَعوتِهِم.
أيُّها الأحِبَّةُ، إنَّ للإعلامِ المُعاصِرِ بشَتَّى صُوَرِهِ ووَسائلِهِ وقَنواتِهِ المَرئيِّ مِنْها والمَسموعِ والمَكتوبِ دَوْرًا رَئيسًا في صِياغَةِ عُقولِ الناسِ وقُلوبِهِم وأعمالِهِم، وقَدْ فَطِنَ لهَذا الدَّوْرِ أعداءُ الأُمَّةِ فاستَثمَروا الإعلامَ بوَسائلِهِ وقَنواتِهِ لتَحقيقِ أغراضِهِم ونَشْرِ فَسادِهِم في الأُمَّةِ، فحقٌّ عَلَى دُعاةِ الحَقِّ وحَمَلةِ الشريعَةِ أنْ يَتقدَّموا إلى هِدايَةِ الناسِ ودَعوَتِهِم عَبْرَ الوسائِلِ الإعلاميةِ المُمكِنَةِ ومِنْ خِلالِ النَّوافِذِ المُتاحَةِ قَبْلَ أنْ يَتخَطَّفَ الناسَ دُروبُ الرَّدَى ومَسالِكُ الغِوايَةِ وسَماسِرةُ الباطلِ.
أيُّها الأحِبَّةُ، إنَّنا في أمَسِّ الحاجَةِ إلى استِثمارٍ فاعلٍ راشدٍ لكُلِّ وَسائِلِ الإعلامِ والاتِّصالِ بالناسِ مُسلمِهِم وكافرِهِم، شَريطَةَ أنْ يَكونَ ذَلِكَ الاتِّصالُ مُتَّسِمًا بإخلاصٍ، في جِدٍّ وقُوةٍ، في حُسنِ عَرضٍ؛ كما قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يُوسَفَ: 108] .
فيا دُعاةُ الحَقِّ، ويا حمَلةَ الشريعَةِ، ويا أهلَ العِلمِ والفَضْلِ، لا وَقْتَ لتردُّدٍ أو إعادةِ نَظرٍ في أمرٍ مَصالِحُهُ رابيَةٌ ومَفاسِدُهُ خابيَةٌ، فكَمْ هُمُ الَّذينَ يَنتَظِرونَ الكَلِمةَ الصادِقَةَ والدعوَةَ الراشدةَ الَّتي تُخرِجُهُم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، وتَهديهِمِ سُبُلَ السَّلامِ، فهَلْ مِنَ الشَّرعِ أو العَقلِ أنْ نُطفِئَ الشُّموعَ لانتِشارِ الظَّلامِ.
فالبِدارَ البِدارَ إلى كُلِّ سَبيلٍ تُضِيءُ فِيهِ مِصباحًا، أو تُنقِذُ فِيهِ غَريقًا، أو تَهدِي فِيهِ ضالًّا؛ فلَأَنْ يَهدِي اللهُ بِكَ رَجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ.
اللهُمَّ ألهِمْنا رُشدَنا، وقِنا شرَّ أنفُسِنا.