بعث الله ـ تعالى ـ محمدًا ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، بعثه الله ـ تعالى ـ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11] .
ولا غَرْو أن مِن أهم ما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إصلاحُ الأخلاق وتكميلُ مكارم الخصال؛ روى الإمام أحمد (8939) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» وفي رواية عند الحاكم (4221) قال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ».
فإصلاح الأخلاق من أبرز ما دعا إليه النبي الكريم ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يدرك ذلك كلُّ من عرف دعوته، فهو من العناوين الكبرى في دعوة الإسلام؛ روى البخاري في صحيحه (3861) أن أبا ذرٍّ قبل إسلامه بعث أخاه ليستعلم له خبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وينظر ما الذي جاء به محمد، فرجع بخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: «رأيتُه يأمرُ بمكارمِ الأخلاق».
إن الإسلام بعقائده وأحكامه جاء لينقل البشر في خطواتٍ فسيحةٍ وقفزاتٍ كبيرةٍ من الرذائل بأصنافها إلى الفضائل بأنواعها، فمحاسن الأخلاق ليست من نوافل القربات، بل هي من أصول الطاعات، فهي تتبوَّأ منزلةً عُليا في طريق السير إلى الله.
روى البخاري (6035) ومسلم (2321) من حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا». فبقدر ما معك من الأخلاق الكريمة بقدر ما يعلو نصيبك من التديُّن الصحيح، فالدين كلُّه خُلُق، فمَن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الدين؛ يشهد لذلك ما رواه أحمد من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا». قال الفُضيل رحمه الله: «مَن ساء خُلُقه ساءَ دِينُه».
فدين المرء منقوص حتى يكمل محاسن الأخلاق، ويستقيم مع الخَلْق في معاملته؛ فيبذل الخير لهم ويكفّ الشر عنهم، ويسارع إليهم في الإحسان، وتأكيد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ارتباطَ حُسن الخُلُق بكمال التدين الصادق جاءت به أحاديث كثيرة؛ منها مارواه أحمد (7879) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ». فمن كان من طبْعه وعادته كُفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم فسيكون ذلك من عادته في نعمة الله تعالى وشكره، فلا عجب أن يدرك المؤمن بحسن خُلُقه درجة الصائم القائم كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها.
وقد قال الشاعر:
لو أنني خُيِّرتُ كلَّ فضيلةٍ *** ما اخترتُ غيرَ مكارم الأخلاقِ
إن جمال محاسن الأخلاق وبهاءها لا يقتصر على تعدادها، وذكر فضائلها والإشادة بها وبأهلها، بل الجمال الحقيقي لمكارم الأخلاق في العمل بها، وترجمتها واقعًا حيًّا في أخلاق الناس وعلاقاتهم.
كُثرٌ هم أولئك الذين يَطْربون لمحاسن الأخلاق؛ فيعجبهم الكرم، ويأسرهم الجود، ويمتدحون الصبر والحِلم، والرفق والأناة، والشجاعة والنجدة، وحُسن الجوار، وصِلة الأرحام، والوفاء بالوعد، والصدق في الحديث، وغير ذلك من خصال البِرِّ وطيِّب السجايا، لكن ما أكثر مَن يقتصر حظه من هذه الأخلاق على الإعجاب بها والإطراء لها.
ما أعلمَ الناسَ أنَّ الجُودَ مَكسبةٌ *** للحمدِ لكنَّهُ يأتي على النَّشَبِ
فكم نسمع من مدحٍ للجود باللسان وإيثار الشح بالفعل، وتمجيدِ الكرم بالقول ومفارقته بالعمل، وإطراء سائر مكارم الخلال ومحاسن الخصال وتعطيل ذلك في الفعال، وصدق القائل:
*الجُود يُفقِرُ والإقدامُ قتَّالُ*
إننا ندعو إلى أن نترجم حُسن الخُلُق في واقع أعمالنا، وأن نغالب أنفسَنا على التخلُّق بالمكارم وتخطي العوائق، وهذا يتطلب منا مراجعةً فاحصةً لسلوكنا، وعينًا باصرةً في معاملاتنا، واجتهادًا متواصلًا تقويمًا وتصحيحًا، وعملًا دائبًا لإدراك المحاسن وإحياء المكارم.
وإنْ هو لمْ يَحمِلْ على النفسِ ضَيْمَها *** فليسَ إلى حُسنِ الثَّناءِ سبيلُ
إننا نشاهد في حياتنا اليومية من أنفسنا وممن حولنا مخالفات كثيرة، وانتهاكات عديدة لطيب الأخلاق وكريم الخصال، وإنني أزعم جازمًا أن أكثر تلك الانتهاكات ليست عن جهل بالفضائل وعدم علم بالمكارم، لكنه التواني عن العمل بها، والفشل في حمل النفوس عليها.
اللهمَّ ألهِمنا رشدنا، وقنا شرَّ أنفسنا.