الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى المَبعوثِ رَحْمةً للعالَمِينَ نَبيِّنا مُحمدٍ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ أجمَعينَ.
أمَّا بَعْدُ:
فغَيْرُ خافٍ عَلَى مَنْ لَهُ عِلمٌ ومَعرِفَةٌ بدِينِ الإسلامِ أنَّ للعُلَماءِ مِنْ رَفيعِ المَنزِلَةِ وعُلوِّ المَكانَةِ وسَبْقِ الفَضلِ ما لا يُزاحِمُهُم فِيهِ غَيْرُهُم مِنْ أصنافِ الناسِ؛ ففضائِلُهُم في الكِتابِ والسُّنَّةِ مَشهورَةٌ ومَناقِبُهُم فِيهِما مَنشورَةٌ؛ فهُمُ الواسِطَةُ بَيْنَ اللهِ وبَيْنَ عِبادِهِ في تَبليغِ الشَّريعَةِ والدَّلالَةِ عَلَيْهِ-جَلَّ وعَلا- قالَ سُفيانُ بنُ عُيَيْنةَ: "أرفَعُ الناسِ مَنزِلَةً مَنْ كانَ بَيْنَ اللهِ وبَيْنَ عِبادِهِ، وهُمُ الأنبياءُ والعُلَماءُ". فالعُلَماءُ خُلَفاءُ الرُّسُلِ في أُمَمِهِم ووارِثوهُم في عِلمِهِم، يَحتاجُ إلَيْهِمُ الصَّغيرُ والكَبيرُ، والذَّكَرُ والأُنثَى، والحاكِمُ والمَحكومُ. فالواجِبُ عَلَيْهِم عَظيمٌ بقَدْرِ ما تَبوَّءوهُ في الأُمَّةِ مِنَ المَكانَةِ والمَنزِلَةِ، فبصَلاحِهِم وقيامِهِم بما فَرضَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النُّصْحِ والبَيانِ يُصلِحُ مَعاشَ الناسِ ومَعادُهُم. ولهَذا قِيلَ: إنَّ زَلَّةَ العالِمِ كالسَّفينَةِ تَغرَقُ ويَغرَقُ مَعَها خَلْقٌ كَثيرٌ.
ولقَدْ أخَذَ اللهُ عَلَى أهلِ العِلمِ مِيثاقَ البَيانِ وعَدمَ الكِتمانِ كما قالَ تَعالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}آلِ عِمرانَ: 187 وذَمَّ الكاتِمينَ للحَقِّ المُعرِضينَ عَنِ القِيامِ بِهِ، فقالَ تَعالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}البَقرَةِ: 140 وقالَ ـ تَعالَى ـ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} البَقرَةِ:159 وإنَّ وُجوبَ البَيانِ والنُّصحِ للأُمَّةِ عَلَى أهلِ العِلمِ ليَتأكَّدَ في أزمِنَةِ الفِتَنِ وأيَّامِ المِحَنِ الَّتي تَنطَمِسُ فِيها سُبلُ الهُدَى ويَلتَبِسُ فِيها الحقُّ بالباطِلِ، وتَستَحكِمُ فِيها الأهواءُ، ويَتَّبِعُ الناسُ فِيها كُلَّ ناعِقٍ، ويَخْفَى فِيها الحقُّ عَلَى طالبِهِ، ولذَلِكَ شَبَّهَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- الفِتَنَ بقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، أي: الأسوَدِ الَّذي لا نُورَ فِيهِ، كما في قَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ؛ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»رَواهُ مُسلمٌ (169) مِنْ حَديثِ أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ولقَدْ مَرَّتْ أُمَّةُ الإسلامِ عَبْرَ تاريخِها بأزَماتٍ كَثيرةٍ وفِتَنٍ مُتلاحِقَةٍ، قَيَّضَ اللهُ فِيها للأُمَّةِ مِنْ أهلِ العِلمِ والفَضْلِ وأهلِ النُّصحِ والعَدلِ مَنْ أنقَذَ بِهِمُ الأُمَّةَ وحَفِظَ بِهِمُ المِلَّةَ، فأثَرُ العُلَماءِ ودَوْرُهُم في إخراجِ الأُمَّةِ مِنَ الفِتَنِ والنَّجاةِ بها مِنْ مُتلاطِمِ المِحَنِ مَشهورٌ مَذكورٌ، فمَعَهُم مَصابيحُ الدُّجَى ومَشاعِلُ الهِدايَةِ الَّتي يُخرِجُ اللهُ بِها الناسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ. وقَدْ بَشَّرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- هذِهِ الأُمَّةَ بالعِزِّ والسَّناءِ والرِّفعَةِ، وأنَّهُ لن يَزالَ فِيها قائِمٌ بأمْرِ اللهِ حَتَّى تَقومَ الساعَةُ ففي البُخاريِّ 6767 ومُسلمٍ 3545 مِنْ حَديثِ المُغيرَةِ وغَيْرِهِ؛ قالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ». وأهلُ العِلمِ هُم أئِمَّةُ هذِهِ الطائِفَةِ الظاهِرَةِ المَنصورَةِ، ولا رَيْبَ أنَّ أُمَّةَ الإسلامِ اليَومَ في شَرْقِ الأرضِ وغَربِها تَمُرُّ بمَرحلَةٍ بالِغَةِ الحَساسيةِ والخُطورةِ، هِيَ أحوجُ ما تَكونُ فِيها إلى أهلِ العِلمِ الرَّاسِخينَ في عُلومِهِم، العامِلينَ لدِينِهِم، النَّاصِحينَ لأُمَّتِهِم، العالِمِينَ بواقِعِ الأُمَّةِ وما يُحيطُ بِها مِنْ أخطارٍ، فهَؤلاءِ بِهِم تَسيرُ السَّفينَةُ ويُبلَغُ المَقصودُ، بَلِ الأُمَّةُ اليَوْمَ بحاجَةٍ إلى كُلِّ جُهْدٍ مِنْ أبنائِها المُشْفِقينَ البَرَرةِ، فكَيْفَ يُسوَّغُ في مِثْلِ هذِهِ الظُّروفِ الحرِجَةِ مِنْ تاريخِ أُمَّتِنا أنْ يَترجَّلَ الفارِسُ وأنْ يَنزَويَ أهلُ العِلمِ والخَيرِ عَنْ ساحاتِ البَيانِ والنُّصحِ ومَواقعِ التأثيرِ والإصلاحِ؟! بَلِ الواجِبِ عَلَى كُلِّ صاحِبِ عِلمٍ وخَيرٍ أنْ يُساهِمَ في نُصحِ الأُمَّةِ بما يَستَطيعُ مِنْ قَولٍ أو رَأيٍ أو عَملٍ، وأنْ يَتقدَّمَ كُلُّ ناصِحٍ إلى مَيادينِ الدَّعوَةِ والبِناءِ بإخلاصٍ وجِدٍّ وعِلمٍ وبَصيرةٍ، فإنَّ نَصْرَ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- ونَصرَ دِينِهِ واجِبٌ عَلَى أهلِ الإيمانِ؛ قالَ اللهُ تَعالَى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} مُحمدٍ: 7. ومِنْ رَحمَةِ اللهِ وسِعَةِ فَضلِهِ أنَّ نَصرَ المُؤمِنينَ لِلَّهِ ولدِينِهِ لا يحُدُّهُ حَدٌّ، ولا يَقِفُ عِندَ رَسمٍ، بَلْ إنَّ استِقامَةَ الواحِدِ مِنَّا في نَفسِهِ مِنْ نَصرِنا لِلَّهِ تَعالَى.
فيَنبَغي أنْ لا يُحقِّرَ أحدُنا في هَذا السَّبيلِ شَيئًا، فقَدْ قالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فيما رَواهُ البُخاريُّ مِنْ حَديثِ أبي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ»صَحيحُ البُخاريِّ (6478). فكُلُّ جُهدٍ في نَصرِ دِينِ اللهِ والذَّبِّ عَنْ أُمَّةِ الإسلامِ نافِعٌ مَبرورٌ مَهْما قَلَّ في أعيُنِ الناسِ وصَغُرَ؛ رَوَى البُخاريُّ في صَحيحِهِ 2681 أنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- قالَ لسَعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا رَأَى لنَفسِهِ عَلَى مَنْ دُونَهُ فَضْلًا: «هل تُنصَرونَ وتُرزَقونَ إلَّا بضُعَفائِكُم» ورَواهُ النَّسائيُّ (3127) بلفْظِ: «إنَّما يَنصُرُ اللهُ هذِهِ الأُمَّةَ بضَعيفِها بدَعوتِهِم وصَلاتِهِم وإخلاصِهِم». وفي لَفظٍ آخَرَ 3128 «ابغُوني الضَّعيفَ؛ فإنَّكُمْ إنَّما تُرْزَقونَ وتُنْصَرونَ بضُعفائِكُم».
إنَّ نَجاحَ أهلِ العِلمِ في الاضطلاعِ بدَوْرِهِم وفي إنقاذِ الأُمَّةِ، والخُروجِ بِها مِنْ حَلَقاتِ الفِتَنِ وسَلاسِلِ المَحَنِ والإبحارِ بِها نَحْوُ الغاياتِ العِظامِ لا يُمكِنُ بُلوغُهُ ولا سَبيلَ إلى إدراكِهِ إلَّا بأسبابِ تَمخُرُ بها سَفينَةُ الأُمَّةِ عُبابَ هذِهِ الأمواجِ المُتلاطِمَةِ؛ فإنَّ السَّفينَةَ لا تَجري عَلَى اليَبَسِ، وهذِهِ الأسبابُ سِلسِلَةٌ مِنْ خِصالِ البِرِّ مِنْ إخلاصِ العَملِ لِلَّهِ تَعالَى وإصلاحِهِ بمُتابَعَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وتَقوَى اللهِ تَعالَى في السرِّ والعَلنِ، والنُّصحِ للأُمَّةِ والتحَلِّي بأحسَنِ الأخلاقِ مِنَ العِلمِ والحِلمِ واللِّينِ والرِّفْقِ والصَّبرِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفاتِ الخَيرِ الَّتي تَتحقَّقُ بها صِفاتُ الأَئِمَّةِ المُتَّقينَ الَّتي يَنتَظِمُها قَوْلُ اللهِ تَعالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}الأعرافِ: 199 وقَوْلُهُ تَعالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}السَّجدَةِ: 24 إنَّ كَثيرًا مِنْ أهلِ العِلمِ الَّذينَ يَحمِلونَ هَمَّ هِدايَةِ الأُمَّةِ وإصلاحِ أوضاعِها لا يَخفَى عَلَيْهِم ما لهذِهِ الأسبابِ مِنَ الأهميَّةِ والأثَرِ إلَّا أنَّ هُناكَ سَببًا رَئيسًا غائِبًا غَفلَ عَنْهُ كَثيرونَ، وهُوَ لا يَقِلُّ أهميَّةً عَنِ الأسبابِ المُتقدِّمَةِ لإنجاحِ دَوْرِ العُلَماءِ المَنشودِ في إنقاذِ الأُمَّةِ مِنَ الفِتَنِ والمِحَنِ، ألَا وهُوَ تَواصُلُ أهلِ العِلمِ فِيما بَيْنُهم وتَواصيهِم بالبِرِّ والتَّقوَى والصَّبرِ والمَرحمَةِ وتَعاوُنِهِم في ذَلِكَ.
إنَّ أهلَ العِلمِ بحاجَةٍ ماسَّةٍ إلى أنْ يَمُدُوا بَيْنَهُم جُسورَ المَحبَّةَ والأُلفَةَ والاجتِماعِ والأُخوَّةِ والمَشورَةِ، فإنَّ كَثيرًا مِنَ الخَيرِ وحَظًّا وافِرًا مِنَ الإصلاحِ يَتحقَّقُ بذَلِكَ، ويَتأكَّدُ هَذا التَّواصُلُ والتَّواصِي في النوازِلِ الكِبارِ والأزَماتِ الجِسامِ لأُمورٍ عَديدةٍ أبرزُها ما حَوتْهُ النِّقاطُ التاليَةُ: أوَّلًا أنَّ مُعالجَةَ ما تَمُرُّ بِهِ الأُمَّةُ مِنْ أخطارٍ ومُواجهَةَ ما يَعصِفُ بِها مِنْ أحداثِ أمرٍ يَفوقُ جُهودَ الأشْخاصِ ويَتجاوزُ طاقاتِ الأفرادِ مَهْمَا كانَتْ ألمَعيَّةُ عُقُولِهِم ورُسوخُ عُلُومِهِم، وقَدْ كانَ سَلَفُنا يَقولونَ في بَعضِ ما يَرِدُ عَلَيْهِم مِنْ مَسائِلِ العِلمِ: هذِهِ مَسألَةٌ لو وَردَتْ عَلَى عُمَرَ بنِ الخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لجَمعَ لَها أهلَ بَدْرٍ، فإذا كانَ هَذا هَديَهُم في المَسائِلِ الشَّخصيَّةِ الفَرديَّةِ، فكَيْفَ بالنوازِلِ المَصيريَّةِ الَّتي يَتأثَّرُ بِها واقِعُ الأُمَّةِ ويَرتَسِمُ بِها مُستَقبَلُها، أفَيَسَوَّغُ أنْ يُبتَّ فِيهِ فَردٌ أو يَستَقِلَّ بِها رَأيٌ؟! فلَيْتَ شِعْرِي مَنِ الَّذي تَقوَّى دِرْعُهُ عَلَى تِلْكَ السِّهامِ. فلا بُدَّ مِنْ تَضافُرِ الجُهودِ وتَراصِّ الصُّفوفِ ونَبذِ الاعتِدادِ بالنَّفسِ والاستِبدادِ بالرَّأْيِ وتَضخيمِ الذَّاتِ، اللَّهُمَّ ألهمْنا رُشدَنا وقِنا شَرَّ أنفُسِنا.
ثانيًا: إنَّ جُزءًا كَبيرًا ممَّا أصابَ الأُمَّةَ ويُصيبُها مِنَ الفِتَنِ والنَّكَباتِ إنَّما هُوَ بسَببِ ما جَرَى في الأُمَّةِ مِنْ التَّنازُعِ والفُرقَةِ؛ قالَ شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ: "وهَذا التَّفريقُ الَّذي حَصَلَ مِنَ الأُمَّةِ عُلَمائِها ومَشايخِها وأُمَرائِها وكُبَرائِها هُوَ الَّذي أوجَبَ تَسلُّطَ الأعداءِ عَلَيْها".
ثالثًا: إنَّ مِمَّا يُؤكِّدُ ضَرورةَ أهلِ العِلمِ إلى وَصلِ ما بَيْنَهُم في أيامِ الفِتنِ وتَواصيهِم بالحَقِّ والصَّبرِ أنَّ الفِتَنَ -أعاذَنا اللهُ مِنْها- تُغيِّرُ القُلوبَ وتُشوِّشُ عَلَيْها بِما تَبعَثُهُ مِنَ الشُّبُهاتِ المانِعَةِ مِنْ مَعرِفَةِ الحَقِّ والحائلَةِ دُونَ قَصدِهِ؛ ولهَذا وَصفَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- الفِتَنَ بأنَّها كقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ كما جاءَ في صَحيحِ مُسلمٍ 169 مِنْ حَديثِ أبي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قالَ رَسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: «بادِرُوا بالأعمالِ فِتَنًا كقِطَعِ اللَّيلِ المُظلمِ»، ووصَفَها أيضًا بأنَّها عَمياءُ صَمَّاءُ كما في سُنَنِ أبي داودَ 3706 مِنْ حَديثِ حُذَيفَةَ. وإنَّما وُصِفَتِ الفِتنَةُ بذَلِكَ؛ لأنَّ الإنسانَ يَعمَى فِيها عَنْ أنْ يَرَى الحَقَّ، وأنْ يَسمَعَ فِيها كَلمَةَ الحَقِّ.
رابِعًا: إنَّ واجِبَ النَّصيحَةِ للأُمَّةِ يتَطلَّبُ مِنْ أهلِ العِلمِ وَرثَةِ الأنبياءِ أنْ يَبذُلوا وُسعَهُم في دَلالَةِ الأُمَّةِ عَلَى خَيرِ ما يُعلِّمونَهُ لَهُم وأنْ يحذِّروهُم شَرَّ ما يُعلِّمونَهُ لَهُم، وإنَّما يَبلُغُ الناصِحُ ذَلِكَ بالاجتِهادِ في تَبيُّنِ الصَّوابِ ومُشاوَرةِ أُولِي الألبابِ مِنْ إخوانِهِ، فقَدْ أثنَى اللهُ عَلَى أهلِ الإيمانِ بهَذا فقالَ في سِياقِ الثَّناءِ عَلَيْهِم: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} الشُّورَى: 38. وما كانَ أغنَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- عَنْ أنْ يُشاوِرَ أحَدًا، وقَدْ تَكفَّلَ اللهُ لَهُ بالهِدايَةِ والنَّصرِ، ومَعَ ذَلِكَ فقَدْ أمَرَهُ اللهُ تَعالَى بمُشاوَرَةِ أصحابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- فقالَ تَعالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}آلِ عِمرانَ: 159. ولقَدْ بادَرَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- إلى الأخْذِ بذَلِكَ حَتَّى قالَ أبو هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كما في التِّرمذيِّ: ما رَأيْتُ أحَدًا أكثَرَ مَشورَةً لأصحابِهِ مِنْ رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فواجِبٌ عَلَى وَرثَتِهِ أنْ يَتأسَّوا بِهِ؛ قالَ بَعضُ البُلَغاءِ: مِنْ حَقِّ العاقلِ أنْ يُضيفَ إلى رَأيهِ آراءَ العُقَلاءِ، ويَجمعَ إلى عَقلِهِ عُقولَ الحُكَماءِ، فالرَّأْيُ الفَذُّ رُبَّما زَلَّ، والعَقلُ الفَردُ رُبما ضَلَّ. وقالَ بَشَّارُ بنُ بُرْدٍ:
إِذَا بَـلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُـورَةَ فَاسْتَعِنْ بِرَأْيِ نَصيحٍ أَوْ نَصيحَةِ حَازِمِ
وَلَا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً فَإِنَّ الخَـوَافِي قَـوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ
ولا طَريقَ إلى تَحصيلِ ذَلِكَ مَعَ هَذا التقاطُعِ الَّذي يُخيِّمُ عَلَى عِلاقَةِ كَثيرٍ مِنْ أهلِ العِلمِ والفَضلِ ويُعَدُّ مِنْ أكبَرِ العَوائقِ دُونَهُ.
خامسًا: إنَّ كَثيرًا مِنَ الشرِّ وفَسادِ ذاتِ البَيْنِ الواقِعِ بَيْنَ أهلِ العِلمِ مَنشَؤُهُ ما يَكونُ بَيْنُهم مِنْ تَباعُدٍ وتَقاطُعٍ يُورِثُهُم بُذورَ الجَفوَةِ الَّتي يَسقيها سُعاةُ الباطلِ ونَزغاتُ الشيطانِ، فالتواصُلُ والتَّواصِي ضمانَةٌ لتَضييقِ الدائرَةِ عَلَى أسبابِ الفُرقَةِ، وهُوَ كَفيلٌ بمَحوِ بُذورِ الجَفوَةِ، وإشاعَةِ الأُلفَةِ والمَحَبَّةِ، ومِمَّا قِيلَ: المَحبَّةُ شَجرَةٌ أصلُها الزِّيارَةُ.