ذكرُ اللهِ تعالى وفضائله
الخطبة الأولى :
إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
فَيا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً؛ فَإِنَّهُ سُبْحانَهُ أَظْهَرَ لَكُمْ في الآفاقِ وَالأَنْفُسِ في السَّماواتِ وَالأَرْضِ مِنَ العَجائِبِ وَالآياتِ، ما يُذَكِّرُكُمْ بِاللهِ رَبِّكُمْ، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، أَظْهَرَ لَكُمُ سُبْحانَهُ قُدْرَتَهُ وَبَدِيعَ مَصْنُوعاتِهِ لِتَذْكُرُوهُ وَتَشْكُرُوهُ، فَجَعلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمراتِ رِزْقاً لَكُمْ، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، خَلَقَكُمْ أَيُّها النَّاسُ مِنْ عَدَمٍ، وَأَعْطاكُمُ العُقُولَ وَالأَسْماعَ وَالأَبْصارَ، سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ، فالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَىَ، قَدَّرَ فَهَدَى، وَخَلَقَ فَسَوَّىَ، فَلا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْماءُ الحسْنَى فادْعُوهُ بِها.
أَيُّها المؤْمِنُونَ اذْكُرُوا اللهَ تَعالَى، وَاعْتَبِرُوا بِهَذِهِ الآياتِ، تَفَكَّرُوا فِيها فَإِنَّ التَّفَكُّرَ يَعْقُبُهُ التَّذَكُّرُ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَىَ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ سُورَةُ ق (37) .
عباد الله إِنَّ أَفْضَلَ أَعْمالِ أَهْلِ الإِيمانِ ذِكْرُ اللهِ تَعالَى:﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ سُورَةُ الرَّعْدِ (28).، رَوَى الإِمامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحيحٍ عَنْ أَبِي الدَّرْداءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ, وَأَرْضَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (21195)، وَالتِّرْمِذِيُّ (3377)، وَابْنُ ماجَهْ (3790) مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْداءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَالحَدِيثُ حَسَّنَهُ الهَيْثَمِيُّ في مَجْمَعِ الزَّوائِدِ (16743)..
فإذا ذَكَرَ العَبْدُ اللهَ تَعالَى بِلِسانٍ يَخْفِقُ مَعَهُ القَلْبُ مَحَبَّةً وَتَعْظِيماً للهِ تَعالَى، حَصَّلَ بِذَلِكَ أَجْراً عَظِيماً وَسَبْقاً بَعِيداً، فَإِنَّ الذَّكْرَ الصَّادِقَ يُحْيِي القُلُوبَ وَيُطَيِّبُها وَيُزَكِّيها، فَفِي "صَحِيحِ البُخارِيِّ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوَسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الحَيِّ وَالميَّتِ) صَحِيحُ البُخارِيِّ" (6407).
وَذِكْرُ اللهِ أَيُّها المؤْمِنُونَ: سَبَبٌ لِذَهابِ المخاوِفِ أَوْ تَبْدِيدِها، وَحُصُولِ الأَمْنِ وَالاطْمِئْنانِ، قالَ تَعالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ سُوَرَةُ الرَّعْدِ (28)، فَكُلَّما ازْدادَ العَبْدُ ذِكْراً للهِ انْشَرَحَ صَْدَرُهُ وَاطْمَأَنَّ فُؤادُهُ، وَذَهَبَ عَنْهُ هَمُّهُ وَغَمُّهُ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ إِنَّ ذِكْرَ اللهِ تَعالَى بِاللِّسانِ وَالقَلْبِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ تَثْبِيتِ القُلُوبِ عَلَىَ الحَقِّ وَالهُدَى، قالَ اللهُ تَعالَى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ سُورَةُ الأَنْفالِ (45) .
وَذِكْرُ اللهِ أَيُّها المؤْمِنُونَ سَبَبٌ عَظِيمٌ مِنْ أَسْبابِ الانْتِصارِ عَلَى الشَّيْطانِ، وَإِضْعافِ كَيْدِه، وَإِبْطالِ مَكْرِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطانَ يَهْرُبُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَيَخْنُسُ وَيَضْمَحِلُّ، رَوَىَ البُخارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:(إِنَّ الشَّيْطانَ إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ وَلَّىَ وَلَهُ ضُراطٌ) "صَحِيحُ البُخارِيِّ" (389)، وَمُسْلِمٌ (3285) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. ، وَشَواهِدُ هَذا كَثِيرَةٌ في السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةٍ المطَهَّرَةِ.
أَكْثِرُوا أَيُّها المؤْمِنُونَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعالَى في كُلِّ حِينٍ، سَواءٌ بِقِراءَةِ القُرْآنِ، أَوْ بِالتَّسْبيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ وَالاسْتِغْفارِ، وَسَواءٌ بِتَعَلِّمِ العِلْمِ أَوْ تَعْلِيمِهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعالَى.
عباد اللهِ إِنَّ أَقَلَّ قَدَرٍ يُلازِمُهُ العَبْدُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعالَى الأَذْكارُ المؤَقَّتةُ، كَأَذْكارِ أَدْبارِ الصَّلَواتِ، وَأَذْكارِ الصَّباحِ وَالمساءِ، وَأَذْكارِ النَّوْمِ وَالاسْتِيقاظِ، وَالأَذْكارِ المقَيَّدَةِ مِثْلُ ما يُقالُ عِنْدَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّباسِ وَالجِماعِ، وَدُخُولِ المنْزِلِ وَالمسْجِدِ وَالخَلاءِ وَالخُروجِ مِنْ ذَلِكَ، وَعِنْدَ المطَرِِ وَالرَّعْدِ وَما أَشْبَهَ ذَلِكَ.
ومِنْ أَفْضَلِ ما جُمِعَ في ذَلِكَ مِنَ الكُتُبِ: كِتابُ "الكَلِمِ الطَّيِّبِ" لِشِيخِ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَىَ ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ.
الخُطْبُةُ الثَّانِيَةُ :
أَمَّا بَعْدُ.
فَيا أَيُّها المؤْمِنُونَ.
رَوَىَ مُسْلَمٌ في "صَحِيحِهِ" مِنْ حَدِيثَ عائَشِةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ:"كانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللهَِ تَعالَى عَلَىَ كُلِّ أَحْيانِهِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (373) .
فاجْتَهِدُوا أَيُّها المؤْمِنُونَ في ذِكْرِ اللهِ تَعالَى كَثِيراً كَثِيراً، واذْكُرُوا قَوْلَ اللهِ تَعالَى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) سُورَةُ المنافِقُونَ (9) فَكانَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلَ الخَلْقِ ذِكْراً للهِ تَعالَىَ، فَكانَ ذِكْرُ النَّبِيِّ للهِ تَعالَىَ يَجْرِي مَعَ أَنْفاسِهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قائِماً وَقاعِداً وَعَلَىَ جَنْبِهِ، في مَشْيِه وَرُكُوبِهِ وَمَسِيرِهِ وَنُزولِهِ وَسَفَرِهِ وَإِقامَتِهِ، فَكانَ إِذا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ قالَ: ( الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيانا بَعْدَ ما أَماتَنا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (6312) وَمُسْلِمٌ (2711) ، ثُمَّ إِذا صَلَّى الفَجْرَ جَلَسَ في مُصَلَّاهُ يَذْكُرُ اللهَ تَعالَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ كَما في مُسْلِمٌ (670) مِنْ حَدِيثِ جابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.، وَكانَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللهَُ تَعالَى عِنْدَ دُخُولِ البَيْتِ وَالخُرُوجِ مِنْهُ، وَيَذْكُرُ اللهَ تَعالَى عَلَىَ طَعامِهِ وَشَرابِهِ وَلِباسِهِ وَجِماعِهِ لأَهْلِهِ، وَكانَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ رَبَّهُ وَمَوْلاهُ إِذا دَخَلَ الخَلاءَ وَإذا خَرَجَ مِنْهُ، وَكانَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْزَعُ إِلَى ذِكْرِ اللهِ عِنْدَ المصائِبِ وَالنَّوازِلِ، وَإِذا غَشاهُ كَرْبٌ أَوْ غَمٌّ أَوْ حُزْنٌ أَوْ هَمٌّ، وَكانَ يَذْكُرُ رَبَّهُ إِذا أَوَى إِلَى فِراشِهِ، فَكانَتْ حَياتُهُ كُلُّها ذِكْراً للهِ تَعالَى، وَفي المحْفُوظِ مِنْ هَدْيِِهِ وَسُنَّتِهِ مِنَ الأَذْكارِ وَالدَّعَواتِ ما يَشْهَدُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ اللهِ تَعالَى اسْتَوَعَبَ شُؤُونَ حَياةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّها، دِقِّها وَجُلِّها، صَغِيرِها وَكَبِيرِها.
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.