وَأَمَّا قِراءَةُ الجُنُبِ وَالحائِضِ لِلقُرْآنِ فَلِلعُلماءِ فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوالٍ: قِيلَ يَجُوزُ لِهَذا وَلِهَذا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالمشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَقِيلَ لا يَجُوزُ لِلجُنُبِ وَيَجُوزُ لِلحائِضِ إِمَّا مُطْلَقًا أَوْ إِذا خافَتِ النِّسْيانَ وَهُوَ مَذْهَبُ مالِكٍ وَقَوْلٌ في مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. فَإِنَّ قِراءَةَ الحائِضِ القُرْآنَ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُ الحَدِيثِ المرْوِيِّ عَنْ إِسْماعِيلَ بْنِ عَيَّاشِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: ((لا تَقْرَأُ الحائِضُ وَلا الجُنُبُ مِنَ القُرْآنِ شَيْئًا)) رَواهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِاتِّفاقِ أَهْلِ المعْرِفَةِ بِالحَدِيثِ. وَإِسْماعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ما يَرْوِيهِ عَنِ الحِجازِيِّينَ أَحادِيثٌ ضَعِيفَةٌ بِخِلافِ رِوايَتِهِ عَنِ الشَّامِيِّينَ وَلَمْ يَرْوِ هَذا عَنْ نافِعٍ أَحَدٌ مِنْ الثِّقاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّساءَ كُنَّ يَحِضْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ وَلَمْ يَكُنْ يَنْهَهُنَّ عَنْ قِراءَةِ القُرْآنِ كما لَمْ يَكُنْ يَنْهَهُنَّ عَنِ الذِّكْرِ وَالدُّعاءِ، بَلْ أَمَرَ الحُيَّضَ أَنْ يَخْرُجْنَ يَوْمَ العِيدِ فَيُكَبِّرُونَ بِتَكْبِيرِ المسْلِمينَ وَأَمَرَ الحائِضَ أَنْ تَقْضِي المناسِكَ كُلَّها إِلَّا الطَّوافَ بِالبَيْتِ تُلَبِّي وَهِيَ حائِضٌ وَكَذَلِكَ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المشاعِرِ. وَأَمَّا الجُنُبُ فَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَشْهَدَ العِيدَ لا يُصَلِّي وَلا أَنْ يَقْضِي شَيْئًا مِنَ المناسِكِ لأَنَّ الجُنُبَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَطَهَّرْ فَلا عُذْرَ لَهُ في تَرْكِ الطَّهارَةِ بِخِلافِ الحائِضِ فَإِنْ حَدَّثَها قائِمٌ لا يُمْكِنُها مَعَ ذَلِكَ التَّطَهُّرُ وَلِهَذا ذَكَرَ العُلَماءُ لَيْسَ لِلجُنُبِ أَنْ يَقَفَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى حَتَّى يَطْهُرَ وَإِنْ كانَتِ الطَّهارَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا في ذَلِكَ. لَكِنَّ المقْصُودَ أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ الحائِضَ أَمْرَ إِيجابٍ أَوْ اسْتِحْبابِ بِذِكْرِ اللهِ وَدُعائِهِ مَعَ كَراهَةِ ذَلِكَ لِلجُنُبِ فَعَلِمَ أَنَّ الحائِضَ يُرَخَّصُ لَها فِيما لا يُرَخَّصُ لِلجُنُبِ فِيهِ لأَجْلِ العُذْرِ وَإِنْ كانَتْ عُدَّتُها أَغْلَظَ. فَكَذَلِكَ قِراءَةُ القُرْآنِ لَمْ يَنْهَها الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ نَهَىَ الجُنُبَ لأَنَّ الجُنَبَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَيَقْرَأَ بِخِلافِ الحائِضِ تَبْقَى حائِضًا أَيَّامًا فَيَفُوتُها قِراءَةُ القُرْآنِ تَفْوِيتُ عِبادَةٍ تَحْتاجُ إِلَيْها مَعَ عَجْزِها عَنِ الطَّهارَةِ وَلَيْسَتِ القِراءَةُ كالصَّلاةِ فَإِنَّ الصَّلاةَ يُشْتَرَطُ لَها الطَّهارَةُ مَعَ الحَدَثِ الأَكْبَرِ وَالأَصْغَرِ وَالقِراءَةُ تَجُوزُ مَعَ الحَدَثِ الأَصْغَرِ بِالنَّصِّ وَاتِّفاقِ الأَئِمَّةِ وَالصَّلاةِ يَجِبُ فِيها اسْتِقْبالُ القِبْلَةِ وَاللِّباسِ وَاجْتِنابِ النَّجاسَةِ, وَالقِراءَةُ لا يِجِبُ فِيها شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ كانَ النَّبِيُّ يَضَعَ رَأْسَهُ في حِجْرِ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها وَهِيَ حائِضٌ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلنَّبِيِّ إِنِّي مُنْزِلٌ عَلَيْكَ كِتابًا لا يَغْسِلُهُ الماءُ تَقْرَأُهُ نائِما وَيَقْظانَ فَتَجُوزُ القِراءَةُ قائِمًا وَقاعِدًا وَماشِياً وَمُضَّطَجِعا وَراكِباً. مَجْمُوعُ الفَتاوَى 21/460.