الحمد لله رب العالمين، لا أحصي ثناءً عليه، له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحيَّا الله هذه الوجوه الطيبة، وأسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يجعلها وجوهًا مسفرة ضاحكةً مستبشرة، يوم العرض عليه، يوم العطاء والجزاء، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
أيها الأحباب أيها الإخوة أيها الأخوات الكريمات!
الحج عبادة، جمع الله تعالى فيها أنواعاً من القربات، هي دورة تدريبية يلجها المؤمن يخرج منها بفوائد عديدة، والناس في هذا مختلفون، الله تعالى يقول:)وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى( سورة البقرة، الآية:197 ، والناس في هذا الزاد متفاوتون، فمنهم من يغرف ويأخذ، ومنهم من يستقلّ في أخذه، وفي كل خير، لكن السابقون السابقون، السابقون إلى التزود من خير زادٍ في هذه الدنيا هم السابقون، يوم لا مال ولا بنون، يوم العرض والنشور، يوم الوقوف بلا درهم ولا دينار، ولا جاه ولا سلطان، كما قال الله تعالى: )وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ( سورة الأنعام، الآية:94، هذا شأننا الآن انظروا كيف نحن جالسون، في هذه الأسرَّة المتجاورة, منا الكبير، ومنا الغني، ومنا الفقير، ومنا متوسط الحال، حال واحدة، وانظروهم في الأرصفة كيف يجلسون، وانظرهم في الأبراج كيف يجلسون، كلهم سواء متقاربون مهما كان هناك تفاوت في الترف والأخذ والمتع، هم متقاربون، كلهم تركوا أموالهم وأولادهم وأوطانهم، وتركوا كل نعيم خلف ظهورهم، وجاءوا إلى هذا المكان، يوم العرض ما في سرر، ما في ثياب، ما في ثياب، ما في سلطان، )وتركتم ما خوَّلناكم(كل ما ملكناكم )وراء ظهوركم(، ليس معنا شيء إلا شيءٌ واحد، أتدرون ما هو؟ إنه العمل الصالح، إنه حصائد أعمالنا.
روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس أنَّ النَّبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابن آدم تبعه ثلاثة؛ ماله وأهله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، الذي يبقى هو العمل»[صحيح البخاري (2960)، ومسلم(2960/5)] يرجع الأهل والمال ويبقى العمل.
العمل ما هو؟ العمل هو سعيي وسعيك، هو ما أقوم به وما أنت تقوم به، ما يرصده الحاسبون وما يكتبه الحافظون، قال تعالى: )إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ( سورة الطارق، الآية:4 يحفظ عملها ويحفظ ما يكون منها، الدقيق والجليل، لا يغيب ظاهر ولا باطن، هذا هو الذي ستلقاه يوم القيامة، وها هو الذي به تتفاوت الدرجات، ويعلو به الناس في المنازل يوم القيامة، إنما هي الأعمال، قال تعالى: )وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( سورة الزخرف، الآية:72 ، فلا تستقلّ شيئًا فإن الله يعطي عطاءً جزيلًا على العمل القليل، فجد وأرِ الله من قلبك خيرًا، ومن عملك صالحًا وأبشر، فإن الله جلَّ وعلا، لا يضيع عمل عاملٍ منكم من ذكٍر أو أنثى، الشأن كل الشأن أن نستحضر من هذه الرحلة، ذلك الموقف العظيم الذي يجتمع فيه الخلق.
أرأيتم الآن؟ لو أنه حصل أي نوع من أنواع المفزعات لهذا الجمع، كيف حال الناس ستكون؟ في أمر مريج، الكل يقول: نفسي نفسي، ذاك اليوم أعظم وقد يكون فيه أشدّ، تذكر هذه الجموع، واذكر أنك ستقف في مثلها يومًا ما، بين يدي الله جلَّ في علاه، لا ينفعك جاه، ولا سلطان، ولا مال، ولا نسب، ولا شيء من هذه الدنيا كلها، إلا ما يكون من العمل الصالح.
فجوِّد مركبك، فالسير إلى الله عزَّ وجلَّ، إنما هو سير القلوب الصالحة الصادقة، وليس بسير الصور والأشكال.
قطع المسافة بالقلوب إليك لا بالسير فوق مقاعد الرُّكبانِ.
انتبه لقلبك!!!
فإنه مطيتك، انتبه لقلبك!!!
فإنه موضع نظر الله عزَّ وجلَّ.
كم من بهيّ الصورة، جميل الشكل، حسن المنطق، لا يزن عند الله جناح بعوضة.
وكم من إنسانٍ يتلعثم في قوله، ولا يجد من يقبله، إذا شفع لم يشفع، وإذا قال لن يسمع، لكنه عند الله بمنزلة عظيمة.
الفارق ليس في الصور، الله عزَّ وجلَّ يقول في المنافقين: )وَإِذَا رَأَيْتهمْ تُعْجِبُك أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَع لِقَوْلِهِمْ( سورة المنافقون، الآية:4، جمال في الشكل والصورة، وإن يقولوا في المنطق تسمع لقولهم، لجمال ألفاظهم وكلماتهم، لكن كل هذا يطير يتبدل، ولا قيمة له، إذا كان القلب عن الله غافلاً، عن الله صادّاً، أنتم جئتم إلى هذه البقعة لله لا لا لغيره، لذلك يقول الله جلَّ وعلاَّ، في أول آية فرض فيها الحج في مقدمة الآية، قبل أن يذكر العمل ذكر المقصود، قال جلَّ في علاه: )وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا( سورة آل عمران، الآية:97، لله ليس لغيره، فأخلصوا قصدكم لله، وعلموا والله أن السبق بالقلوب إليه، وليس بشيء آخر، لكن القلب وعاء يحتاج إلى تطهير وتنظيف وتطييبٍ وعناية، الّذي يهمل وعاءه يتسخ، والذي يهمل لباسه وإن كان أجدَّ ما يكون، وأنظف ما يكون، وأجمل ما يكون، إذا لم يتعهده بالتنظيف يتسخ، كذلك القلوب إذا لم نتعاهدها بالتطييب والتطهير والرعاية والنَّظر فإنها تمرض، وإذا مرضت ولم تُتدارك تهلك وتموت.
فأدركوا قلوبكم!!! وانتبهوا لها.
وأعظمُ ما يحيي القلوب ذكر الله جلَّ في علاه، ولهذا كانت هذه الرحلة مقترنة بالذكر، فالذكر فيها شكل غير عادي، في أول ذكرها وفي ثنايا ذكرها، أول ما تدخل تقول: لبيك اللهم لبيك، وآخر ما تفعل، حتى تتحلَّل تقول: الله أكبر، تفرغ من ذكر وتبدأ بذكر، فتنقطع التلبية عند رمي الجمار، مع أول تكبير تشرع في الذكر، والله تعالى في مواضع عديدة من آيات الحج يذكر الذكر، ويقول جلَّ وعلا:
)فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ( سورة البقرة، الآية:189.
)فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا( سورة البقرة، الآية:200
ثم في النهاية ماذا يقول؟ يقول جلَّ في علاه:
)وَاذكُرُوا اللهَ في أَيَّامٍ مَعدُودَاتٍ( سورة البقرة، الآية:203.
هي هذه الأيام التي نحن فيها أيها الإخوة والأخوات، هذه الأيام هي الأيام المعدودات، إنها أيام التشريق الثلاثة: الحادي عشر، الثاني عشر، الثالث عشر.
فاذكروا الله فيها بقلوبكم، هذا أصل الذكر، هذا منبع الذكر، أن يكون القلب ذاكرًا، كيف يكون القلب ذاكراً لله؟ أن يتأمل عظيم قدر هذا الرب جلَّ في علاه، فإذا سمع آياته وقرأ أسماءه وصفاته، تدبر عظمة هذا الإله، لا إله غيره، فإذا قرأ مثلًا:
)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ( سورة البقرة، الآية:255
قف عند هذه الآيات، عند هذه المقاطع من هذه الآية، قف عند هذه المعاني لترَ عظيم الجلال وكبير البهاء وعالي الأسماء والصفات، لتقف على شيءٍ يسير من عظمة الرب الكبير جل في علاه، عند ذلك ستكون ذاكرًا، وسيكون قلبك لله محبًّا، وله معظمًا وبهذا يتحقق التوحيد، تتحقق كلمة لا إله إلا الله، لأنها الكلمة القائمة على كمال الحب لله، وكمال التعظيم له جلَّ في علاه.
تأملوا هذه المعاني، واذكروا الله بقلوبكم، تأمَّلوا بديع صنعه، واللهُ لفت أنظاركم إلى كل شيء حتى إلى أنفسكم ،قال تعالى: )وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ( سورة الذاريات، الآية:21
حتى الأعمى، يستطيع أن يتدبر وينظر في كفه، كيف أبدع اللهُ هذا الصنع بهذه الأصابع، كيف يجري الدم؟ ليس هناك أحدٌ لا يستطيع أن ينظر ويتأمَّل، إلا من أغلق الله عليه الطرقَ وأغفل قلبه، قال تعالى:
)اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ الله( سورة المجادلة، الآية:19
إنَّ المؤمن يرى في كل شيء عبرة، وفي كل شيء آية، تذكره بالله عزَّ وجلَّ، وتعكس على قلبه تعظيمًا لله، قلوبنا هي حالنا في الآخرة، فإذا كان قلبًا سليمًا فأبشر، فإن القيامة يومٌ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
سلامة القلب محورها وأساسها توحيد الله وتعظيمه، حبه وإجلاله، هذا لا يأتي إلا بالعلم به، لذلك كان العلم بالله رأس العلم، ويتبعه بعد ذلك العلم بالطريق الموصل إليه.
فأقبلوا على الله إخواني!!!
وأكثروا من ذكره بقلوبكم، تأملًا بما ذكرت، بأسمائه وصفاته، وأفعاله وآلائه، وآياته في السماوات والأرض، أبصر بقلبك يا أخي .....أبصر بقلبك وانظر إلى هذه الآيات، التي تحيط بك من كل جانب، وتذكر المدبر رب العالمين، وسيكون لذلك أثر كبير في قلبك.
أما أن يكون الإنسان ذاكرًاً بلسانه: الله أكبر .. الله أكبر .. وما إلى ذلك من الأذكار وهو غافل، هذا على خير ويؤجر، لكن شتان بين من جمع بين ذكر اللسان وحياة القلب، وبين من أقتصر ذكره بربه على لسانه، فإنه وإن كان المنطق حسنًا، لكن القلب غافلٌ بعيدٌ.
إخواني!
الحج فرصة أن نراجع أنفسنا، وأهم ما نراجع "قلوبنا،" لنرجع إلى أهلنا ودورنا بقلوب غير التي جئنا بها، والأمر يسير وليس بعسير، لمن صدق مع الله، وضرع بين يديه خالصًا.
يا الله.. يا رب.. يا حيُّ يا قيوم.. أصلح قلبي، اُدع الله وألحَّ عليه أن يصلح قلبك، وأبشر فإنَّ الله لا يخيب من قصده، فما خاب من قصد الله وسأله، أبدًا والله ما يخيب.
والذي يسأل الهداية سيوفق لها، لكن اسألها بصدق، وأَمّلْ عطاء الله فإن الله لا يخيب من قصده.
هذه معاني يا إخواني يسيرة والباب واسع في تدبر معاني وفوائد هذا النسك العظيم، وأثر ذلك على السلوك، مبدأ الصلاح هو أن تصلح هذه المضغة، والعجيب أننا نهتم كثيرًا بأشكالنا ومظاهرنا. يمكن أن يكون عند الإنسان أدنى خلل في الظاهر والشكل فتراه يسأل عنه، لكن القلب الذي هو مناط النجاح والفلاح، قِلةٌ من يعتنون به، نوادر من يهتمون به.
هل في قلبك غل؟ طهر قلبك.
هل في قلبك حسد؟ طهر قلبك.
هل في قلبك عجب؟ طهر قلبك.
هل في قلبك كبر؟ طهر قلبك.
واذكر أن آفة القلب خطيرة، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَدْخُلُ الجنّةَ مَنْ كانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»[صحيح مسلم(91/147)]، بمعنى وزن الذرة الصغير، هذا إذا كان في قلبك وزن أقل ما يكون من النمل من الكبر، هذا يحول بينك وبين دخول الجنة حتى يطهر قلبك، فطهر قلبك واعتنِ به واسأل الله صلاحه، وألحَّ عليه فهو الكريم جلَّ في علاه، يُعطي على القليل الكثير.
اللهمَّ إنا نسألك باسمك العظيم، يا ذا الجلال والإكرام أن تصلح قلوبنا، اللهم أصلح قلوبنا، اللهم أصلح قلوبنا، اللهم ارزقنا قلوبًا سليمةً صالحة، اللهم أعنا على طاعتك واصرف عنا معصيتك، اللهم اجعلنا من حزبك وأوليائك، اللهم اجعل حجنا مبروراً، وسعينا مشكوراً، اللهم أحسن لنا المنقلب والعاقبة، اللهم أحسن لنا المنقلب والعاقبة، اللهم أعنا ولا تعن علينا، اللهم انصرنا على من بغى علينا، اللهم آثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم اجعلنا لك ذاكرين شاكرين، لك راغبين راهبين إليك أواهين منيبين ، اللهم تقبل توبتنا، وثبت حجتنا، واغفر زلتنا، وأقل عثرتنا، ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سوريا، اللهم كن لهم معينًا وظهيراً، اللهم كن لهم معينًا وظهيراً، اللهم انصرهم نصرًا عزيزا، اللهم قيض لهم من لدنك ناصرًا ووليًّا يا حي يا قيوم، اللهم اجمع كلمتهم على الحق، ألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، اللهم واحقن دماءهم، اللهم واستر عوراتهم، وآمن روعاتهم، اللهم أعطِ مثل ذلك لأهل السنة حيث كانوا، اللهم اكتب مثل ذلك لأهل الإسلام حيث كانوا، اللهم ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
جزى الله عنا شيخنا خير الجزاء، وجعل ما قدمه في موازين حسناته.. شيخنا الفاضل، هنا سائل يقول:
لقد تعلمت في فريضة الحج، الصبر والصلاة في وقتها، وقراءة القرآن مع الناس، ولكن كيف أستمر على ذلك بعد الحج، وآخر يقول: كيف أبتعد عن أصدقاء السوء بعد الحج؟
الحج بداية جديدة كصفحة جديدة بيضاء ،إذا امتلأت الصفحة بكتابات أو أي شيء، فأنت تبدأ صفحة جديدة، الحج أكبر من ذلك، الحج هدم ،أعظم هدم في الدنيا هدم الحج لأنه هدم السيئات، قال صلّى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»[صحيح البخاري(1521)].
وفي الصحيح من حديث عمرو بن العاص، قال النبي صى الله عليه وسلم: «ألم تعلم يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله»[صحيح مسلم(121/192)]
يهدم ماذا؟ يهدم بنيان السوء والشر، فاحرص على أن تبدأ صفحة جديدة، وأن يكون البناء صالحًا راشداً، أكثر من الاستغفار، وهذه الصالحات التي اعتدت عليها، وألِفتها في هذه الأيام المباركة، الزمها فإن فيها الصلاح.
الصحبة الطيبة، الصلاة، ذكر الله عزَّ وجلَّ، هي مفاتيح نجاة، سفن قوارب يخرج بها الإنسان من أمواج السوء والشر والفساد، فاستمسك بها، واعلم أنك غريق، إن لم يتداركك الله برحمته، ويشملك بلطفه، فإنك ستغرق في هذا البحر، المتلاطم من الفتن من الشهوات والشبهات، طوق النجاة هو صلاتك، طوق النجاة هو ذكرك لربك، طوق النجاة هو لزومك للصحبة الطيبة، التي تعينك على الخير، وتبعدك عن الشر.
وأبشر فإن من صدق الرغبة فيما عند الله، لا يخيبه الله، لكن الإشكالية أننا نحن قد ننشط في فترة، ثم نكسل ونظن أن الكسل هذا أمر طبيعي، وهو جزء منه طبيعي، لكن عندما يكون الكسل حاملًا على الوقوع في السيئات والتورط في ترك الواجبات، هنا الخطر، فليس هذا طبيعيًا، إذا كان كسلك يحملك على ترك الصلوات، على التورط في ألوان السيئات، فهذا جرس إنذار، إن لم تتداركه بالتوبة والاستغفار، فإنك على خطر، ويوشك أن يحاط بك فتهلك، فلذلك احرص على الصحبة الطيبة، حافظ على الصلوات، الصلاة خط أحمر، من أضاعها أضاع الصلة بالله، الصلاة نور.
أرأيتم يا إخواني، لو أغلقت الأنوار من يستطيع أن يتحرك من مكانه، فالذي يترك الصلاة كما لو أطفئت أنوار هذه القاعة، لا يستطيع الحركة، ولا يستطيع الوصول إلى ما يريد، هذا ليس كلامي، بل هو كلام من لا ينطق عن الهوى، قال صلى الله عليه وسلم: «الصلاة نور»[صحيح مسلم(223)] وهذا النور مبدؤه في القلب، فإذا أشرق النور في القلب، انعكس الضياء على الجوارح، ولذلك كان من دعاء النبي في خروجه لصلاته:« اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وبصري نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، ومن تحتي نوراً، ومن فوقي نوراً، وفي بشري نوراً وفي لساني نوراً، وفي عصبي نوراً» ثم يقول: «وأعظم لي نوراً»[رواه البخاري(6316)، ومسلم(763/181)، وهذه الزيادة الأخيرة عند مسلم]، أي أعطني نورًا عظيمًا، ما أفقرنا إلى هذا النور، لولا النور ما أدركنا خيرًا لا في الدنيا ولا في الآخرة، هذا النور ليس مصباحاً ولا مشكاة، هذا النور هو نور النبوة، نور القرآن، وأول ما يشرق في القلوب فينعكس على الجوارح، ولهذا ترى الذين يداومون على الطاعة والإحسان تضيء جوههم، ليس ضياء الوجوه من جمال البشرة وما إلى ذلك.. مما تعالج به البشرة، بل هو أمر آخر غير التحسينات، يذهب الواحد ليستخدم أنواعاً من معالجات البشرة حتى تطيب، إنه نورٌ إلهي يكون في أكثر الناس دمامة في خلقته، ترى في وجهه النور.
يقول شيخ الإسلام -ابن تيمية-: "وكلما طال عهد الإنسان بالطاعة أشرق وجهه ولو كان أقبح الخلق منظرًا وشكلاً، وإذا كان أبهى الناس صورةً في شبابه، فأسرف على نفسه ظهر عليه من القبح والدمامة، ما لا يرى نظيره في أمثاله، بسبب السيئات والظلمة"، هذا النور الذي في القلب، ينعكس على الجوارح، فاحرص على أن تنير قلبك بطاعة ربك، وأهم ذلك الصلاة، ولزوم أمر الله، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، لا يعني هذا أن لا نخطئ، كل ابن آدم خطاء، لا يعني هذا أن لا نخفق في طاعة، لكن يعني هذا أن نجاهد ونبذل الطاقة في البعد عن السيئ والخطأ، وإذا وقعنا في خطأ أو سيئ قلنا كما قال ذاك الرجل: ربِّ أني أذنبت ذنبًا فاغفره لي، بصدق وتضرع وانكسار بين يدي الله، أن تخاطب الله تقول: يا ربي أذنبت ذنبًا فاغفره لي، صادقًا في مناجاتك لله، وأبشر فإن الله عز وجل سمع عبدًا يقول: ربِّ إني أذنبت ذنبًا فاغفره لي، فقال الله رب العالمين كما في صحيح مسلم في حديث أبى هريرة قال: «إن عبدا أصاب ذنبا، وربما قال: أذنب ذنبا، فقال: رب أذنبت ذنبا، وربما قال: أصبت، فاغفر، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبا، أو: أذنب ذنبا، فقال: رب أذنبت، أو أصبت، آخر، فاغفره؟ فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا، وربما قال: أصاب ذنبا، فقال: رب أصبت، أو: أذنبت، آخر، فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي ثلاثا، فليعمل ما شاء».[صحيح البخاري(75078)]، إذا كانت هذه سيرته، إذا أخطأ استغفر وإذا أخفق تاب، فإنه لا خطر عليه، لأن الله تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين، ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وأتى بقومٍ يذنبون ويستغفرون، فليست الإشكالية في الخطيئة فقط، الإشكالية في الإصرار عليها، والاستمرار والتسويف في الرجوع إلى الله عزَّ وجلَّ.
بادر بالتوبة واستغفر، وما دمت على هذه الحال، فأبشر فأنك على خير.