الحقيقة... حديثي... في هذه الدقائق، التي أتشرف بالحديث معكم فيها، حول: ما الذي ينبغي أن نعتني به، فيما يتعلق باستقبال هذا الشهر المبارك؟!
أنتم لا يخفى عليكم؛ أننا بعد أيامٍ قلائل، ثلاثة أيامٍ أو أربعة أيامٍ نبلغ الشهر المبارك، شهر رمضان" أسأل الله العظيم، ربَّ العرش الكريم، أن يُبلَّغنا إيَّاه في أحسن الأحوال، وأن يرزُقنا صيامه وقيامه، إيمانًا واحتسابًا".
هذا الشهر المبارك له ميزة، فينبغي علينا أن ننطلق منه
أن نعرف لماذا كان هذا الشهر، بهذه المكانة، في الدين الإسلامي، ما فيه أمر شرعه الله عزَّ وجلَّ، واصطفاه زماناً أو مكاناً أو تشريعاً، إلا والله تعالى له فيه حكمة، هناك سر، هناك علّة، هناك سبب لهذا الاصطفاء، الله جلَّ وعلا، يقول في محكم كتابه: )وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ(سورة القصص، الآية: 68 معناه؛" أن الله عزّ وجلَّ، يخلق ما يشاء ويختار من هذا الخلق ما يشاء"، لكن هذا الاختيار الذي يختاره الله جلَّ وعلا، ليس اختيارًا لا سبب له، بل كل شيء في هذه الاختيارات الإلهية، تشريعية كانت أو زمانية أو مكانية، لله فيها حكمة. اختار الله تعالى رمضان، فخصه بهذه الخِصاص الكثيرة، والمميزات العظيمة، لماذا؟
نذكر منها:
- أولاً أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «رمضان إلى رمضان كفارةٌ لما بينهما، إذا اجتنبت الكبائر»[صحيح مسلم(472)]
وقال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه»[صحيح البخاري(38)]، وقال:«من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه»[ صحيح البخاري(37)]
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه»[صحيح البخاري(1901)]
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يشتدُّ في طاعة الله عزَّ وجلَّ، ويجد ويكدّ ويعمل عملاً في هذا الشهر أكثر من غيره من الشهور، حتى إنه صلى الله عليه وسلم في آخر الشهر يعتزل في المسجد، وينفرد بربه جلَّ في علاه، ذاكرًا وممجِّداً، وتالياً لكتابه.
لمَ كل هذا؟
هذه الخصائص التشريعية، لابد لها من سبب، سببها يفسره ما ذكره الله جلَّ وعلا في ثنايا آيات الصيام، بل في مقدمة فرض الصيام، بعد أن كان الصيام خيارياً، بمعنى أن الصوم أول ما شرع شُرع على الاختيار، من شاء صام، ومن شاء أطعم عن صيام كل يوم، فالله تعالى يقول: )وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ(سورة البقرة، الآية:184 ، أي: يستطيعون أن يصوموا، هذا في أول التشريع.
)وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ(سورة البقرة، الآية:184 أي: فدية عن صيام ما شرع الله تعالى من صيامٍ واجب، لكن قال: )وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ(سورة البقرة، الآية:184.
ثم بعد ذلك جاء التشريع بفرض الصيام على الجميع، فقال: )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ(سورة البقرة، الآية:185 انتبه!! )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ(سورة البقرة، الآية:185.
ثم قال: )فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ(سورة البقرة، الآية:185 الفاء في قوله:)فَمَنْ(تفيد التعقيب والترتيب في ارتباط بين المقدمة والنتيجة، والمعنى أن الله عزَّ وجلَّ يقول:" مِن شُكر نعمتي عليكم بإنزال القرآن، في هذا الشهر المبارك، شرعت لكم صيامه".
)فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ(فالأمة عبر القرون المتعاقبة في الدنيا كلها، وفي الزمان كله، وفي المكان كله، كلهم يشرع لهم صيام رمضان.
لماذا؟
لأنه الشهر الذي أنزل الله تعالى فيه القرآن هذه ميزة وخاصية ينبغي أن نتنبه لها، وأن لا نغفل عنها، أن هذا الشهر له سمة، وخاصية ينبغي أن نعتني بها، وأن نستحضرها في سبب صيامنا، فصيامنا شكر للقرآن ولهذه النعمة وقيامنا كذلك شكر لهذه النعمة، تلاوتنا للقرآن شكر أيضاً لهذه النعمة، فكل هذه النعم، التي أنعم الله تعالى بها علينا يا إخواني هي شكر لهذه النعمة العظيمة، التي هي أعظم نعمة، مَنّ الله بها على البشرية، بل بشّر الله تعالى بها الناس أجمعين، يقول الله جل في علاه، )يا أيها الناس(الخطاب للناس كافة﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٧قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ﴾[يونس57-58]
الإنسان يا أحبابي، ويا إخواني، يحتاج إلى زاد، يحتاج إلى زاد يتزود به، تماماً كالذي يسير في طريق سفر، هذا الطريق الذي يسافر من خلاله، تتوقَّعون يا شباب، أنه يمكن أن يصل إلى هدفه وغايته، دون أن يكون معه وقودٌ في سيارته يوصله إلى غايته، فمثلاً الشخص في بلدته لا يحتاج لوقود كثير ليتحرك، فإذا ما سافر احتاج إلى إعادة تعبئة الوقود، حتى يتمكن من مواصلة السير، بل لابد من هذا، فلا يمكن أن يصل دون وقود، فالآخرة سفر، وهذا السفر ليس اختياريًّا، كلنا إلى الله مسافرون، أنا وأنت والجميع، والذكر والأنثى، والحاضر والغائب، المسلم والكافر، كلنا مسافرون في هذا الطريق، ليس لنا فيه خيار)يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ(سورة الانشقاق، الآية:6 فهذا السفر كلنا سنسافره شعرنا به أم لم نشعر، نحن في رحلة، نحن في انتقال، ولهذا فالدنيا ليست دار قرار، مطايا هذا السفر أي المراكب التي يركبها الناس، لوصولهم إلى آجالهم، وهو منتهى السفر، فالمراكب هي الليل والنهار فهما المطية التي نركبها لنصل إلى آجالنا وقد جعل الله لكل شيء قدرا، وقد جعل الله تعالي لكل أجل كتابًا، هذا الكتاب أي الأجل لا نعلمه لكننا نعلم أننا مسافرون، وسنصل إلى غاية؛ فهذا السفر لا يمكن أن ينجح فيه الإنسان دون زاد، الزاد الحقيقي، وانتبه!! أخي الكريم انتبه معي!! الزاد الحقيقي الذي يبلغك النجاة في سفرك، هو التقوى، هذا ليس كلامي، ولا هو اجتهاد عالم، هذا كلام رب العالمين في كتابه العظيم، يقول الله تعالى: )وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى(سورة البقرة، الآية: 197 خير ما تحمله معك في سفرك هذا، لتبلغ الغاية وتصل إلى المقصود، تقوى الله.
السؤال الكبير ما هي تقوى الله ؟
تقوى الله ليست أمراً يكون فقط في المظهر، أو في الصورة، أو في اللسان، تقوى الله ابتداءً تكون في القلب، أي: أن يكون القلب صالحاً، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله»[صحيح البخاري(52)، ومسلم(1599/107)] ثم يضع تعييناً وتبييناً لهذا الذي به الصلاح، والفساد فيقول: »ألا وهي القلب»، فقلبك هذا الذي ينبض، وبه يصلح جسدك، فلو تعطل القلب تعطل البدن، حياتك الحياة المادية، لو يتوقف قلب الإنسان لا يعيش، كذلك إذا توقفت حياته بالتقوى، مات الإنسان، لهذا يقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت»[صحيح البخاري(6407)]
ومعناه: لابد لنا أن نستشعر أننا بحاجة ماسة إلى حياة قلوبنا.
حياة قلوبنا هي التي بها تتحقق لنا التقوى، وتصلح لنا بها الأعمال.
لهذا يا إخواني، ويا أبنائي نحن بحاجة إلى اغتنام هذه الفرصة المباركة، هذا الشهر المبارك هو محطة تزود، وأقرب مثال لهذا الأمر كأن تكون مسافراً، وتمر على محطة لتزويد الوقود فهل تستقرّ في تلك المحطة وتضع فراشك وترحالك وتأخذ متسعاً من الوقت؟ بالطبع لا ، ولكن بعض الناس يفعلون ذلك، أما غالب المسافرين لا يفعلون هذا، غالب المسافرين يجتهدون في أن يتزودواْ بكل ما يحتاجون ليستكملوا المسير، من وقود وماء وطعام وما إلى ذلك من الأشياء التي يتهيؤون بها لمواصلة السير، نحن في هذا الشهر المبارك، بحاجة إلى أن نتزود.
التزود به ننجح، التزود به نفلح، التزود هو عنوان نجاحك في الدنيا، لذلك يا أخي في كل يوم، في كل ليلة، وفي كل لحظة، احرص على أن تتزود، فإن الزاد به تحصل النجاة،
الزاد ما هو؟ ليس مأكلاً، ولا مشرباً، هذا طبيعيٌّ للأبدان، لا تقوم أبداننا إلا به، الزاد هو العمل الصالح، الذي هو تقوى الله تعالى، تقوى الله هي أن تكون صالح القلب، ممتثلاً أمر الله عزَّ وجلَّ، مجتنباً عما نهى الله تعالى عنه قدر طاقتك، رمضان فرصة؛ لذلك يقول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(سورة البقرة، الآية:183، هذا هو السر، هذه هي الغاية، هذه هي الحكمة، من هذا السياق، أن نحقق التقوى لله عزَّ وجلَّ، في قلوبنا وفي أعمالنا، وجوارحنا وفي سائر أحوالنا، لذلك هي فرصة من خلالها، نستطيع أن نتقي الله تعالى، أنا أقول يا إخوان ولا أريد أن أطيل في الكلام، لكن استحضار هذا المعنى العام، يشرح لنا ما هو الصوم، هل الصوم هو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع، وما إلى ذلك من مفطرات فقط؟ لا، هذا الإمساك له غاية، وله مقصد، إذا (ما) انتبهنا لهذه الغاية، وهذا المقصد سيكون صيامنا صوريًّا، أي سيمتنع الإنسان من الأكل من أول الفجر، إلى آخر النهار، وبعد ذلك يأكل ويشرب، لكن ليس له أثر على سلوكه، ولا على قلبه، ولا على أخلاقه، «الصيام جُنَّة»[صحيح البخاري(1894)، ومسلم(1151/163)]، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، جُنَّة يعني مثل الدرع يتوقى به الإنسان الشرور، ويتوقى به الإنسان الآفات، أول الآفات على قلبه، ثم على سلوكه، ثم على قوله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»[صحيح البخاري(1903)]، لهذا من المهم أن ندرك معنى الصوم، وأن الصوم به تصلح أحوالنا، وتستقيم أعمالنا، إذا حققنا الغاية منه، وهو أن يكون صيامنا محققًا للتقوى، «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» هذه الغاية نتنبه لها ونستحضرها، في كل عبادتنا، لأن كل العبادات التي شرعها الله تعالى إنما هي لتحقيق التقوى.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، وحزبك المفلحين، وأوليائك الصالحين، يا رب العالمين، هذه مقدمة مختصرة أو كلمات موجزة، حول مقصود الصيام، وغايته المقصود من الصوم، تحقيق التقوى في القلب، تحقيق التقوى في القول، تحقيق التقوى في العمل، اللهم اجعلنا من المتقين، ويسر لنا يا رب العالمين، خصال أوليائِك الصالحين، واحشرنا في زمرة الصدّيقين، يا رب العالمين، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد.