الحَمْدُ للهِ خالِقِ كُلِّ شَيْءٍ وَمُبْدِعِهِ، لَهُ ما في السَّماواتِ وَما في الأَرْضِ، يخلقُ ما يشاءُ ويختارُ، ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ، سُبْحانَهُ وَتَعالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَحْمدُه تَعالَى حَمْداً كَثِيراً مُبارَكاً فِيهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّيبينَ وَأَصْحابِهِ المبارَكِينَ، وَعَلَى سائِرِ عِبادِ اللهِ الصَّالحينَ.
أَمَّا بَعْدُ.
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ الله،ِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى قَدِ اصْطَفَى هَذِهِ الأُمَّةَ الإِسْلامِيَّةَ عَلَى سائِرِ الأُمَمِ، وَنحَلَها وَخَصَّها بِخصائِصَ كَثِيَرةٍ، وَفَضائلَ عَدِيدَةٍ، وَمَناقِبَ عَظِيمَةٍ، فَبَعَثَ فِيها خاتَمَ رُسُلِهِ وَأَنْزَلَ إِلَيْها أَعْظَمَ كُتُبِهِ، وَدَلَّها عَلَى أَحْسَنِ شَرائِعِهِ، حَتَّى غَدَتْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَمِمَّا خَصَّ بِهِ اللهُ تَعالَى هَذِهِ الأُمَّةَ، وَمَيَّزَها بِهِ هَذا اليَوْمَ المجيدَ العَظِيمَ -يَوْمَ الجُمُعَةِ- الَّذِي هُوَ سَيِّدُ الأَيَّامِ، وَخِيرَةُ اللهِ مِنْها، إِذْ خَصَّهُ اللهُ سُبْحانَهُ بِكَثِيرٍ مِنَ الحَوادِثِ الكَوْنِيَّةِ، وَالشَّعائِرِ الدِّينِيَّةِ الَّتي تَمَيَّزَ بِها عَنْ سائِرِ الأَيَّامِ.
فَمِنْ خَصائِصِهِ الكَوْنِيَّةِ: أَنَّهُ خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ، وَأَنَّ اللهَ تَعالَى قَدَّرَ في هَذا اليَوْمِ أَهَمَّ حَوادِثِ الخَلْقِ، وَأَبْرَزَ وَقائِعِ التَّارِيخِ الكِبارِ، فَفِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْها، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَّ : (خيرُ يومٍ طلعت فيه الشمسُ يومُ الجمعة، فيه خُلقَ آدمُ، وفيه أُدخلَ الجنةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْها أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (854). ، وَفي رِوايَةٍ لَهُ: (وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا في يَوْمِ الجُمْعَةِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (854) ، وَعِنْدَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ لا بَأْسَ بِهِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ مُسِيخَةٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ، مِنْ حِينِ تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقاً مِنَ السَّاعَةِ، إِلَّا الجِنَّ وَالِإنْسَ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (9930)، وَأَبُو دَاوُدَ (1046) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِإِسْنادٍ صَحِيحٍ..
وَقَدْ فَرَضَ اللهُ تَعالَى عَلَى عِبادِهِ تَعْظِيمَ يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَضَلَّ اليَهُودُ فَعَظَّمُوا يَوْمَ السَّبْتِ، وَضَلَّ النَّصارَى، فَعَظَّمُوا يَوْمَ الأَحَدِ، وَهَدَى اللهُ أُمَّةَ الإِسْلامِ إِلَى خَيْرِ الأَيَّامِ وَسَيِّدِها، يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ) أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (876)، وَمُسْلِمٌ (855). فالحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدانا لِلإِسْلامِ، وَخَصَّنا بِأَشْرَفِ الأَيَّامِ.
وَأَمَّا خَصائِصُ يَوْمِ الجُمْعَةِ الدِّينِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، فَكَثِيرَةٌ مُتَنوِّعةٌ، فَقَدْ خَصَّ اللهُ هَذا اليَوْمَ بِآدابٍ شَرْعِيَّةٍ، وَشعائِرَ دِينِيَّةٍ تَعَبُّدِيَّةٍ، وَاجِبَةٍ وَمُسْتَحَبَّةٍ، فَيَجِبُ عَلَى المسْلِمينَ أَنْ يَحْتَفُوا بِهَذِهِ الخَصائِصِ، وَأَنْ يَهْتَمُّوا بِها عِلْماً وَعَمَلاً.
فَمِنْ أَبْرَزِ خَصائِصِ هَذا اليَوْمِ الشَّرْعِيَّةِ: صَلاةُ الجُمُعَةِ، الَّتي فَرَضَها اللهُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بالِغٍ ذَكَرٍ حُرٍّ، وَدَلِيلُ وُجُوبِها أَمْرُ اللهِ تَعالَى بِالسَّعْيِ إِلَيْها، قالَ تَعالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ سُورَةُ الجُمْعَة: 9.
وَقَدْ وَرَدَ التَّحْذِيرُ الشَّدِيدُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حَقِّ مَنْ تَهاوَنَ بِها أَوْ تَرَكَها، فِفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُما سَمِعا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَعْوادِ المنْبَرِ يَقُولُ: (لَيَنْتِهِيَنَّ أَقْوامٌ عَنْ وَدْعِهِم الجُمُعاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونَنَّ مِنَ الغافِلِينَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (865(.
فَتَرْكُ الجُمْعَةِ سَبَبٌ لِلخَتْمِ عَلَى القَلْبِ، وَهَذا مِنْ أَعْظَمِ العُقوباتِ وَأَشَدِّها، فَإِذا خُتِمَ عَلَيْهِ ضَعُفَتْ بَصِيَرتُهُ وَعَمِيَ قَلْبُهُ، وَإِذا عَمِيَ القَلْبُ أَظْلَمَ وَانْتَكَسَ، وَفاتَتْهُ خَيْراتُ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى صَلاةَ الجَمْعةِ سَبَباً لِتَكْفِيرِ السَّيِّئاتِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (وَالجُمُعُةُ إِلَى الجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لما بَيْنَهُما، إِذا اجْتُنِبَتِ الكَبائِرُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (233) وَعَنْهُ أَيْضَاً: (مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الجُمْعَةَ، فاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غَفَرَ اللهُ لَهُ ما بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى، وَزِيادَةَ ثَلاثةِ أَيَّامٍ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (857).
وَلَمَّا كانَتْ هَذِهِ الصَّلاةُ بِهَذِهِ المنْزِلَةِ وَهَذِهِ المكانَةِ، فَقَدْ خُصَّتْ بِآدابٍ وَأَحْكامٍ، مِنْها ما هُوَ سابِقٌ لَها، وَمِنْها ما هُوَ في أَثْنائِها، أَمَّا الآدابُ السَّابِقَةُ:
فَمِنْها سُنِّيَّةُ الاغْتِسالِ وَالتَّنْظِيفِ وَالتَّطَيُّبِ قَبْلَها، فِفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (الغسلُ يومَ الجُمُعَةِ واجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (879) وَمُسْلِمٌ (846) ، وَقَدْ أَخْرَجَ الإِمامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسِ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنا مِنَ الإِمامِ وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ وَلَمْ يَلْغُ، كانَ لَهُ بَكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوها مِنْ بَيْتِهِ إِلَى المسْجِدِ عَمَلُ سَنَةٍ، أَجْرُ صِيامِها وَقِيامِها) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (15740) وَالتِّرْمِذِيُّ (496) وَحَسَّنَهُ .
وَيَتَأَكَّدُ الاغْتِسالُ في حَقِّ مَنْ بِهِ رَائِحَةٌ يَحْتاجُ إِلَى إِزالَتِها، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ إِلَى ما قَبْلَ خُرُوجِهِ لِلصَّلاةِ، وَأَمَّا اسْتِعْمالُ الطِّيبِ، فَقَدْ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنَّ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ ، وَالسِّوَاكَ ، وَأَنْ يَمَسَّ مِنَ الطِّيبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (3/30)، وَالنَّسائِيُّ(1383)، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (3/123)، ح(1743)، وَابْنُ حِبَّانَ(4/34)، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ..
وَمِنَ الآدابِ السَّابِقَةِ لِلصَّلاةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ: لُبْسُ أَحْسَنِ الثِّيابِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْها، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ علَى المِنْبَرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ: (ما عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ ليومِ الجُمُعَةِ، سُوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ) أَخْرَجَهُ أَبُودَاوُدَ (1078) وَابْنُ ماجَهْ (1095) وَصَحَّحَهُ الأَلْبانِيُّ في صَحيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ (898( .
وَمِنَ الآدابِ أَيْضاً: التَّبْكِيرُ في المجِيءِ إِلَى صَلاةِ الجُمُعةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتِ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً ثُمَّ كَبْشًا ثُمَّ دَجَاجَةً ثُمَّ بَيْضَةً فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (929)، وَمُسْلِمٌ (850) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ .
وَمِنَ المؤْسِفِ وَالمحْزِنِ أَنَّكَ تَدْخُلُ المسْجِدَ قَبْلَ مَجِيئِ الإِمامِ بِوَقْتٍ قَلِيلٍ، وَلا تَرَى إِلَّا عَدَداً يَسِيراً مِنَ المصَلِّينَ، حَتَّى إِذا قارَبَ الإِمامُ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، أَوْ فَرَغَ مِنْها اكْتَظَّتْ المساجِدُ، وَغَصَّتْ بِالمصَلِّينَ، فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَمِنَ الآدابِ المشْرُوعَةِ أَثْناءَ صَلاةِ الجُمُعَةِ: الإِنْصاتُ وَالاسْتِماعُ لِلخُطْبَةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِذا قُلْتَ لِصاحِبِكَ: أَنْصِتْ، وَالإِمامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ) أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (934)، وَمُسْلِمٌ (851)مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَالكَلامُ أَثْناءَ الخُطْبَةِ حَرامٌ، لا يَجُوزُ، حَتَّى وَلَوْ كانَ أَمْراً باِلمعْرُوفِ أَوْ نَهْياً عَنِ المنْكَرِ، إِلَّا أَنْ يُكَلِّمَ الإِمامُ نَفْسَهُ، فَالواجِبُ الإِنْصاتُ وَتَرْكُ المشاغِلِ عَنْ الخُطْبةِ، فَلَيْسَتْ صَلاةُ الجُمُعَةِ مُلْتَقىً لِتَبادُلِ الأَخْبارِ، وَلا مَكاناً لِتَدَاوُلِ الكَلامِ، بَلْ هِيَ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعائِرِ الدِّينِ لإقامَةِ ذِكْرِ اللهِ تَعالَى.
وَمِنَ الآدابِ الدِّينِيَّةِ أَثْناءَ الخُطْبَةِ: أَنَّ مَنْ جاءَ مُتَأَخِّراً يَجْلِسُ حَيْثُ انْتَهَتْ الصُّفُوفُ، وَلا يَجُوزُ لَهُ تَخَطِّي رِقابِ النَّاسِ، فَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً يَتَخَطَّى رِقابَ النَّاسِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقالَ لَهُ: (اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ) أَخْرَجَهُ أَبُودَاوُدَ (1118) وَابْنُ ماجَهْ (1115)، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَصَحَّحَهُ الكِنانِيُّ في مِصْباحِ الزُّجاجَةْ (401) ، وَهَذا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّخَطِّي؛ إِذْ إِنَّ أَذِيَّةَ المسْلِمينَ مُحَرَّمَةٌ، وَمَنْ رَغِبَ في الخَيْرِ وَفِي الصُّفُوفِ الأُولَى فَلْيُبادِرْ إِلَى الصَّلاةِ وَلا يَتَأَخَّرْ، فَإِنَّ الفَضائِلَ وَالدَّرجاتِ وَالمراتِبَ لا تَحْصُلُ بِالكَسَلِ، بَلْ هِيَ كَما قالَ الأَوَّلُ:
بعيدٌ عَنِ الكَسْلانِ أَوْ ذِي مَلالَةٍ *** وَأَمَّا مِنَ المشْتاقِ فَهُوَ قَرِيبُ
وَمِنَ الآدابِ الشَّرْعِيَّةِ أَيْضاً: أَنَّ مَنْ دَخَلَ وَالإِمامُ يَخْطُبُ، فَلا يَجْلِسْ حَتَّى يُصِلِّيَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: جاءَ سُلَيْكٌ الغَطَفانِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَجَلَسَ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِذا جاءَ أَحَدُكُمُ الجُمُعَةَ وَالإِمامُ يَخْطُبُ، فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ لِيَجْلِسْ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (875( .
رَزَقَنا اللهُ وَإِيَّاكُمْ التَّأَدُّبَ بِآدابِ الشَّرْعِ، وَالأَخْذَ بِأَحْكامِهِ ظاهِراً وَباطِناً.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ :
الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدانا إِلَى أَحْسَنِ الأَدْيانِ وَسَيِّدِ الأَيَّامِ، وَخَصَّنا بِذَلِكَ دُونَ سائِرِ الأَنامِ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ المبْعُوثِ رَحْمَةً لِلعالَمِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحابِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدَ:
فَإِنَّ مِنَ الخَصائِصِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتي خُصَّ بِها هَذا اليَوْمُ: أَنَّ فِيهِ سَاعَةً، لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللهَ تَعالَى مِنْ خَيْرِ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، إِلَّا أَجابَ اللهُ دُعاءَهُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنَّ في الجُمْعَةِ لَساعَةً، لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللهَ شَيْئاً إِلَّا أَعْطاهُ إِيَّاهُ، وَقالَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُها) أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (5295)، وَمُسْلِمٌ (852). فَيالَها مِنْ نَفْحَةٍ عَظِيمَةٍ، وَفُرْصَةٍ جَلِيلَةٍ، وَمِنْحَةٍ كَرِيمَةٍ، يَفْتَحُ فيِها اللهُ تَعالَى أَبْوابَهُ لِعبادِهِ لِيَسْأَلُوهُ، فالمحْرُومُ مَنْ حُرِمَ فَضْلَ هَذا اليَوْمِ، وَبَرَكَةَ هَذِهِ السَّاعَةِ المبارَكَةِ، الَّتي تَتَكَرَّرُ عَلَيْنا كُلَّ أُسْبُوعٍ.
وَأَرْجَحُ الأَقْوالِ في تَحْدِيدِ وَقْتِ هَذِهِ السَّاعَةِ أَنَّها ما بَيْنَ صَلاةِ العَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَعَنْ جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (يَوْمُ الجُمُعَةِ ثِنْتا عَشْرَةَ، يُرِيدُ ساعَةً لا يُوجَدُ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئاً إِلَّا آتاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَالْتَمِسُوها آخِرَ ساعَةٍ بَعْدَ العَصْرِ) أَخْرَجَهُ أَبُوداودَ (1048)،وَصَحَّحَهُ ابْنُ رَجَبٍ في "الفَتْحِ"(5/356( .
وَمَنْ خَصائِصِ يَوْمِ الجُمُعَةِ: أَنَّهُ يُسَنُّ فِيهِ قِراءَةُ سُورَةُ الكَهْفِ، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الكَهْفِ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَضاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ ما بَيْنَ الجُمُعَتَيْنِ) رَواهُ الحاكِمُ (3392) وَصَحَّحَهُ.
وَمِنْ خَصائِصِ هَذا اليَوْمِ: أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيها مَزِيدُ فَضْلٍ، فَعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسِ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَومُ الجُمُعَةِ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاةِ فِيهِ، فِإِنَّ صَلاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَليَّ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ(4/8)وَأَبُو دَاوُد(1047)، وَالنَّسائِيُّ (1374)، وَابْنُ ماجَه (1636)، وَالحاكِمُ (1/413) وَقالَ:"صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ البُخارِىُّ" .
فَأَكْثِرُوا أَيُّها المؤْمِنُونَ مِنَ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَى نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِها عَشْراً. صَحَّ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عِنْدَ مُسْلِمٍ(384).
أَيُّها المؤْمِنُونَ, اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ العَلِيمَ الخَبِيرَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى قَدْ خَصَّ بَعْضَ البِقاعِ وَالأَمْكِنَةِ، وَبَعْضَ الأَوْقاتِ وَالأَزْمِنَةِ بِمَزيدِ فَضْلٍ دُونَ غَيْرِها مِنَ الأَماكِنِ وَالأَزْمانِ، وَللهِ تَعالَى في ذَلِكَ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ، قالَ اللهُ تَعالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} سُورَةُ القَصَصِ: 68 . فَهُوَ سُبْحانَهُ يَجْتَبِي مِنْ خَلْقِهِ ما يَشاءُ، وَيَخُصُّهُ بِما يَشاءُ مِنَ الفَضائِلِ وَالخَصائِصِ، فَيَجِبُ تَعْظِيمُ ما عظَّمَهُ اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى مِنَ الأَمْكِنَةِ وَالأَزْمِنَةِ، فَإِنَّ مَنِ امْتَهَنَ ما عَظَّمَهُ تَعالَى يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ عُقُوبَتُهُ، أو يحلَّ به سَخطُه، قال الله تعالى في حقِّ من لم يعظِّم حرمتَه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} سورة الحج: 25 ، وقال في حق الأشهر الحرم: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} سورة التوبة: 36 .
وَهَذا اليَوْمُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، عَظَّمَهُ اللهُ تَعالَى، وَاخْتَارَهُ عَلَى الأَيَّامِ، فَيَجِبُ تَعْظِيمُهُ بِالإِكْثارِ مِنَ الطَّاعاتِ المشْرُوعَةِ فِيهِ، وَالتَّخَفُّفِ مِنَ المعاصِي وَالسَّيِّئاتِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ تُضاعِفُ في المكانِ المبارَكِ وَالزَّمانِ الفاضِلِ، وَالمعْصِيةُ تَعْظُمُ في المكانِ الفاضِلِ وَالزَّمانِ المبارَكِ، فَطاعَةُ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَلَيْلَتِها لَيْسَتْ كَطاعَةِ غَيْرِهِ مِنَ اللَّيالِي وَالأَيَّامِ، إِلَّا أَنَّهُ لا تُخَصُّ لَيْلَتُها بِقِيامٍ، وَلا يَوْمُها بِصِيامٍ، دُونَ سائِرِ اللَّيالي وَالأَيَّامِ، وَالمعْصِيَةِ في يَوْمِ الجُمُعَةِ وَلَيْلَتِها لَيْسَتْ كالمعْصِيَةِ في غَيْرِها، وَإِنَّهُ لمِمَّا يُفَطِّرُ القَلْبَ، وَيُدْمِعُ العَيْنَ، أَنْ تَرَى كَثِيراً مِنَ المسْلِمينَ جَعَلُوا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ وَيَوْمَها مَحَلاًّ وَمَرْتَعاً لِلمَعاصِي وَالسَّيِّئاتِ، فَلَيْلُةُ الجُمُعَةِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ تُعَمَّرُ بِالمعاصِي وَالذُّنُوبِ، وَتَحْيا بِالسَّهَرِ عَلَى المحَرَّماتِ، وَأَلْوانٍ مِنَ السَّيِّئاتِ، وَلَعَمْرُ اللهِ إِنَّ هَذا لَمِمَّا يُغْضِبُ اللهََ تَعالَى؛ إِذْ كَيْفَ يَرْضَى رَبُّنا سُبْحانَهُ عَلَيْنا، وَقَدْ جَعَلْنا خَيْرَ أَيَّامِهِ وَأَفْضَلَها عِنْدَهُ مَحَلاًّ لِمَعْصِيَتِهِ، وَتَعَدَّي حُدُودَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعالَى في تَعْجِيلِ عُقُوبَةِ مَنْ يَنْتَهِكُ حُرْمَةَ هَذا اليَوْمِ بِالمعاصِي وَالذُّنُوبِ مَشْهُودةٌذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ القَيِّمِ في زادَ المعادِ(1/63)، عافانا اللهُ مِنْ عُقُوبَتِه وَعَذابِه وسَخَطِه، وَجَعَلَنا مِنَ المسارِعِينَ إِلَى مَغْفِرَتِهِ وَطاعَتِهِ، وَاغْتِنامِ مَواسِمِ فَضْلِهِ، وَنَفَحاتِ كَرَمِهِ.
وَمِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النَّاسِ الاحْتِفالُ بِلَيْلَةِ السَّابِعِ وَالعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ وَقِيامُها، وَالإِكْثارُ مِنَ العِبادَةِ فِيها، زَعَمُوا أَنَّها لَيْلَةُ الإِسْراءِ، وَلا شَكَّ أَنَّ ما يَفْعَلُهُ هَؤُلاءِ في هَذِه اللَّيْلَةِ لا أَصْلَ لَهُ في الدِّينِ، وَهُوَ مِنَ البِدَعِ المرْدُودَةِ عَلَى أَصْحابِها، وَهِيَ لا تَزِيدُهُمْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْداً، فَإِنَّنا نَقُولُ في الجَوابِ عَلَى فِعْلِ هَؤُلاءِ:
أَوَّلاً: أَنَّهُ لَمْ يَثْبَتُ بِالنّقلِِ الصَّحِيحِ تَحْدِيدُ الشَّهْرِ الَّذِي أُسْرِيَ فِيهِ بِالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَضْلاً عَنْ تَحْدِيدِ لَيْلَةِ الإِسْراءِ.
ثانِياً: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ في شَهْرِ رَجَبٍ في لَيْلَةِ السَّابِعِ وَالعِشْرِينَ، فَإِنَّ هَذا لا يُسَوِّغُ الاحْتِفالَ بِهَذِه الَّليْلَةِ، وَلا تَخْصِيصَها بِشَيءٍ مِنَ العِباداتِ أَوِ الطَّاعاتِ، بَلْ هِيَ لَيْلَةٌ كَسائرِ الَّليالِي؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحابَةَ وَالتَّابِعِينَ مِنْ بَعْدِهِ لَمْ يُنْقَلْ عَنَهْمُ تَخْصِيصُها بِشَيْءٍ، وَهُمْ أَحْرَصُ مِنَّا عَلَى الخَيْرِ وَالطَّاعَةِ، فَالواجِبُ التَّمَسُّكُ بِما جاءَ بِهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ.
فَخَيْرُ الأُمُورِ السَّالفاتُ عَلَى الهُدَى وَشَرُّ الأُمُورِ المحْدَثاتُ البَدائِعُ هَذا البَيْتُ مَعْرُوفٌ مِنَ القَرْنِ الثَّانِي, وَنُسِبَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ يُنْظَرُ: تَرْتَيبُ المدارِكِ(2/38) .