المقدم:حديثنا في مستهل هذه الحلقة نريد أن نقف مع حديث يا شيخ قد يكون وظفه البعض توظيفًا كما يريدون، الحديث هو جزء منه يا شيخ جاء فيه: »استَفْتِ نفسَك, قلتُ: كيف لي بذاك؟ قال: تدَعُ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك, وإن أفتاك الْمُفتون«سنن الدارمي (2575)، أولًا نريد أن نقف مع صحة هذا الحديث مع درجة صحته، ثم الأمر الثاني يا شيخ هذا الفهم الخاطئ يعني بعض الناس جعل هذا الحديث مطية له في قضية التحليل والتحريم إذا كان الأمر يوافق هواه أتى به واستشهد به، يعني ما المراد بهذا الحديث ومتى يستدل به حفظكم الله؟
الشيخ:الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا ينطق عن الهوى، والله ـ تعالى ـ يقول: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾[النساء:82]، وقد جاء بيان البر في قول الله وقول رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيانًا جليًا واضحًا، فالبر والطاعة لله ورسوله، البر هو كل ما أمر الله به ورسوله من العبادات الظاهرة والباطنة، الواجبة والمستحبة، هذا هو البر والله ـ تعالى ـ يقول: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾[المائدة:2]هذا هو البر، ويقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾[آل عمران:92].
فالبر مفهومه العام هو طاعة الله فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، إتباع شريعة الله ـ عز وجل ـ هو كل ما أمر الله به ورسوله في العبادات الظاهرة والباطنة، الواجبة والمستحبة.
هذا الحديث حديث وابصة بن معبد رواه أحمد، وفيه أنه قال: أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: «ادْنُ يا وابصةُ!. فدنوتُ منه حتى مسَّتْ رُكبتي ركبتَه، فقال لي: يا وابصةُ! أُخبرُك ما جئتَ تسألُ عنه؟ قلتُ: يا رسولَ اللهِ أَخبِرني. قال: جئتَ تسألُ عن البِرِّ والإثمِ» يعني أخبره قبل أن يبتدئه بالسؤال، فقال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في جواب سؤاله لما قال: نعم، يعني صدقه على ما أراد من أنه جاء يسعى للبر قال: استفت قلبك ولو أفتاك الناس، استفت قلبك فالبر ما أطمئنت إليه النفس، واطمئن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك وخشيت أن يطلع عليه الناس، ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فجمع أصابعَه الثَّلاثَ ، فجعل ينكُتُ بها في صدري ويقولُ : يا وابصةُ! استَفْتِ قلبَك ، البِرُّ ما اطمأنَّت إليه النفسُ ، واطمأنَّ إليه القلبُ ، والإثمُ ما حاك في القلبِ ، وتردَّد في الصدرِ وإن أفتاك الناسُ وأفتَوْك«سنن الدارمي (2575).
الحديث جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث النواس بن سمعان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:«البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس«صحيح مسلم (2553)، فهذه الجزئية من الحديث جاء لها ما يعززها في حديث النواس بن سمعان عند الإمام مسلم، الشاهد من هذا الحديث أو موضع السؤال في هذا الحديث هو قوله: استفت قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك.
هذا الحديث من حيث إسناده جماعة من أهل العلم ضعف هذا الحديث؛ لأن مداره على حماد بن سلمة وفيه علل من حيث الرواة عنه، وثبوته عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد حسنه بمجموع طرقه وشواهده جماعة من أهل العلم منهم ابن رجب، والنووي، وغيرهما من أهل العلم، فالحديث جود إسناده طائفة من المحدثين.
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "استفت قلبك" أي أطلب جواب ما أشكل عليك من البر عند قلبك، فالاستفتاء هو طلب الفتيا، فأحال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وابصة بن معبد في معرفة البر إلى قلبه، هل هذا هو كل البر؟
الجواب: لا، البر كما ذكرت في أول الحديث جاء بيانه في الكتاب والسنة، الصلاة بر، والصوم بر، وأركان الإسلام بر، وأصول الإيمان بر، وكلها من البر كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾[البقرة:177].
فالله ـ تعالى ـ بين البر بيانًا جليًا وواضح من هذا صدق ما ذكرت في التعريف أن البر يشمل كل ما أمر الله ـ تعالى ـ به ورسوله في الظاهر والباطن. إذًا لماذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لوابصة بن معبد في هذا الحديث لما سأله قال: "جئت تسأل عن البر؟ قال: نعم، قال: استفت قلبك"سنن الدارمي (2575)، أحاله إلى قلبه، هل هذا في معرفة أمر الله ورسوله؟
الجواب: بالتأكيد لا؛ لأن أمر الله ورسوله لا يؤخذ من القلب إنما يؤخذ من الوحي، ويؤخذ من النقل، ويؤخذ من دلالة الكتاب والسنة، لكن هذا الحديث كما ذكر ذلك جماعة من أهل العلم، هو في حال التردد، في حال عدم الوضوح، في حال عدم البيان، في حال الالتباس، في حال الاشتباه، عندما يتردد الإنسان في أمر من الأمور سواء أن في مقام الفتيا، وفي مقام القضاء، أو في مقام الترجيح، في كل هذه المقامات قد يشتبه على الإنسان الأمر.
فمثلًا في مقام القضاء عندما تختصم أنت وشخص وتدلي بحجتك، ويدلي بحجته ويقضي القاضي لك بناء على ما بينت، ويقع في نفسك شك أن هذا الحكم فيه نقص، فيه عدم عدل، في جور، فيه عدم مطابقة للواقع، ففي هذه الحال استفتي قلبك، قضاء القاضي لا ينفعك؛ لأنك أنت عندك من المعرفة بمجريات الأمور وتفاصيلها ما قد لا يتبين للقاضي، القاضي يقضي بنحو ما يسمع كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث أم سلمة: «فإنَّما أقضي بينَكم على نحوِ ما أسمَعُ»صحيح البخاري (6967)،وبالتالي هنا لا يجوز لك وأنت في مقام القضاء وقد صدر لك القاضي الحكم أن تأخذ ذاك وفي نفسك ريب، نقول لك: استفتي قلبك، هل أنت مطمئن لهذا القضاء؟ وإن كان لك القضاء لك طبعًا في هذه الحال استفت قلبك، هل قلبك مطمئن بأخذ هذا؟
فإن كان القلب مطمئنًا وقد صدقت في كل ما تقول، طبعًا القلب هنا قد يقول قائل: والله بعض الناس يحلف أيمان كاذبة فاجرة لاقتطاع حقوق الناس وقلبه منشرح، هذا قلب أصلًا ميت لا عبرة به، إنما القلب الذي نعول عليه في مثل هذه المقامات، القلب الذي قصده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو القلب الحي، القلب الصافي، القلب السليم، القلب الذي يبحث عن رضا الله ـ جل في علاه ـ القلب الذي لا موت فيه وهلاك إنما هو حي يطلب رضا الله ـ جل وعلا ـ حيث كان، هذا هو القلب الذي أحال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه الأمر في قول: "استفت قلبك".
إذًا في مثل هذا المقام لا ينفعك أن تأخذ ما في نفسك ريب منه «دَع ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ»سنن الترمذي (2518)،ما تشك فيه إلى ما لا تشك فيه، كذلك في مقام الفتيا قد يأتي شخص إلى عالم ويسأله ويبين له، العالم إنما يفتي بناء على ما قدم له من معطيات، مثل القاضي تمامًا لكن القاضي حكمه ملزم والمفتي ليس ملزمًا، هذا الفرق. وبالتالي عندما يقول لك العالم الرأي الفولاني في مسألتك كذا وأنت تعرف أن هناك خفايا لم تبدو للمفتي، لم يطلع عليها، لم يقف عليها، فعند ذلك لن يعذرك عند الله تعالى أن تقول: والله أفتاني فلان، استفتي قلبك.
كذلك في مقام الترجيح وهذا كثير عندما تسمع إلى خلاف العلماء وتتعارض عندك الأقوال أو تتعارض عندك الأدلة ولا تستطيع أن ترجح، ما عندك قدرة أن تقول: القول الفولاني راجح أو قول فلان مرجوح، ففي هذه الحال إذا أغلق عليك الطريق فانظر إلى قلبك، استفت قلبك. إذا استفت قلبك هو في مناطق الاشتباه، في دوائر الالتباس، في مواطن عدم الوضوح وليس في كل مسألة وإلا الله ـ تعالى ـ في محكم كتابه قال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾[النحل:43]ما قال: اسألوا قلوبكم، إنما قال: أسألوا أهل الذكر، وأهل الذكر هم أهل الكتاب والسنة، هم أهل القرآن العالمون به، هؤلاء هم أهل الذكر.
فلذلك ينبغي أن يُفهم هذا الحديث في هذا السياق، أما أن يُقال: أن المقصود بستفتي قلبك أنه في كل مسألة لا تسأل ولا تبحث ولا تكلف نفسك، شف وش اللي قلبك! هذا تعطيل للشريعة، وإلغاء لقول الله ـ تعالى ـ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾[النحل:43]. ثم أي قلب هو الذي يُسأل؟
ذكرت قبل قليل أنه القلب الحي، القلب السليم، القلب الذي يبحث عن رضا الله، القلب الصحيح، وليس كل قلب؛ لأن القلوب منها ما هو أعمى ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾[الحج:46]، وبالتالي عندما نجمع هذه النصوص جميعًا يزول الإشكال في الحديث، ويزول ما يمكن أن يلتبس على بعض الناس أو يستند إليه في التحلل والتخلص من قيود الشريعة وأحكامها، ويقول: أنا والله استفتيت قلبي، لا يا أخي لست أهلًا أن تستفتي قلبك فيما بينه الله ورسوله، فإذا زنا وقال: أنا استفتيت قلبي نقول: هذا قلب مريض ميت لا يُستفتى، وقد بين الله لا تتلقى الأحكام من الأذواق وما تشتهيه النفوس، إنما تتلقى الأحكام من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم في مقامات الاشتباه وهي مناطق ليست يعني هي الأصل في الأحكام إنما هي بعض الأحيان وتختلف باختلاف الناس، عند ذلك نقول للشخص: استفتي قلبك، وليكن قلبك طالبًا لرضا الله.
وهنا أقول لإخواني وأخواتي وهذا سؤال يتكرر كثيرًا من أن نسأل فلان ونسمع فلان يقول: هذا حلال وهذا حرام، نأخذ بقول من ونحن لا نحسن الترجيح؟ ما عندنا القدرة على معرفة أي القولين الصواب عند الله أو أي القولين صواب بناء على الأدلة، ما عندنا قدرة. نقول: في هذه الحال أنت أطلب الراجح ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، إذا عجزت فانوي في قلبك واصدق ربك أنك تريد رضاه، والله لن يخيب من فعل هذا وسيوفق إلى الصواب فهو بين أجر وأجرين.
أما أن يقول: والله أنا أعرض عن كلام العلماء ولا آخذ به واستفتي قلبي فهذا غلط، في مثل هذه المقامات التي يحصل التباس العلماء منهم من قال: يأخذ بالأحوط، يأخذ بالأسهل، يسأل ثالثًا، يأخذ بما يشتهي ويحب من سهولة أو شدة، وغير ذلك من الأقوال. الراجح من هذا أنه في حال عدم الوضوح التام، وعدم ميل القلب بعد استفتاءه يأخذ الأيسر والأسهل؛ لأن الأصل في الشريعة هو اليسر، «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ»صحيح البخاري (39)، وصحيح مسلم (2574)كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
هذه إلماحه حول هذا الحديث نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم البصيرة، ويصلح قلوبنا وأعمالنا، ويرزقنا الصواب والسداد في القول والعمل يا رب.
المقدم:أحسن الله إليكم يا شيخ، وجزاكم خيرًا على هذه التجلية وهذا التوضيح أيضًا.