(الحلقة الثالثة )
تنوع الطاعات في رمضان
الحمد لله رب العالمين، أحمده جل في علاه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله وعليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
هذا الشهر المبارك أيها الإخوة والأخوات! شهر عظيم كريم هو مزرعة للآخرة هو ميدان سباق لجنة عرضها السماوات والأرض، هذا الشهر شهرٌ تنشط فيه النفوس لكل بر وخير، أعانكم اله تعالى فيه على الصالحات، يسر الله لكم فيه سبل الطاعات، نوع الله تعالى فيه الطرق والأبواب الموصلة إليه: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾[الحديد:21]، فحق هذا الشهر أن يفرح به وأن تشد فيه العزائم، وأن تبذل فيه المهج لإدراك فضل الله وعطائه وبره وإحسانه، إن هذا الشهر لا يقتصر فضله على باب من أبواب الخير، بل هو مزرعة شهرٌ منّ الله تعالى به على العباد الشهر:
الشهر شهر إله العرش من به ربٌ رحيم لثقل الوزر غفار
أو ستار..
فأسأل الله العظيم أن يرزقنا من فضله، وأن يمن علينا بصيام وقيام وصالح من الأعمال يرضى به عنا.
نحن نرى في هذا الشهر المبارك الصائمين، وهذا باب من أبواب الخير ولونٌ من ألوان القربات، لكن هل هذا الشهر فقط هو محل للصيام؟ الصيام أمرٌ عظيم، ويكفيه فضلٌ وعطاءٌ وبر أن رب الأرض والسماء يقول كما في الحديث الإلهي: «الصوم لي وأنا أجزي به» يعني أن أجره وعطاءه جاز تقدير القانون والحساب، فليس له حد لا يقدر بقدر ولا يحد بحد، بل هو عطاء من له الملك وله السماوات والأرض جل في علاه.
وأنت لما تسمع مثل هذا تتحفز نفسك وتتصور كبير العطاء وعظيم الإحسان، وهذا ما نؤمله من ربنا جل جلاله، لكن ليس الأمر مقصوراً على الصيام، هذا الشهر شهرٌ يصومه المؤمنون، وأسأل الله أن يرزقني وإياكم تحقيق الوصف الذي يرتب الأجر: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» إيماناً هذا يتعلق بالقلب وهو الإقرار بفرضيته، والتصديق لمشروعيته، واحتساباً أي: يحتسب ما يلقاه من معاناة، فالصوم فيه مشقة لا سيما في مثل هذه الأيام التي هي أيام صيف وشدة حر يتعب فيها الناس، ويجدون مشقة في صيامهم، وكلما اشتد الحر زاد الأجر والثواب والعطاء والمن من رب العظيم يعطي على القليل الكثير، لكن أقول: إن هذا الأجر وذلك الفضل ليس مقصوراً في صوم هذا الشهر، بل هذا الشهر جنة لألوان المبرات وأنواع الخيرات، نستعرض على سبيل الذكر اليسير لألوان مما يدركه الناس من هذا الفضل في هذا الشهر، فهذا الشهر جاء فيه كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» إذاً هو محل للصلة بالله والمناجاة القيام تلك العبادة العظيمة الشريفة التي يقف فيها العبد بين يدي الله يناجيه ويتضرع إليه ويبث عمه ويشكو إليه جل في علاه، يستنزله الرحمات، ويسأله العطايا والمبرات، هذا القيام الكبير العظيم الذي هو في الحقيقة جنة لا يدركها إلا من تذوق طعمها قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» ليالي مباركة.
كذلك يعظم الفضل فيقول صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» يا له من عطاء، يا له مِن مَن وإحسان، نسأل ألا يحرمنا فضله، وألا يخيب سعينا، وأن يجعلنا من أعظم الفائزين بعطائه ونواله سبحانه وبحمده.
هذا نموذج من نماذج الأعمال الصالحة في هذا الشهر المبارك، هذا الشهر هو شهر القرآن فهو شهر تلاوة القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخص هذا الشهر بمزيد عناية في قراءة كلام الله تعالى، وقد قال الله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾[البقرة:185]، فلما كان هذا الشهر محلاً لإنزال هذا النور المبين، وهذا الكتاب العظيم كان حرياً بأن يقبل عليه، وأن يتلا، وأن تتدبر وأن يتفكر في معانيه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ويعارضه مع جبريل ويعارضه يعني يقرأه مع جبريل ليعرضه عليه ليرى وليتقن حفظه ويضبط معناه صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الشهر أيضاً محل للإحسان والجود والعطاء، واليد السحاء التي تنفق ترجو ثواب الله، ولا ترجو من الناس جزاءً ولا شكوراً: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾[الإنسان:9] يرقبون الفضل ممن بيده الفضل جل في علاه، فهم يسألون الله العطاء على هذا الإحسان هو شهر تجود فيه النفوس، وهذا العطاء لا يقتصر فقط على العطاء المادي، هذا ما في شك من العطاء الملموس أن تعطي شيئاً مادياً، لكن هل إذا نضبت يدك وأقصرت يمينك فليس فيها شيء يعطى، هل يغلق دونك الباب؟ الجواب: لا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» أي: نصفها، هذا في أقل ما ينفقه الإنسان شق التمرة جزء منها: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة» إذاً الجود والإحسان لا يقتصر فقط على جود المال، بل جود القول وجود العمل، وجود المشاعر، والجود بكل معانيه وصوره هو مما يتقرب به إلى الله تعالى في هذا الشهر، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان صلى الله عليه وسلم.
هكذا تتنوع ألوان البر، وتتفنن صور الخير الموصلة إلى الله تعالى في هذا الشهر، فمن أبواب الخير التي يدرك بها الفضل والعطاء والأجر الكبير من رب يعطي على القليل الكثير أن يبادر الإنسان إلى كل مضرة واجبة، وكل فريضة وشعيرة ألزم بها وفرضت عليه، وهنا أقول: القيام بالواجبات في هذا الشهر أعظم منه في سائر الشهور، وهذا ليس فقط في هذا الشهر بل في كل زمان مبارك القيام بالواجب في الشهر المبارك في الزمان المبارك في المكان المبارك أعظم أجراً من العمل الصالح الواجب في زمان آخر، لذلك أقول: ينبغي لنا أن نبادر إلى بذل الواجبات طيبة بها نفوسنا، وأن نعلم أن أداء الواجب في هذا الشهر أعظم من أدائه في غيره، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال يتقرب إليّ بالنوافل» إذاً مما يتقرب به على الله تعالى في هذا الشهر ونحتسب لما تخرج إلى صلاة الجماعة، وأنت يا أختي لما تقومين لأداء الفرض في وقته، أنت الآن تتقرب إلى الله بعمل صالح يضاعف الأجر فيه وأجرك فيه أكبر من سائر الأيام والأزمان، ولذلك لا يقصر فقط فضيلة هذا الشهر على الصوم، إنما فضيلة هذا الشهر في كل فرض فرضه الله عليك تتضاعف فيه العطايا والأجور بترك كلما حرمه الله عليك تنال به الأجر بالنية الصادقة، أيضاً في كل باب من أبواب البر، وفي كل باب من أبواب الخير تدرك عطاءً وجزاءً وأجراً وثواباً من الله تعالى، فبادر وأقبل، والعمرة من الأمور والأعمال الصالحة التي يضاعف بها الأجر أيضاً في هذا الزمان، فعمرة في رمضان تعدل حجة، المقصود هي ما نريد أن نصل إليه في نهاية هذه الحلقة سابق في كل خير تستطيعه، وابذل كلما تقدير عليه من القيام بما فرضه الله عليك، ثم بادر بالتزود بالخيرات ما استطعت، واحرص على الأعمال التي تخص هذا الشهر من الصيام ومن القيام، ومن قراءة القرآن، من العمرة، من سائر ألوان البر التي تختص في هذا الشهر، وجاء الندب إليها خصوصاً، لكن لنعلم أن الأجر لا يقتصر فقط على المذكور، بل يكون على كل ألوان البر، فالله جل في علاه يعطي العبد بصدق نيته، وصلاح عمله أجراً جزيلاً كبيراً.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يستعملنا وإياكم في الصالحات، اللهم استعملنا في الصالحات واجعلنا من عبادك المتقين، وحزبك المفلحين، وأوليائك الصالحين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.