(الحلقة الرابعة )
معنى كلمة الصيام
الحمد لله رب العالمين، له الحمد في الأولى والآخرة هو الحكيم الخبير جل في علاه، أحمده لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله وعليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واكتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحياكم الله ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات! أيها الصائمون والصائمات! هذه مزرعة مباركة، هذا يوم من أيام الله تعالى يتقرب فيه الناس إلى ربهم جل وعلا بصالح الأعمال إنه صيام تلك الفريضة والشعيرة المباركة التي فرضها الله تعالى على المؤمنين، ولم يخص بها أهل الإسلام، بل صام قبلنا أممٌ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:183].
إنها شعيرة وفريضة كانت في الأمم السابقة، وقد قالت مريم عليها لسلام: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾[مريم:26].
وقد قال جماعة من أهل العلم: إن نذرها الصيام هو الصيام المعهود المشروع الذي يمسك فيه الإنسان عن جملة مما أمر الله تعالى بالإمساك عنه، ومنهم من قال: إن إمساكها هو عدم كلامها كما قالت: ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾[مريم:26] على كل حال: الصوم في شرائع من قبلنا كما دل القرآن في قول الله جل في علاه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:183]أي: الأمم السابقة.
فما هو الصوم؟ كلنا شرعنا في الصيام فنسأل الله القبول، لكن من المهم أن نقف عند معرفة هذا اللفظ وعند معنى هذه الكلمة ما هو الصيام الذي شرعه الله وجعله الله فرضاً على الأمة وعلى الأمم السابقة؟
الصوم في اللغة: هو الإمساك والامتناع، فإذا صام الشخص عن الشيء أي: امتنع منه فمن صام عن الكلام توقف عنه، ومن صام عن الجري والسير توقف عنه، ومنه قول الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة *** تحت العجاج وأخرى تعلك اللجم
هذا تقسيم للخيل التي كانت في أرض المعركة في ميدان المعركة أو ميدان السباق، منها ما هو ممسك عن السير، ولذلك قال:
خير صيام أي: ممسكة عن المشي والحركة.
وخيل غير صائمة أي: تجري وتمشي، ولذلك قال:
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجم
إذاً الصوم في معناه اللغوي: هو الإمساك، لكن ما هو المعنى في الصوم العبادي الذي يتقرب به المؤمنون لله تعالى الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» إنه إمساك، لكنه إمساك خاص، ولذلك هو تعبد لله تعالى أن يتعبد المؤمن أن يستحضر النية القلبية، هذا معنى التعبد: أن ينوي بقلبه التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات، هذا أجمع وأوسع ما يقال من التعاريف في بيان حقيقة الصوم ومعناه، إنه إمساك عن المفطرات، والمفطرات أشكال وألوان، يأتي لها بيان وتفصيل، لكن نحن الآن نريد أن نفهم معنى الصوم إذاً الصوم هو الإمساك هو التعبد لله تعالى بالإمساك الامتناع عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، هذا هو الصوم المشروع، وما عداه فإنه ليس بصيام شرعي، فمن أمسك عن الطعام والشراب حمية لبدنه، أو إصلاحاً لشيء من أعضائه، فهذا إمساك وصوم، لكنه ليس صياماً تترتب عليه الأجور، ويدرك به الإنسان الثواب ويحقق به العبودية لله تعالى.
إذاً الصوم هو إمساك تعبدي لله تعالى في وقت محدود وعن أشياء محدودة، والوقت المحدد هو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، هذا محل الصيام.
وأما ما يتعلق بما يمسك عنه فهو المفطرات، والمفطرات هي أشياء مباحة في الأصل منع الله تعالى المؤمنين منها في وقت صيامهم، وهذه المفطرات يمكن أن نقسمها إلى قسمين في الجملة، وهذا التقسيم تقريبي، وإلا فالمسألة ممكن ألا ندخل في التقسيم ونعدها عداً.. التقسيم التقريبي أن نقول: إن المفطرات نوعان:
الأول: منها ما هو مفطر معنوي.
والثاني: مفطرات حسية.
والمفطرات المعنوية هي ليس شيئاً يأكله أو يشربه، إنما هي أشياء وقوع المؤمن فيها يخدش صومه، ينقص أجره، يذهب مقصود صيامه، أنا أسأل، وهذا ما ستناوله الليلة؟ المفطرات الحسية: ما المقصود من الصوم؟ المقصود من الصوم جاء النص عليه في آية فرض الصيام يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ لماذا؟ ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:183] (لعلكم) هذه كلمة تعليل أي: تسبيب للحكم، ذكر علة الحكم، ذكر الغاية التي من أجلها شرع الله تعالى الصوم، ﴿لعلكم تتقون﴾ إذاً الحكمة والغاية من أجلها فرض الله الصوم هو تحقيق التقوى في المسلك والعمل، والتقوى ليست أمراً محدوداً بصورة ليست التقوى بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، هكذا تتحقق التقوى للإنسان:
أن يكون ممتثلاً لأمر الله تعالى فيما أمر.
وممتثل لنهي الله تعالى فيما نهى بالترك.
وأن يكون هذا الترك وذاك الفعل رجاء ما عند الله تعالى طلباً لما عنده سبحانه وبحمده رغبة ورهبة على نور من الله سبحانه وبحمده.
المفطرات المعنوية: هي في الحقيقة أمور منع منها الإنسان ليكمل صومه، ويحقق الغاية من صيامه، ولهذا جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة في الصحيحين البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصوم جُنة، فإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل».
وفي رواية: «ولا يصخب» نهاه عن أمور ثلاثة: لا يرفث، ولا يجهل، ولا يصخب.
«فإن امرئ شاتمه» وقع شجار واختلاف بينك وبين أحد من الناس، فما أنت صانع إذا اعتدي عليك بسب أو بذي من القول، أو قبيح من الكلام النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فإن امرئ شاتمه فليقل إني امرئ صائم» يعني يتمنع عن الرد، مع أن الرد جائز لقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾[النحل:126] لكن ندب الصائم أن يمتنع من الرد يحبس نفسه عن أن يأخذ حقه في المجاراة لمن يسابه أو لمن يشاتمه صيانة لصيامه، ولهذا قال: «فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل» والرفث: هو ما يتعلق بالجماع.
والصخب: هو ما يتعلق بالمنازعات.
والجهل: هو معنى عام، يشمل كل مخالفة، فكل مخالفة هي من الجهل قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾[النساء:17].
وقد جاء عند البخاري وأبي داود وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به».
قوله: «قول الزور» أي: العمل الباطل. «والعمل به» يعني العمل الباطل.
«فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» أي: أن الله جل وعلا إنما شرع الصيام لتزكوا الأخلاق، ولتصلح الأعمال، ولتطيب الأقوال، فإذا كان الصوم لا يحقق هذه الغاية فإن منع النفس عن المأكل والمشرب لم يأت بالنتيجة المطلوبة، وبالتالي يحتاج الإنسان أن يراجع صيامه لأنه مخل بالغاية والمقصود، فهو ليس على الوجه الذي أمر الله ورسوله.
إن الصيام الذي ينبغي أن ينتبه إليه، وهذا معنى يغيب عن الناس وعن كثير من الناس: أنه في الحقيقة امتناع عن أكل وشرب وفقط، هذا ليس بصحيح الصوم أوسع دائرة، وأشمل مفهوم من أن تمتنع عن الأكل والشرب ثم تطلق لجوارحك العنان في مخالفة أمر الله ورسوله، ولذلك يقول شيخنا رحمه الله محمد العثيمين: ومن المؤسف أن كثيراً من الصائمين يصومون على عادتهم في ممارساتهم وأعمالهم فتجد عندهم الغش وتجد عندهم الكذب، وتجد عندهم ألوان من المخالفات حتى إن هذه الأعمال قد تذهب أجر الصيام وقد تعادله فلا يخرج الإنسان بأجر، فيكون ما كسبه من سيئ أذهب ما سعى بصيامه لإدراكه من الأجر.
من المهم يا إخواني ويا أخواتي، أن يكون يوم صومنا مختلفاً عن الأيام الأخرى فإنه قد قال من سلفنا جماعات: أن يوم الصوم ينبغي أن يختلف عن يوم الفطر، ولهذا قال أبو ذر: إذا صمت فلتحفظ صومك. وحفظ الصوم: بأن يكون الإنسان على وجه يرضى الله تعالى به عنه في قوله وفي عمله وفي هديه وفي سائر شأنه.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الصيام على الوجه الذي يرضى به عنا، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.