(الحلقةُ الخامسةُ )
وجُوبُ حِفْظِ الصيامِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أحمدهُ جَلَّ في علاهُ، وأُثْنِي عليْهِ الخيرَ كُلِّهِ، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدهُ لا شريكَ لهُ، وأشْهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُ اللهِ ورَسُولهُ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وعلَى آلهِ وصحْبِهِ، ومَنِ اتبعَ سُنَّتهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
فأَسْألُ اللهَ العَظيمَ ربَّ العرْشِ الكريمِ أَنْ يَقْبَلَنا وَإِيَّاكُمْ، وَأَنْ يَجْعَلَ صِيامِنا خالِصاً لوَجْهِهِ، وَأَنْ يَرْزُقَنا ما يَرْضَى بِهِ عَنَّا مِنْ صالِحِ العَمَلِ، وَأَنْ يَسْتَعْمِلَنا في الصَّالحاتِ، وَأَنْ يُيَسِّرَ لَنا الطَّاعاتِ، وأَنْ يَجْعَلَنا مِنْ أَوْلِيائِهِ وَحِزْبِهِ، وَأَنْ يُوفِّقَنا للخيراتِ.
الصوْمُ: الإمْساكُ عَنْ ما أمَرَ اللهُ تَعالَى بِالإِمْساكِ عَنْهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَمْتَنِعَ الإِنْسانُ عنْ ما أَمَرَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا بِأَنْ يَمتَنِعَ مِنْهُ، وَهُناكَ مَمْنُوعاتٌ خاصَّةٌ في الصَّوْمِ، وممنْوعاتٌ عامَّةٌ تَكُونُ في الصَّوْمِ وَفِي غيرِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنا عَنِ الصَّوْمِ وَأَنَّهُ مِنْهُ ما يتَعَلَّقُ بِصِيامٍ مَعْنَوِيٌّ، وَمِنْهُ ما يَتَعَلَّقُ بِصِيامٍ عَنْ أُمُورٍ حِسِّيّةٍ بِمَعْنَى: أَنْ ما يُفْسِدُ الصِّيامَ ما يُنْقِصُ الأَجْرَ في الصِّيام ما يُعْرفُ بِالمفْطِراتِ هِيَ نَوْعانِ: مُفْطِراتٌ معْنَوِيَّةٌ، وَمُفْطِراتٌ حِسَّيَّةٌ.
المفْطِراتُ المعنوِيَّةُ: هِيَ كُلُّ مُخالَفَةٍ لأمرِ اللهِ وَلأَمْرِ رَسُولِهِ، فَمَثَلاً: الغِيبةُ، مَنَعَها اللهُ تعالَى، وَجَعَلَها مِنْ كَبائِرِ الذُّنُوبِ: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾[الحجرات:12].
«والكَذِبُ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، والفُجُورُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ» كَما قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّم.
النَّمِيمَةُ: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ».
أكْلُ أَمْوالِ النَّاسِ بِالباطلِ محرم من المحرمات، إطلاق البصر بمشاهدة ما منع الله تعالى من مشاهدته هذا لا فرق فيه بين الصائم وغيره، بل هو محرم في الصيام وفي غيره: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾[النور:30].
هَكذا كُلُّ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ مِنَ الواجِباتِ يَجِبُ أَنْ يُراعَىَ في الصَّوْمِ وَفِي غيْرِهِ، وَكُلُّ ما نَهَى اللهُ تَعالَى عَنْهُ مِنَ المحرَّماتِ يَجِبُ أَنْ يُرَاعَى في الصَّوْمِ وفي غَيْرِهِ، لَكِنْ عِنْدَما يكونُ الإنِسانُ صائِماً يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ عَلَى حالٍ مِنَ التَّحَفُّظِ عَنِ المحرَّماتِ أَكْثرُ وأَكْبَرُ مِنْ حالِهِ المعْتادَةٍ، وَلِهذا مِنَ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَحْفَظَ الإِنْسانُ صَوْمَهُ بِأَنْ يُبْعِدَ نَفْسَهُ عَنْ كُلِّ ما يَنْقُصُ أَجْرُ صِيامِهِ أَوْ يَجْرَحُ صِيامَهُ، وَلِذَلِكَ هُناكَ أَشْياءٌ مَأْذُونٌ لِلإِنْسانِ فِيها في غَيْرِ الصَّوْمِ، لَكِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْها في الصَّوْمِ، فَمَثَلاً ما ذكرهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ، فَإِنِ امْرِئٌ شاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صائِمٌ» مَعَ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى المعْتَدِي جائِزٌ بِمِثْلِ ما اعْتَدَىَ بِهِ كَما قالَ اللُه تَعالَى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾[الشورى:40] لَكِنَّهُ مأْمُورٌ بِأَنْ يَحْجِبَ هَذا المسلَكُ وَهُوَ أَنْ يُقابِلَ الإساءَةَ بِمِثْلِها مُراعاةً لِصَوْمِهِ، وَحِفْظاً لِصَوْمِهِ أَنْ يُجْرَحَ.
وَقَدْ جاءَ في كَلامِ جُمْلَةٍ مِنَ السَّلَفِ التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى حالٍ مُخْتَلِفَةٍ عنْ غَيْرِها، فَأَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: إذا صُمْتَ فَتَحَفَّظْ ما اسْتَطَعْتَ.
وَهَذا تنبيه إنه ينبغي للإنسان أن يكون في صومه على نوع من الاحتياط والصيانة لصومه مختلف عن حاله في غير الصوم.
جاء رضي الله عنه يقول: إذا صمت فليصم سمعك، وليصم بصرك، وليصم لسانك عن الكذب والمآثم، وليس الأمر فقط بالامتناع، بل حتى في ما يظهر على مسلكك ينبغي أن يختلف، ولهذا يقول رحمه الله: وليكن عليك وقار وسكينة في يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك، هذا التنبيه من جابر رحمه الله ورضي الله عنه هو تنبيه أن الصوم ينبغي أن ينعكس على المسلك الكلي للإنسان، وليس فقط في منع نفسه عن الأكل والشرب، ولهذا ينبغي لنا في يوم صومنا أن نكون أجود منا، وأطيب منا وأعبد لله تعالى منا، وأخير للناس منا في ما إذا قارنا بين يوم الصوم وبين يوم الفطر وذلك أن الصوم يضيق المجاري على الشيطان وتأثيره على الإنسان، فيكون الإنسان زاكياً خاشعاً هادئاً مطمئناً ملاحظاً العقبى عند الله تعالى في ما يأتي وفي ما يذر، فيكون هذا مدعاة للسكون والوقار، وهنا نعرف أن هذه العبادة وهذا الصوم له فائدة يدركها الإنسان لأنه لما تصوم فيتأثر مسلكك بوقار وسكينة، هذا نتاج وحصاد قريب ناتج عن العبادة مباشرة، ولذلك من المهم أن نلاحظ هذا المعنى، وهذا المعنى يغيب عن كثير من الناس، لا يفهموا من الصوم إلا أن يمتنعوا فقط من الأكل والشرب والمفطرات المعهودة المعروفة، لكنهم لا يمنعون أنفسهم من شهواتهم، ولا يمنعون أنفسهم من ترك الواجبات والحقوق، لا يمنعون أنفسهم من التقصير فيما تكلفوا به من الأعمال وفيما اطلعوا به من الوظائف وغير ذلك، بل تجده على غاية التفريط في كثير من الأحيان، بل من الناس من يفرط ويجعل الصوم مبرراً لتفريطه، يقول: أنا صائم، وبالتالي لا ينجز معاملات الناس، أنا صائم وبالتالي يسيء معاملة الناس، أنا صائم وبالتالي تجده سريع الغضب سريع الانفعال سريع الطيشان، وهذا كله خلاف ما ينبغي أن يكون عليه الصائم، هذا صح صام عن الأكل والشرب، لكنه لم يزك نفسه ولم يحقق الغاية من الصوم التي من أجلها شرع الله تعالى الصوم وقال جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:183].
هذا لم يحقق الصوم المقصود الذي أراد الله تعالى تحقيقه في مسلك الصائم حيث قال في حديث أبي هريرة: «من لم يدع قول الزور» وهذا كل قول باطل وكل قول محرم من الغيبة والنميمة، والقول البذي والسب، والتكلم بالمحرمات بشتى صنوفها.
«والعمل به» يشمل كل عمل محرم سواءً كان عملاً ظاهراً أو عملاً باطناً كالرياء والعجب والحسد، والحقد، أو السعي بالفساد في الأرض بسائر أنواع الفساد التي تكون بالعمل من إشاعة الشر بين الناس من التقصير في الواجبات في عدم القيام بالمهمات كله يدخل تحت عمل الزور، فمن لم يدع قول الزور ولم يدع عمل الزور العمل الباطل والقول الباطل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، يا إخواني! الله غني عنا وعن عبادتنا: «يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن جد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
هذه العبادات فائدتها لنا نحن والله غني عنا وعن عبادتنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره الإمام مسلم من حديث أبي ذر في الحديث الإلهي: «يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيء، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنساكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً».
إذاً هي في الحقيقة أعمال نحن الذين نجني ثمارها في الدنيا وفي الآخرة، ومن المهم أن نحقق الغايات من العبادات، ولهذا الله تعالى في أول تشريع الصيام ذكر الغاية من الصيام فقال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:183].
وفي الصلاة قال: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[العنكبوت:45].
وفي الحج قال: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾[البقرة:197].
وفي الزكاة قال: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾[التوبة:103].
إذاً كلُّ العِباداتِ مَقْصُودَةٌ وغايتُها هُوَ تَزْكِيَةُ النُّفُوسِ، وَلِهَذا صَدَقَ جابرٌ رَضِيَ اللهُ عنْهُ عنْدَما قالَ: «وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وقارٌ وسَكِينةٌ يَوْمَ صِيامِكَ» لأنَّهُ الثَّمَرَةُ المقْصُودَةُ منَ الصِّيامِ، الوقارُ هَذا في الهيْئَةِ وَالمظْهَرُ، وَالسَّكينَةُ هَذا في القَلْبِ، والقَلْبُ تَرْجُمانُهُ ما يَكُونُ في الأَعْمالِ مِنْ صَلاحِ وَاستقامَةٍ، أَوْ فُجُورٍ وخيانَةٍ، وَلِهَذا أَدْعُو نَفْسْي وَإِخْوانِي إِلَى أَنَّ نَتَأَمَّلَ هَذا المعْنَى وهُوَ: هلْ نَحْنُ صُمْنا بَقُلُوبِنا، وَصُمْنا عَنْ ما حرَّمَ اللهُ تَعالَى، ولِنَعْلَمَ أَنَّ المعْصِيَةَ في وَقْتِ الصِّيامِ أعْظَمُ وِزْراً وأكبر إثماً من المعصية في حال غير الصائم، ولهذا منع الصائم من أن يأخذ حقه في حال الاعتداء عليه في القول مراعاة لصيامه.
أسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم الصيام الذي يرضى به عنا، وأن يكملنا بالصالحات، وأن يعيذنا من السيئات إنه سميع قريب مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.