(الحلقةُ السادسِةُ)
بيانُ مُفْسداتِ الصِّيامِ
الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أحمدهُ جلَّ في علاهُ وأُثْنِي عليهِ الخيرَ كُلَّهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحْدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُ اللهِ ورسُولهُ صلَّى اللهُ عَليْهِ وعلَى آلهِ وصحْبِهِ، ومنِ اتبعَ سنتهُ بإحْسان إلَى يوْمِ الدِّينِ.
أمَّا بعْدُ:
فمرْحباً بكمْ وأهْلاً أيُّها الإخوةُ والأخواتُ وإنَّ الصائمينَ في هذهِ الأيامِ يقُومونَ بالامتناعِ عنْ ما أمرهمُ اللهُ تعالَى باِلامتناعِ منهُ، وأصْلُ ما يُمْنعُ منهُ الصائمُ هُوَ ما يُعرفُ في كلامِ العُلماءِ بالمفطراتِ أوْ مُفْسداتِ الصَّوْمِ، فالمفطراتُ والمفسداتُ هيَ شيءٌ واحدٌ، وهوَ ما أُمِرَ الصائمُ بأنْ يُمْسِكَ عنهُ فالصِّيامُ هُوَ الإِمْساكُ، وهُوَ الامتناعُ منَ المفطراتِ مِنْ طُلُوعِ الفجرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمسِ، بيَّنَ اللهُ جلَّ في علاهُ أصُولَ هذهِ المفطراتِ في محكمِ كِتابهِ فَقالَ جلَّ في علاهُ في آياتِ الصِّيامِ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾[البقرة:187] هَذا أوَّلُ ما يتَعلَّقُ بِممْنُوعاتِ الصِّيامِ وهُوَ الجماعُ، كَنَّى اللهُ تعالَى عنهُ بالرَّفَثِ يقولُ ابْنُ عبَّاسٍ: إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كريمٌ كَنَّى عنِ الجِماعِ بالرَّفثِ، والرَّفَثُ مَعْنى عامٌ، لكنَّ المقصودَ هُنا هُوَ الجِماعُ عَلَى وجْهِ الخصُوصِ، وهُوَ أوْسَعُ منْ هَذا دلالةً، فإنَّ اللهَ تَعالَى قَدْ مَنْعَ الحاجَّ مِنَ الرَّفَثِ وهُوَ أوْسَعُ في الدِّلالةِ مِنْهُ في الصِّيامِ فالرفثُ الممنوعُ في الصِّيامِ هُوَ الجِماعُ عَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ، وأَمَّا ما يتعلَّقُ بِالحجِّ فلهُ أَحْكامُهُ الَّتِي تتَّصِلُ بِكُلِّ ما يأْتِي الرَّجُلُ مِنَ المرأَةِ مِنْ لمسٍ وتقبيلٍ وجماعٍ وغيرِ ذلكَ يعْنِي الجماعَ ومقدماتِهِ.
أمَّا فِيما يتعلَّقُ بِالصِّيامِ فإنهُ الجماعُ وَهَذا أوَّلُ الممْنوعاتِ الَّتِي ذكَرها اللهُ تَعالَى وهُوَ أعْظَمُها، وَلِذَلِكَ قدمهُ اللهُ في الذِّكْرِ قبْلَ غيرِهِ منَ الممْنُوعاتِ قالَ جَلَّ وَعَلا: ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ يعْنِي في ليلةِ الصِّيامِ، ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ وهذا يتبين به ما يمنع منه الصائم إذ أنه أحل له ليلة الصيام الرفث وهو الجماع، الأكل والشرب، ثم قال: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ فبيَّنَ اللهُ تعالَى في هذهِ الآيةِ أُصُولُ المفطراتِ وهِيَ ثلاثةٌ في هذهِ الآيةِ: الطَّعامُ، والشَّرابُ، والجِماعُ، فالصائمُ يَمْتنعُ عنْ كُلِّ مأْكُولٍ، سَواءً اشتهتهُ نفسهُ أوْ لم تَشْتهيهِ نفْسُهُ، كذلكَ يمتنعُ عنْ كلِّ مشرُوبٍ، كَذا يمتنعُ عنِ الجِماعِ ووطْئِ ما أحلَّ اللهُ تعالَى لهُ منَ الزَّوجاتِ وملكِ اليمينِ وَما في ملكِ يمينٍ الآنَ لكنْ منَ الزوجاتِ.
كَذا يمنعُ من بابِ أوْلَى ممَّا يتعلقُ بِالمحرَّماتِ كالزنا وغيرهِ فإنهُ مَمْنوعٌ منْعاً مُضاعفاً، وَمَمْنُوعٌ مِنْهُ بِكُلِّ حالٍ، وممنوعٌ منهُ في الصِّيامِ عَلَى وجْهِ الخُصُوصِ.
وقدْ جاءَ النصُّ علَى هذهِ الأمُورِ الثلاثةِ: وهِيَ الجِماعُ، والأكْلُ، والشربُ، في أنَّ الصائمَ يمتنعُ منْها كَما في الصحيحينِ مِنْ حدِيثِ أبِي هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: يقُولُ اللهُ تَعالَى: «الصيامُ لِي وأنا أجْزِي بهِ».
ثمَّ قالَ: «يدعُ طعامهُ وشرابهُ وشهْوتَهُ مِنْ أَجْلِي» فيدعُ الطعامَ والشَّرابَ والشَّهْوَةَ، هذهِ أُصُولُ ما يُمْنعُ منهُ الصائمُ، وهَذا التركُ للهِ جلَّ في عُلاهُ ليْسَ عليكَ رقيبٌ ننظرُ ما تفعلُ وَما تأْتِي وَما تذرُ إِنَّما رقيبُكَ هُوَ اللهُ، وَما جعلهُ اللهُ تَعالَى مَحْصِيَّاً لأعمالك قاصداً لما يكون منك: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾[الانفطار:10] * ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾[الانفطار:11]، وَلذلكَ كانتْ أُصُولُ المفْطراتِ هذهِ الأُمُورَ الثلاثةَ، وَإِذا تأمَّلْنا وَجدْنا أنَّ المفْطراتِ تَعُودُ إِلَى هذهِ الأُمُورُ الثَّلاثةِ في غالِبها، وهُناكَ مفطراتٌ أخْرَى وهِيَ مِمَّا اتَّفَقَ عليْهِ العُلماءُ وَهِيَ مُلْحَقَةٌ ومنْها: الحيضُ والنفاسُ، وهَذا عُذْرٌ يختصُّ بِالنِّساءِ، فالإجماعُ منعقدٌ علَى أنَّ الحائضَ والنُفَساءَ لا تصومُ، وقدْ جاءَ الأصْلُ في هَذا، أوْ أصْلُ هذا جاءَ في صحيحِ الإمامِ مسلمٍ منْ حديثِ مُعاذةَ العدويَّةِ حيْثُ سألتْ عائشةَ رضيَ اللهُ عنْها: ما بالُ الحائضِ تقضِي الصوْمَ وَلا تقضِي الصَّلاةَ؟ فعُلِمَ مِنْ هَذا أنَّ الحائضَ لا تَصُومُ، ولِذلكَ تؤمَرُ بِالقضاءِ، وَهَذا محلُّ اتِّفاقٍ، ومثلُهُ النُّفَساءُ، يلحقُ بِهذا إِذاً عندَنا الآنَ خمسُ مُفْطراتٍ مجمعٌ عليْها، وهِيَ: الجماعُ، الأَكْلُ، الشُّرْبُ، الحيضُ، النِّفاسُ، أَلْحَقَ جماعَةٌ مِنَ العُلماءِ بِالمفطراتِ المتفَّقِ عَليْها القيءَ، وَهُوَ أنْ يخرجَ الإنسانُ ما في جوْفِهِ اخْتِياراً بأيِّ نوْعٍ منْ أنواعِ استخراجِ ما في الجوفِ سَواءً كانَ ذلكَ بِمعالجةٍ بأصبعٍ أوْ بِشَمِّ رائحةٍ، أوْ بِالنّظرِ إلَى ما يُقَيِّيهِ وَيُهَيِّجُ ما في معدتِهِ لِلخُرُوجِ، أوْ أيْضاً باِلإبرِ الَّتِي تُسبِّبُ تقلُّصاتٍ للمعدَةِ وتخرجُ ما فِيها، كُلُّ هذهِ وَسائلُ مختلفةٌ لشيءٍ واحدٍ وهوَ أنهُ يُخرجُ ما في جوفهِ اخْتِياراً، حكىَ جماعَةٌ مِنَ العُلماءِ الإِجماعَ عَلَى أنَّ مَنْ طَلَبَ إِخْراجَ ما في جوْفِهِ فإنهُ يقْضِي ويكونُ بذلكَ قدْ أفسَدَ صَوْمَهُ، واستندُوا في ذلكَ إِلَى ما رواهُ الترمذيُّ في جامعِ منْ حديثِ أبِي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: «منْ ذَرعهُ القيءُ فَلا قضاءَ عليْهِ» مَنْ ذَرَعَهُ يعنِي غلبهُ خرجَ مِنْ غيرِ اخْتيارٍ. «وَمَنِ اسْتقاءَ» أيْ: طلَبَ إِخْراجَ ما في جوْفِهِ «فليقضي» وَهذا الحديثُ وإنْ كانَ في إِسنادهِ بَعْضُ المقالِ عندَ بعضِ أهْلِ العلمِ، لكنهمُ اتَّفَقُوا علَى مَعْناهُ، حَكَى الإجماعَ علَى مَضْمُونِ هَذا الحديثِ جماعةٌ مِنَ العُلماءِ: منهمُ ابْنُ المنذرِ رَحَمِهُ اللهُ.
وَمِنَ المفطراتِ المتفقِ عليْها: الردَّةُ نعُوذُ بِاللهِ منَ الخسْرانِ وَهِيَ: الخرُوجُ عَنِ الإسلامِ، وذلكَ بقولٍ، أو فعْلٍ، أوِ اعْتِقادٍ، فالرِّدَّةُ تكونُ بِالأَقْوالِ، وتكونُ بالأفعالِ، وتكُونُ بِالاعْتقاداتِ فَإِذا وقعَ مِنْهُ ما يُخْرِجُهُ عنِ الإسْلامِ قَوْلاً أوْ فِعْلاً أو اعتقاداً فإِنَّهُ بذلِكَ يفسُدُ صوْمُهُ.
هذهِ هيَ المبْطِلاتُ الَّتي تُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَهِيَ محلُّ اتِّفاقٍ بيْنَ أهْلِ العلْمِ، وَلا خلافَ بينهُمْ في أنَّ مَنْ أَتَى واحِدًا مِنْ هذهِ الأُمُورِ قَدْ فَسَدَ صَوْمُهُ، لكنْ يَنْبَغِي أنْ يعلَمَ أنَّ هُناكَ قائمةٌ لا يُسْتَهان بِها قائمةٌ طويلَةٌ مِنَ المسائلِ الَّتِي وقَعَ الخِلافُ بَيْنَ العُلَماءِ في هَلْ هِيَ مِنَ اَلمفْطِراتِ أَوْ ليْسَتْ مِنَ المفْطراتِ؟
فمَثلاً علَى سبيلِ المثالِ: الحجامَةُ اختلفَ العُلَماءُ هَلْ هِيَ مِنَ المفطراتِ:
فذَهَبَ الإِمامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى أَنَّها مُفْطِرٌ مِنَ المفطراتِ.
وَذهَبَ طائفةٌ وهَوَ قولُ الجمْهُورِ إِلَى أَنَّها ليْسَتْ مِنَ المفطراتِ.
أكْلُ ما لا يفيدُ أَوْ إِدْخالُ ما لا يفيدُ البدنَ مِنْ خَيْطٍ أوْ ما أَشْبَهُ ذلكَ هلْ يُفْطِرُ أَوْ لا يُفْطِرُ؟ هَذا محلُّ خِلافٍ بيْنَ العُلَماءِ:
الجُمْهُورِ عَلَى أنَّهُ يُفْطِرُ كُلَّما وَصَلَ الجوْفَ.
وَمِنْهمْ مَنْ يَرَى أنهُ ليْسَ بِمفطرٍ. السعُوطُ والوجُورُ.
صورٌ أخْرى ذكرَها العُلَماءُ في كتبهِمْ وَمُدوِّناتهمْ الفقْهِيَّةِ: اخْتَلَفُوا هلْ هِيَ مِنَ المفطراتِ أوْ ليْسَتْ مِنَ المفطراتِ، إِذا انْتَقلْنا إِلَى الواقعِ المعاصرِ وَجَدْنا مسائِلَ كثيرةً جدَّاً هيَ مِمَّا وقَعَ الخلافُ فيهِ بينَ أهْلِ العِلْمِ هَلْ هِيَ مُفَطِّرةٌ أوْ ليستْ مفطرةً، فإبرُ التَّحْليلِ إِبرُ العلاجِ أقصِدُ الإِبَرَ التحْلِيلة أي: أَخْذُ دَمٍ للتَّحْلِيلِ هَلْ يلحقُ بِالحجامَةِ أوْ لا يلْحقُ بِالحجامَةِ، الإبرُ العِلاجِيَّةُ وَالإبِرُ المغَذِّيَةُ، وأَشْياءٌ كثيرةٌ اختلَفَ فِيها العُلَماءُ هَلْ هِيَ مِنَ المفطِّراتِ أوْ ليْسَتْ مِنَ المفطِّراتِ، وَالَّذِي يُمْكنُ أَنْ نَخْتمَ بِهِ حلْقَتنا اللَّيْلَةَ فِيما يتَّصِلُ بِالمفطراتِ: أنَّهُ لا يحكُمُ بِشَيْءٍ مِنَ الأَشْياءِ بِأنَّهُ مُفْطرٌ إِلَّا بِدليلٍ، هَذا أصْلٌ ينبغِي أنْ ننْطَلِقَ منهُ ونتفِقُ عليهِ، لأنَّ المفطرات ليستْ أَمْراً اخْتِيارِياً وَلا ذوقيه، وَلا أمْراً يقترِحُهُ المقْتَرِحُونَ، بَلْ كُلُّ مَنْ قالَ في شَيْءٍ إِنَّهُ مُفْطرٌ فَلابدَّ أنْ يُقِيمَ دَلِيلاً، فَمَنْ قالَ: إِنَّ شَمَّ الروائحِ الطَّيبَةِ الزكيةِ الأَطْيابَ والعُطورَ مُفَطِّرٌ، نَقُولُ: أيْنَ الدَّلِيلُ؟ فإنْ أقامَ الدَّلِيلَ سمعْنا وأطعْنا، وإنْ لم يأْتِ بِدَليلٍ فالأصْلُ أنَّهُ ليْسَ مِنَ المفطراتِ، والأصْلُ صِحَّةُ الصيامِ.
إذاً الخلاصَةُ: أنَّ المفطراتِ المتفَّقِ عليْها هيَ ما ذكرْناهُ منَ الأُمُورِ السَّتَّةِ، أَمَّا المختلفُ فيهِ فكلُّ مَنْ قالَ في شيءٍ منَ الأشْياءِ إنهُ مفطرٌ طالبْناهُ بِإقامةِ الدَّليلِ علىَ هذا الحُكْمِ، فَإِنْ أَتَى بهِ سمعْنا وأَطَعْنا، وإنْ لمْ يُقِمْ علىَ ذلكَ دَلِيلاً فالأَصْلُ أنَّ الصِّيامَ صَحِيحٌ.
أسألُ اللهَ تَعالَى أنْ يرزُقَنِي وَإِيَّاكُمُ العِلْمَ النافِعَ والعمَلَ الصَّالِحَ، وأنْ يَرْزُقَنا القبولَ.
وصلَّى اللهُ وسلَّم علَى نبيِّنا محمَّدٍ وعلَى آلهِ وأصْحابِهِ أجْمَعينَ.