(الحلقةُ الثامنةُ)
منْ قضايا الصيامِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أحمدهُ وأُثْنِي عليهِ الخيرَ كلهُ، لا أُحْصِي ثَناءً عليهِ كَما أُثْنِى علَى نفسهِ.
وأشْهدُ أنْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وحْدهُ لا شَرِيكَ لهُ، وأشْهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدهُ ورسولُهُ صلَّى اللهُ وعليْهِ وعلَى آلهِ وصحبهِ ومنِ اتبعَ سُنتهُ بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
فمرْحباً بكمْ وأهْلاً وسهْلاً أيُّها الإخوةُ والأخواتُ، وأسألُ اللهَ تعالَى أنْ يتقبَّلَ منَّا الصيامَ والقيامَ، وأنْ يُعِيننا علَى ما بَقِيَ منَ الأيَّامِ وَاللَّيالِي، وأنْ يرْزُقَنا فِيها صالحُ الأَعْمالِ.
إِنَّ حدِيثَنا ما زالَ حوْلَ قَضايا الصِّيامِ: الصَّوْمِ عبادةٌ جليلةٌ، رتَّبَ اللهُ تَعالَى عليْها أجْراً كَبِيراً، وجعلَ لَها مِنَ الأَحْكامِ ما ينبغِي أنْ نهتَّمَ بهِ وأنْ نعلمهُ، إنَّ أجْرَ الصيامِ جازَ قانُونُ التَّقْدِيرِ والحسابِ، فأجْرهُ عَظيمٌ، وَفضْلهُ كبيرٌ لوْ لمْ يأْتِ إِلَّا قولُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِيما رواهُ عنْ ربهِ في الحدِيثِ الإلهِيِّ: «الصِّيامُ لِي وَأَنا أَجْزِي بهِ» لَكانَ كافِياً، ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[الزمر:10] محرومٌ ذاكَ الَّذِي ينْتَهِكُ حُرْمةَ هَذا الشَّهْرِ، محرومٌ ذاكَ الَّذي يفرطُّ بحقِّ هَذا الشَّهْرِ فتجدهُ يفطرُ منْ دُونِ مبررٍّ وَلا مسوِّغٌ شرْعِيٌّ، الفِطْرُ في هذهِ الأيَّامِ في أيَّامِ الصِّيامِ الواجبِ هُوَ مِنْ كبائرِ الإِثْمِ وَعَظائمِ الذِّنْبِ، لأنَّهُ إِخْلالٌ بركْنٍ مِنْ أَرْكانِ الإسْلامِ، وقَدْ بيَّنَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عظيمَ عُقوبةٍ الَّذي يُفطرُ في نهارِ رَمضانَ بِما ذكرهُ مِنْ أنهُ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ كَما جاءِ في البُخاريِّ مُعَلِّقاً عنْ أبِي هريرةَ بصيغةِ التَّضعيفِ، لكنَّ الحديثَ لهُ ما يُسْندُهُ ويعضدهُ منْ قوْلِ ابْنِ عباسٍ مرْفُوعاً قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «مَنْ أفطرَ يَوْماً منْ رَمضانَ مِنْ غيرِ عُذْرٍ ولا مرضٍ لمْ يجْزِهِ صيامُ الدَّهْرِ وإِنْ صامهُ» وتصوَّرَ حتَّى تُدْركَ خُطورةَ الموضوعِ يعْنِي لوْ أنَّكَ أَفْطرْتَ يوماً منْ هَذهِ الأيَّامِ بدُونَ عذْرٍ ولا مَرضٍ وَلا سببٌ يبيحُ لكَ الفطرَ، ثمَّ أردتَ أنْ تعوِّضَ عنْ هَذا اليوْمِ بصيامِ الدَّهْرِ، الدَّهْرُ قيلَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ، وقيلَ: الدَّهْرُ بقِيَّةُ العُمُرِ كُلُّهُ، فإنهُ لا يُجْزِيهِ وَلا يكْفيهِ، وَلا يُغْني صاحِبَهُ أنْ يأْتِي بِصيامِ الأيَّامِ كُلِّها لماذا؟ لأنهُ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الشَّهْرِ وأخلَّ بِما فرضَ اللهُ تَعالَى عليْهِ، ووَقَعَ في مخالفةِ أمْرِ اللهِ تعالَى ورَسولِهِ، فكانَ منْ عُقوبةِ ذلكَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَستدرِكَ ذلكَ بنوعٍ منَ الاسْتدراكِ فيقومُ بتعويضِ هَذا اليومِ بِيومٍ آخرَ، بعضُ الناسِ يهون موضوعَ الفطرِ وموضوعَ الالتزامِ بالصيامِ يقولُ: بدلَ اليومِ يومٌ، أصومُ بدلَ هذا اليومِ الَّذي أفطرْتهُ يوماً منَ الأيَّامِ القصيرةِ والباردَةِ، وهَذا عنْ ذاكَ وانتهَى الموضوعُ، لكنْ هَذا غلطٌ في القِياسِ، غلطٌ في الحسابِ، لأنهُ قدْ قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ولوْ لم يصحَّ مرْفُوعاً فقدْ صحَّ عنِ ابنِ مسعُودٍ وهوَ مِمَّا لا يُقالُ بالرَّأْي يقولُ رضِيَ اللهُ عنهُ: «مَنْ أفْطَرَ يوْماً من رمَضانَ مِنْ غيرِ عُذرٍ لم يجزِهِ صِيامُ الدهرِ وإنْ صامهُ» فينبغِي للمؤمنِ أنْ يحتاطَ في هَذا الصومِ بأنْ يقومَ بهِ علَى الوجْهِ الَّذي يَرْضَى اللهُ تعالَى به عنهُ، وإنَّ اللهَ قدْ بيَّن بَياناً مُفصَّلاً ما الَّذي يمتنعُ منهُ الصائمُ، ومتَى يبَتْدئُ الصيامُ، ومتَى ينتهِي الصيامُ، وَلا يمكنُ أنْ يَحْتفِيَ اللهُ تَعالَى بعبادهِ هَذهِ الحفاوةَ وتكونُ عبادُةٌ يُمكنُ أنْ يأْتِيَ بِها الإنسانُ في وقْتٍ آخرَ، ويفعلُها في أي زمانٍ آخرَ، ينبغِي للمؤمنِ أنْ يَحْتاطَ، وأنْ يُبْعِدَ نفسهُ عنِ انْتِهاكِ حُرماتِ اللهِ تعالَى، وانْتِهاك حرمةِ هَذا الشَّهْرِ، ولِتتضحَ لكَ القضيةُ، وأنَّ الفطرَ في نهارِ رمَضانَ هلاكٌ وَمشكلٌ، أقصُّ لكَ هذا الخبرَ الَّذي جاءَ في البُخاريِّ ومسلمٍ منْ حديثِ أبي حُميدِ بْنِ عبدِ الرَّحمنِ عنْ أبي هريرةَ رضِيَ اللهُ عنهُ يقولُ: جاءَ رجلٌ إلَى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. وَفي بعضِ الرواياتِ أنهُ يمزعُ شعرهُ وقدْ بَدا منهُ الخوفُ والوجلُ لكنْ في الصحيحِ جاءَ رجلٌ إلَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ: يا رسولَ اللهِ هلكْتُ. هذهِ الجملةُ تُفْزعُ وتخيفُ، رجلٌ يشهدُ علَى نفسهِ بِالهلاكِ، فقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهُوَ الشفيقُ الرَّحيمُ قالَ لهُ: «ما أهلككَ» أيُّ شيءٍ أوقعكَ في الهلاكِ؟ وهُوَ يمدُّ لهُ حبالَ النجاةِ، يقولُ: وقعْتُ علَى أهْلِي في نهارِ رمضانَ. الصحابيُّ عرفَ أنَّ ما قارفهُ وما تورَّطَ فيهِ مشكلِةٌ توجبُ الهلاكَ، والهلاكُ هُنا ليْسَ خسارةٌ ماليَّةٌ، وَلا خسارةٌ بدنيَّةٌ، وَلا خسارةٌ دنْيويِّةٌ، إنَّها خسارةٌ آخِرةٌ، وَلِهذا عبَّرَ عِنْها بِهذا الأمرِ، ووجِدَ مِنَ الضِّيقِ ما لا يحلُّ إِلَّا أنْ يطرحَ القضيةَ بينَ يديْ خيرِ الأنامِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فقالَ: يا رسولَ اللهِ هلكْتُ. قالَ: «ما أَهْلككَ؟» قالَ: وقعْتُ علَى أهْلِي في نهارِ رمضانَ.
النبي صلى الله عليه وسلم ما قال له لا، ما صار شيء الأمر خير، ما هناك ما يستوجب هذا الفزع، وهذا الوصف، إنما قال له مباشرة: «أتجد ما تعتق رقبة؟» قال: لا. قال: «أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا. قال: «أتجد ما تطعم ستين مسكيناً؟» قالَ: لا. كلُّ الخياراتِ اعتذرَ مِنْها طَبعاً النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وكُلُّ هَذا الأمرِ وكُلُّ هذهِ القضيَّةِ إِلَى ديانَةِ الرجلِ وجعلَها بينهُ وبينَ ربِّ العالمينَ، فلمْ يَقلْ: كيفَ ما تَستطيعُ؟ كمْ عِنْدَكَ؟ أنتْ تستطيعُ الصيامَ، إِنَّما دينهُ وَهذا هوَ الواجبُ في هذهِ القضيةِ إنَّ هذهِ المسْألةَ تتعلقُ بديانةِ الرَّجلِ بينهُ وبيْنَ ربِّ العالمينَ فلوْ كانَ مُسْتطيعاً وانتقلَ إِلَى مَثلاً الإطعامِ وهُوَ يستطيعُ العتقَ، أو انتقلَ إِلَى الصِّيامِ وهوَ يستطيعُ العتقَ، هَذا ما يُجزئهُ عندَ ربِّ العالمينَ، المسألةُ ديانةٌ بينَ العبدِ وبينَ ربهِ، فلذلكَ أوْكلَها النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إِلَى ديانةِ الرجلِ.
هذا يبينُ لَنا خطورةَ الفطْرِ في نهارِ رمضانَ، وأنهُ مَسألةٌ ليستْ بِيسيرةٍ هيَ هلاكٌ، وأَنا أقولُ: كُلُّ منْ عَصَى اللهُ تعالَى فإنهُ أخذَ بسببٍ منْ أسبابِ الهلاكِ، هَذا في الجملةِ، وإِذا كانتِ الخطيئةُ تتعلقُ بأصولِ الإسلامِ وأركانِهِ كانَ الهلاكُ فِيها أعظمَ وأكبَرَ، لذلكَ جاءَ في الصحيحِ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: «منْ فاتتْهُ صلاةُ العصرِ فقدْ حبِطَ عملُهُ» وهِيَ صلاةٌ واحدةٌ.
وفي حديثِ ابنِ عمرَ في الصحيحِ قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «منْ تركَ صلاةَ العصرِ فكأنَّما وُتِرَ أهلُهُ ومالُهُ» وهَذا يبينُ لَنا كأنَّما فقدَ أهلَهُ ومالَهُ، هَذا يبينُ فداحةَ الخسارةِ والتورُّطِ بِشيءٍ منَ الانْتِهاكِ لأَركانِ الإسلامِ وأصولهِ وقواعدهِ ودعائِمهِ، لذلكَ ينبغِي الاحتياطُ.
وأنا أقولُ يا إخوانِي، ويا أَخواتي، ويا شبابُ، ويا فتياتُ، اللهُ رقيبٌ عليكمْ، ووعدكُمُ الأجْرَ الجزيلَ، والعطاءَ الكبيرَ علَى القِيامِ بهذهِ الفريضَةِ فأتقِنُوا العملَ وأبشرُوا بالجزاءِ والأجرِ فإنهُ قدْ قالَ اللهُ تعالَى في هَذا الحديثِ الإلهيِّ: «الصومُ لِي وأنا أجْزِي بهِ» إنما يلقاهُ الصائمُ منَ العناءِ وما يلقاهُ منَ المشقَّةِ، وما يلقاهُ الصائمُ منَ التعبِ يعلمُ أنَّ ما يُصيبهُ بتركِ الصيامِ مِنَ المشقَّةِ والعناءِ والتعب أعظمُ بِمراحِلَ منْ مشقَّةِ الصَّوْمِ مهْما كانتْ مشقتهُ ما دامت أنها لمْ تَصِلْ بِه إلَى الحدِّ الَّذي يبيحُ لهُ الفِطْرَ.
وَلهذا أقولُ: كلُّ العباداتِ بِلا استثناءٍ الَّتي يشعرُ الإنسانُ فِيها بمشقَّةٍ وتعبٍ لوْ تركَ هذهِ العبادةَ لنزلَ بهِ منَ المشقةِ والتعبِ والعناءِ والإرهاقِ وتعكسُ الحالَ ما هوَ أكثرُ وأشدُّ عليهِ منْ مشقَّةِ فِعْلِ الطاعةِ والقيامِ بما فرضَ اللهُ تعالَى عليهِ.
لذلكَ أقولُ: مِنَ المهمِّ أنْ نعرفَ أنَّ منْ حقِّ ربِّنا عليْنا أنَّ نحسنَ العبادةَ، وأنْ نتعاملَ معهُ جلَّ في علاهُ بقلبٍ صادقٍ راغبٍ في ما عندهُ، ومَنْ صدَقَ معَ اللهِ صدقهُ، ومنْ يستعنْ باللهِ يعنهُ، لاشكَّ أنَّ الصِّيامَ في الأيامِ الحارةِ عناءٌ، ويتضاعفُ العناءُ عندما يكونُ هَذا في شخصٍ أوْ في رجلٍ أوْ امْرأةٍ يَحتْاجُ للخرُوجِ والدخولِ والتعرضِ للشمسِ وحرارتِها قد يجدُ عَناءً ومشقةً، لكنْ احتَسَبَ الأجرَ عندَ اللهِ: «فمنْ صامَ رمَضانَ إِيماناً واحْتِساباً» إِيماناً: إقْراراً بِالفرضيَّةِ، واحْتِساباً أيْ: طَلباً للأجرِ فيما يصيبهُ منْ مَشقةٍ وعناءٍ: «منْ صامَ رَمضانَ إِيماناً واحْتِساباً غُفرَ لهُ ما تقدَّمَ منْ ذنبهِ».