(الحلقة التاسعة)
المرض الذي يبيح الفطر في رمضان
الحمد لله رب العالمين، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون.
أحمده جل في علاه حق حمده لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله لم يترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه، فصلى الله وعليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمرحباً وأهلاً وسهلاً بكم أيها الإخوة والأخوات.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل منا ومنكم الصالحات.
مضت عشرة أيام من أيام هذا الشهر المبارك، مضت تلك الليالي المباركة فأسأل الله تعالى للمجدين الاستمرار والقبول والإعانة فيما بقي من الشهر، وأسأل الله تعالى للمقصرين أن يتداركوا ما كان من تقصير، وأن يبادروا ما بقي من غنائم وفضائل في بقية هذا الشهر الكريم، إنها فرصة أيها الإخوة! أن يدرك العبد هذا الشهر وفرصة أن يستعمل طاقته وجهده في طاعة الله تعالى فإن طاعة الله تعالى أقرب طريق يدرك به الإنسان سعادة الدنيا وفوز الآخرة، وكل الناس على اختلاف مشاربهم وتلون جهاتهم واختلاف لغاتهم كلهم يسعون إلى شرح الصدر،هذا محل اتفاق بين العقلاء، وإن أعظم ما يدرك به الإنسان شرح الصدر حسن الصلة بالله، فالصلة بالله تعالى أعظم الأسباب التي تشرح الصدور، فلذلك أوصيكم بالاستكثار من هذا وتدارك ما بقي من ليالي وأيام.
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي *** ويصبح ذو الأعمال فرحان جاذلاً
الله أكبر! فرحان بما قدم من الصالحات، يسأل الله القبول ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة يوم لقاء ربه» أسأل الله العظيم أن يجعلني وإياكم ممن يدرك هذه الفرحة، ممن يدرك الفرحة عند الفطر، وممن يدرك الفرحة عند لقاء الرب جل في علاه.
أيها الإخوة والأخوات! إن هذا الشرع الحكيم شرع متقن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾[هود:1]، هذا الإحكام من صوره هو إذا تأمل الإنسان وجد ملاحظ كثيرة لهذا الإحكام صور ومظاهر ونماذج لهذا الإحكام كثيرة لا يعدها عاد ولا يحصرها حاصر إنما نذكر نموذج من النماذج التي تبدي بديع هذه الشريعة وعظيم ما فيها من إدخال أنها استوعبت أحوال الناس، فليست الشريعة هذه المباركة الحكيمة ليست للأصحاء ولا للأقوياء ولا للأغنياء ولا للفقراء ولا للعرب ولا للعجم بل ولا للذكر، ولا دون الأنثى بل هي للجميع، فالخطاب فيها لكل الناس: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:21] هذا العموم في الخطاب يعني أنه قد شرع الله من الأحكام ما يناسب أحوال الناس، ولهذا جاءت الشريعة ببيان الأحكام على الأصل في حال اكتمال أهلية الإنسان، اكتمال أوصافه وقوته، ثم راعت ما يكون من عوارض تعرض للناس، ولهذا في آيات الصيام يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:183] * ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾[البقرة:184] قلائل مضى منها عشرة نسأل الله أن يبلغنا ما بقي من الصالحات: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ﴾ هنا الشاهد: ﴿مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ فجعل الله تعالى حال المريض حال المسافر حالاً تستوجب التخفيف لأن الصوم لا يستطيعه ولا يقواه على وجه الكمال إلا من كان صحيحاً في بدنه، كان المحيط والظرف الذي يحيط به معيناً له على الصوم، نحن في هذه الحلقة ستناول ما يتصل بالمرض وما يلحق به وهو العذر الذي يبيح الفطر، وقد جاء النص عليه في آية الصيام في فرضها في أول الأمر، وكذلك عندما جاء الإلزام في الصوم لكل من شهد الشهر فإن الله كرر هذا العذر مرة ثانية، لأنه قال جل وعلا في الآية التي تلوتها قبل قليل: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة:184]هذا في أول التشريع كان الأمر خيار، ثم لما نزل قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾[البقرة:185] قال: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ هذا فرض على الجميع وليس فيه خيار، ثم قال: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ فأعاد الله تعالى الرخصة حتى لا يفهم أو يتوهم متوهم أن الرخصة السابقة قد نسخت بقوله: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾بل هي باقية، وهي في حق المريض والمسافر وما يلحق بهما.
أما ما يتعلق بالمرض، فما هو المرض الذي يبيح الفطر: هل هو كل ما يعرض للإنسان من مرض؟ الاتفاق منعقد بين أهل العلم لا خلاف بينهم أن من الأمور التي تبيح الفطر للصائم المرض، على أنهم اختلفوا في ضابط المرض يعني حد المرض الذي يبيح الفطر، فمن أهل العلم كما هو قول البخاري وجماعة من أهل العلم أخذوا بالعموم فقالوا: كلما يسمى مرضاً فإنه يبيح الفطر ولو لم يكن مؤثراً على الصوم، هذا قول.
والذي عليه عامة أهل العلم وجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم إلى يومنا هذا: أنه ليس في كل مرض، إنما هناك أوصاف وضوابط للمرض الذي يبيح الفطر:
أول هذه الأوصاف التي يتصف بها المرض ليبيح الفطر: هو أن يكون مرضاً يشق معه الصوم. يعني يتأثر الصائم بمرضه فيكون الصوم عليه شاقاً زيادة على المشقة المعتادة التي يجدها الأصحاء.
هناك مشقة خاصة تتعلق بالمرض، هذا مما يبيح بالفطر بالاتفاق لا خلاف بين العلماء أنه إذا كان المرض مما يشق معه الصوم مشقة زائدة على المعتاد فإنه يبيح الفطر، وقد يجب الفطر فيما إذا كان المرض يؤدي إلى هلاك أو مشقة تفضي إلى إتلاف فعند ذلك يكون الفطر واجباً ويكون الصوم محرماً، هذا ما يتصل بالوصف الأول من الأوصاف التي تكون في المرض وتبيح الفطر.
الوصف الثاني: أن يكون المرض مما يزيده الصوم، فإذا كان مرضاً يزيده الصوم إذا صام زاد مرضه وزاد علاؤه فإنه -هذا غير مشقة- هذا يتعلق بالمرض إذا صام زاد مرضه حتى لو لم تكن المشقة مشقة زائدة لكنه يزداد مرضه ويزداد تعبه عند ذلك نقول: هذا مما يبيح الفطر لأنه مما جاءت به الرخصة.
من الأوصاف أيضاً التي تبيح الفطر إذا توفرت في المرض: أن يكون المرض يتأثر بالصوم من حيث إنه إذا صام مع هذا المرض تأخر برؤه تأخر شفاؤه تأخر طيبه ففي هذه الحال يكون الصوم تأثيره على المرض في تأخر الشفاء في تأخر البرء والطيب فعند ذلك نقول له: يجوز في هذه الحال أن تفطر لأنه رخصة من الله تعالى.
إذاً إذا كان المرض يشق معه الصوم إذا كان يزيد بالصوم إذا كان المرض يؤخر إذا كان المرض يتأثر بالصيام تأخراً في البرء والطيب والشفاء فإنه يجوز الفطر في هذه الأحوال لقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾[البقرة:184]، هذه أوصاف المرض، ولا يلزم أن يكون المرض قائماً يعني مثلاً أمراض السكري على سبيل المثال مرض قد يتعب مع الإنسان، وهذا يختلف باختلاف درجات المرض وأنواعه، فإذا قال له الطبيب: إن صمت فإنك ستتأثر هنا هو لا يجد معاناة مباشرة لكن قد يتأثر ويثبت هنا أثر المرض في أنه رخصة في خبر الثقة من الأطباء.
إذاً عندنا المرض ما كان يجده الإنسان معاناة ومشقة، وما يخبره به الثقات من أنه إذا صام فسيتأثر عند ذلك نقول: يحل لك الفطر، ويجوز لك أن تفطر، لكن ينبغي أن يعتمد في هذا على خبر الطبيب الثقة.
إذاً تأثير المرض نوعان:
تأثير في مرض نازل يحس به المريض.
أو مريض متوقع مخوف يؤثر الصوم فيه إما وجوداً، وإما زيادة، أو أن يكون التأثير على مدى بعيد مثل أو قريب من هذا ما يكون مع أصحاب الفشل الكلوي مثلاً، أو الذين معهم مرض سكري في درجات عالية، فعند ذلك هؤلاء قد أرخص الله تعالى لهم في الفطر، وهذا من نعمة الله تعالى ومن يسر هذه الشريعة: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾[المائدة:6].
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾[البقرة:185].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه».
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يعافينا والمسلمين من الأمراض والأسقام، وأن يمن علينا بالقبول، وأن يرزقنا ما يرضى به عنا من صيام وقيام إيماناً واحتساباً.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.