(الحلقةُ الثالثةُ عشرُ)
صلاةُ الليلِ في رَمضانَ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أحمدهُ سُبْحانَهُ حَقَّ حمدهِ، وأُثْنِي عليهِ الخيرَ كُلَّهُ، أشكرهُ ولا أكفرهُ، لا إلهَ إلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرّحيمُُ.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ علَى نبِيِّنا محمدٍ المبعوثِ رحمةً للعالمينَ، وحجةً علَى الخلْقِ أجمعينَ، صلَّى اللهُ عَليهِ وعلَى آلهِ وأصْحابهِ، ومنِ اتَّبعَ سنتَهُ بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
فمرحَباً بكمْ وأهْلاً وسَهلاً أيُّها الإخوةُ والأخواتُ تقبَّلَ اللهُ منكمْ وأعانكمْ علىَ الصيامِ والقيامِ إيماناً واحْتِساباً، إِنَّ اللهَ تَعالَى نوَّعَ لِعبادِه الطرَقَ الموصلَةَ إليهِ، فمِنْ رحمتهِ جَلَّ في علاهُ أَنْ نَوَّعَ وأنَّهُ لم يجعلِ السبيلَ الَّذِي يَتقرَّبُ بهِ الناسُ والعبادةُ الَّتي يَصِلُونَ بِها إِلَى اللهِ جلَّ وَعَلا طَرِيقاً واحِداً، بلْ هُناكَ صلاةٌ زكاةٌ صَوْمٌ حجٌ، سائرُ أنْواعِ القرباتِ، وَهَذا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالَى، وقدْ أذِنَ اللهُ تعالَى لِعبادهِ بعدَ الفرائضِ بِالاستزادَةِ مِنَ الخيراتِ، وإِنَّ هَذا الشَّهْرَ دوحةٌ وروضةٌ فِيها منَ الخيراتِ ما ينبغِي للمؤمنِ أنْ يغتنمَهُ وأنْ يُبادرَ إِلَيْهِ قبْلَ فواتِ الأَوانِ، فَإِنَّها أيَّامٌ قصيرةٌ وليالٍ عديدةٌ قالَ اللهُ تعالَى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾[البقرة:184]، وكلُّ معدودٍ إلَى انْقِضاءٍ، وكُلُّ مَعْدودٍ إلَى نقْصٍ، ولِهذا ينْبغِي أنْ يُبادرَ المؤمْنُ، وأَنْ يشحذَ هِمَّتهُ، وأنْ يبذُلَ جُهْدَهُ في الاسْتكثارِ منَ الخيراتِ، مِنْ أبوابِ البِرِّ وصلَةِ الخيرِ الَّتي ازدانَ بِها هَذا الشهرُ، وهيَ مشروعةٌ في كلِّ الأيامِ، لكنْ في هذا الشهرِ لَها خُصُوصِيَّةٌ خاصَّةً القيامُ، تلكُ العبادةُ الجليلةُ الَّتي قالَ فِيها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كَما في الصحيحينِ مِنْ حديثِ أبِي هريرةَ: «مَنْ قامَ رمضانَ إِيماناً واحْتِساباً غُفرَ لهُ ما تقدَّمَ منْ ذنبهِ» يا لها مِنْ مِنَّةٍ، وَيا لهُ منْ عطاءٍ أن يغفرَ اللهُ لكَ ما تقدَّمَ منْ ذنبكَ، إِنَّ الطرِيقَ الَّذِي تدركُ بهِ هَذا هُوَ أنْ تحرصَ علَى قيامِ هذهِ اللَّيالِي المباركةِ، أنْ تحرصَ علَى مُلازمةِ المساجدِ ومواضعِ الصَّلاةِ في بيوتِ اللهِ وفي غيرِها، في كلِّ ما تيسَّرَ لكَ وحيثُ ما تيسَّرَ لكَ، فاحْرِصْ علَى أنْ تُحقِّقَ هَذا الخيرَ لِتُدْركَ هَذا الفضْلَ، فإنهُ منْ قامَ رَمضانَ إِيماناً أيْ: تَصْديقاً وإقراراً بمشروعيةِ هَذا واحْتِساباً للأجرِ أيْ: طَلباً للِثوابِ والعطاءِ والنوالِ منْ رَبِّ كريمٍ جلَّ في علاهُ، فإنَّهُ يغفرُ اللهُ تعالَى عنْ عبدِهِ الذُّنُوبَ، هَذا جزءٌ مِمَّا يدركهُ المصلِّي في هذا الشَّهْرِ، وَلكنْ كُلُّ فضائلِ الصلاةِ ثابتةٌ للمقيمينَ المصلينَ، ولكنْ ينبغِي أنْ يعلمَ أنَّ هَذا فضلٌ خاصٌّ، وهَذا الفضْلُ الخاصُّ لا ينبغِي أنْ يغيبَ عنَّا بقيَّةُ الفضائلِ والأُجُورِ والخيراتِ والثوابِ الَّذِي وعدهُ اللهُ تعالَى المصلينَ، الصلاةُ هيَ أجلُّ القُرباتِ، هِيَ أعظَمُ العباداتِ، هِيَ أكبرُ ما يُتَقَرَّبُ بهِ إلَى اللهِ تَعالَى منَ الأعمالِ، ولهذا كانتَ بعد الشَّهادتيْنِ وهِيَ أوَّلُ شرائعِ الإسْلامِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ أمرهُ اللهُ بالقيامِ منْ أوائلِ بعثتهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾[المزمل:1] * ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾[المزمل:2] * ﴿نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا﴾[المزمل:3] * ﴿أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾[المزمل:4].
هَذا القيامُ وتلكَ التلاوةُ مَقصُودُها وغرضُها هُوَ أنْ يتواطَئَ الإنسانُ معَ القلبِ: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾[المزمل:6] يكونُ القولُ فيها قائِماً مُواطِئاً للقلبِ فيتفقُ القلبُ واللِّسانُ علَى ذكرِ الملكِ الديانِ جلَّ في علاهُ، ولهذا أقولُ يا إخواني، ويا أَخواتي، فرصةٌ أنْ نُربِّي أنفُسِنا عَلَى القِيامِ ,النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كانَ يقومُ في رمضانَ وفي غيرِ رَمَضانَ، كانَ يقومُ حتىَّ تتورمَ قدماهُ بِأبي هُوَ وأمِّي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم معَ كونهِ قدْ حطَّ اللهُ تعالَى عنهُ الأوزارَ، وغفرَ لهُ ما تقدَّمَ مِنْ ذنبهِ وَما تأخَّرَ، لكنهُ كانَ يتلذَّذُ بِقيامِ الليلِ، يجدُ في قيامِ الليلِ سُكوناً لا يجدهُ في غيرهِ، ولذلكَ قالَ الحسنُ رحمهُ اللهُ في قولِ اللهِ تعالَى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾[السَّجدةُ:16] قالَ: لأَمْرٌ ما أسْهرَ القومَ ليلَهُمْ، إنهُّ أمرٌ ما يجدُونهُ منْ لذَّةِ مُناجاةِ ربِّ العالمينَ، هَذا هوَ الَّذي جعلهُمْ تَتجافَى جُنوبُهمْ عنِ المضاجعِ ما تركنُ ولا تستريحُ وَلا تقرُّ لأنَّهمْ إِذا قامُوا ناجُوا ربَّ الأرضِ والسماءِ، فالعبدُ في صلاتهِ بينَ يديهِ اللهِ الَّذي لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ ولهُ الفضلُ جلَّ في علاهُ، وَهذا يدُلُّ عَلَى شريفِ هذا المقامِ، ورفيعِ هذهِ المنزلةِ، وَلا غرابةَ بعْدَ ذلكَ أنْ تسمعَ قولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كَما في صحيحِ الإمامِ مسلمٍ منْ حديثِ أبِي مالكٍ الأشْعريِّ: «الصَّلاةُ نورٌ» فإنهُ مَنْ وقَفَ بيْنَ يَدَيِ اللهِ فاضتْ عليهِ أنْوارُ ربِّ العالمينَ، فاضتْ عليهِ الخيراتُ وَجاءتُهُ المبراتُ، ولهذا نقول: من المهم يا إخواني، ويا أخواتي، أنْ نستكثرَ منَ الصلاةِ كَما جاءَ في الحديثِ: «الصلاةُ خيرُ موضُوعٍ فاستكثِرُوا منَ الصَّلاةِ» هذا يدلُّ علَى أنهُ ينبغِي للإنسانِ أنْ يبذُلَ جهدًا في الاستكثارِ ما استطاعَ منْ هذهِ العبادةِ، وهذهِ فرصَةٌ أنْ يُقيمَ العبدُ الصَّلاةَ علَى الوجهِ الَّذِي يرضِى اللهَ تعالَى تلاوةً ورُكوعاً وسُجُوداً في آناةٍ وخُشُوعٍ، وفي ذلٍّ وخضوعٍ، في تدبرٍ وتأملٍ لما يقرأهُ، في لجأٍ وتضرعٍ وسؤالٍ وطلبٍ لربٍّ يعطِي علَى القليلِ الكثيرَ.
أَيُّها الإخوةُ والأخواتُ! القيامُ الَّذي قامهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم جاءَ وصفُهُ في سُنَّتهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تقولُ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنْها كَما في الصَّحيحينِ: ما زادَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في رَمضانَ ولا في غيرهِ علَى إِحْدى عشرةَ ركعةٍ. هذَا هدْيُهُ منْ حيثُ العددُ.
ولكنَّ الإجماعَ منعقدٌ علَى أنه يجوزُ أنْ يصلِّيَ الإنسانُ أكثرَ مِنْ هَذا، ولكنَّ الَّذي أريدُ أنْ يُصلِّيَ هَذا العددَ فليحرصْ عَلَى أنْ يكونَ عَلَى نحوِ ما كانَ يفعلهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فإنَّ عائشةَ قالتْ في وصْفِ صلاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كانَ يصلِّي أربَعاً فَلا تسألْ عنْ حسنهنَّ وطولِهِنَّ، ثُمَّ يُصِلي أرْبعاً فلا تَسألْ عنْ حُسْنهنَّ وَطولهِنَّ، ثمَّ يصلِّي ثَلاثاً، هكَذا كانَ هديهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فليحرصِ المؤمنُ سواءً في مسجدهِ إنْ كان إِماماً، أو في بيتهِ إِنْ كانَ منْفَرداً، أوْ في المسجِد الَّذِي يحققُ هذهِ السُّنَّة إنْ كانَ لهُ خياراتٌ في أنْ يذْهَبَ لِهذا المسجدِ وهَذا المسجدُ يحرصُ علَى منْ كانَ مُطبِّقاً لهديهِ حرِيصاً علَى إِقامةِ سُنةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لتعظمُ الأجُورُ، كيفَ يحقِّقُ المؤمنُ قيامَ اللَّيْلِ؟ كيفَ يتَحققُ لهُ الفضْلُ مَنْ قامَ رمضانَ إِيماناً واحْتِساباً غفرَ لهُ ما تقدَّمَ مِنْ ذنبهِ، مِنْ لازمَ الإمامَ وبقيَ معهُ في صلاةٍ حتىَّ ينصرفَ، هَذا إنْ صَلَّى معَ الإمامِ فإنهُ يُكتبُ لهُ قيامُ ليلةٍ طالتْ صلاتُهُ أوْ قصرتْ، ويدلُّ لِذلكَ ما في المسندِ وغيرهِ مِنْ حديثِ أبِي ذرٍّ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ صَلَّى بأصحابهِ ليلةً إلَى شطْرِ الليلِ، فقالُوا لهُ: لَو نفلتنا بقيَّةَ لَيْلَتِنا، يعْنِي لو صليَّتَ بِنا بقيَّةَ الليلةِ يا رسولَ اللهِ؟ فقالَ: «منْ قامَ معَ الإمامِ حتَّى ينصرفَ كُتبَ لهُ قيامُ ليلةٍ».
وَهذا فضلٌ مِنَ اللهِ كبيرٌ وعطاءٌ جزيلٌ، يعنِي مهْما كانَ هذهِ الصَّلاةُ في الطُّولِ طبعاً ينبغِي أنْ يحرصَ علَى الإتقانِ وعلَى السُّنةِ، لكنْ لوْ صلَّى خلفَ إمامٍ كانتْ صلاتهُ ليستْ بِالطويلةِ، فإنهُ إِذا انصرفَ الإمامُ كُتبَ لهُ قيامُ ليلةٍ، معلومٌ أنَّ هَذا لا يمكنُ أنْ يكونَ كذاكَ الَّذي صلَّى بإتقانٍ وخشوعٍ وطُولٍ واتباعٍ لهدْيِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في صلاتهِ، لكن في الجملة كلهم قد قام ليلة يعني أدرك فضيلةَ قيامِ الليلةِ، لكنْ مَعْلُوم أنَّ المصلِّي الواحدَ هُوَ والَّذي بِجانبهِ بيْنَهُما كَما بينَ السَّماءِ والأرضِ في الفضلِ وفي الرُّجْحانِ يعنِي التفاوتُ في الأُجُورِ هَذا أمرُهُ إلى ربِّ الأَرْضِ والسماءِ، فكلاهُما قاما ليلةً، لكنْ بينهُما منَ الأجُورِ والثَّوابِ والعطاءِ وفضائلِ هذهِ العبادةِ كَما بينَ السَّماءِ والأرْضِ.
لهذا أقولُ: ينبغِي أنْ نحرصَ عَلَى صلاةِ التَّراويحِ فإنَّ صَلاةَ التَّراويحِ وهِيَ الصَّلاةُ التي تُقامُ في المساجِد مِمَّا يُعِينُنا علَى تحقيقِ هذهِ الفضيلةِ، ثمَّ إِذا رغبَ الإنسانُ في زيادةِ خيرٍ وصلاةٍ بعدَ ذلكَ فَما الذي يمنعهُ؟ فقدْ صلَّى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعْدَ وتْرهِ كَما ثبتَ عنهُ في الصحيحِ وَالعلماءُ يذكرونَ أنهُ إذا رغبَ الإنسانُ في أنْ يصلِّيَ بعدَ ذلكَ فلهُ أنْ يصلِّيَ ما شاءَ، فليسَ هُناكَ حاجزٌ ولا مانعٌ، لكنَّ الأصلَ أنْ تكونَ آخرُ الصلاةِ وتراً، هذا إنْ تيسَّرَ، وأمَّا ما يتعلَّقُ بِالصلاةِ معَ الأئمةِ، فإنهُ إذا أوتَرَ إِمامُهُ أوترَ معهُ واكْتفَى بِهذا الوترِ، وَلا يحتاجُ أنْ يُكرِّرَ وِتْراً بعدَ ذلكَ، فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: «لا وِتْرانِ في ليلةٍ» هَذا ما يتَّصِلُ بهذهِ العبادةِ الجليلةِ، وهُناكَ أحكامٌ وتفاصيلُ تتصلُ بهذهِ العبادَةِ حريٌّ بأنْ نَقِفَ عندهُ وأنْ نَتَعلمَها، وأن نتأمَّلَها، لكنَّ المهمَّ أَلَّا نَشْتَغلَ بالصُّورةِ عنِ الجوهرِ، وألَّا نشتغلَ بالمنظرِ عنِ المخبَرِ، فاللهُ لا ينظرُ إِلَى صُوركمْ ولا إِلَى أجسامكمْ، ولكنْ ينظرُ إِلَى قلوبكمْ وأعمالكمْ.
أسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرشِ الكريمِ أنْ يجعلنِي وإياكُمْ مِنْ عبادِه المتقينَ.
اللهمَّ أصلحْ قُلُوبَنا، واغفرْ ذُنُوبنا، ويسِّرْ أمُورنا، واجعلْنا منْ حزبِكَ وأوليائكَ يا ذا الجلالِ والإكْرامِ.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ علَى نبيِّنا محمدٍ وعلَى آلِهِ وأصْحابِهِ أجْمَعِينَ.