(الحلقةُ الرابعةُ عشرُ)
عبادةُ الدعاءِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أحمدهُ جلَّ في علاهُ، وأُثْني عليهِ الخيرَ كُلَّهُ، أشكرهُ وَلا أكفرهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ إلهُ الأوَّلينَ والآخرينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ، بعثهُ اللهُ بالهدَى ودينِ الحقِّ، بعثهُ ليزَكِّيَ القلوبَ ويصلحَ الأعمالَ، فبلَّغَ الرِّسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصحَ الأُمةَ حتىَّ أتاهُ اليقينُ وهُوَ علَى ذلكَ، فصلَّى اللهُ وعليهِ وعلَى آلهِ وصحْبهِ، ومنَ اتبعَ سنتهُ بإحسانٍ إلَى يومِ الدينِ.
أمَّا بعدُ:
فأَهلاً وسهْلاً ومرْحباً بكمْ أيُّها الإخوةُ والأخواتُ وأسألُ اللهَ العظيمَ ألا يخيِّبَ سعيكمْ، وأنْ يُثْبِتَ أجورَكمْ، وأَنْ يتقَبَّلَنا وإيَّاكُمْ في عبادهِ الصَّالحينَ، اللهُ سبُحانهُ وبحمدِهِ جعلَ الدُّعاءَ مِفتاحاً لكلِّ خيرٍ، فمنْ وفِّقَ إِلَى الدُّعاءِ فُتحتْ لهُ الخيراتُ، إننِي لا أحملُ هَمَّ الإجابةِ، ولكنَّنِي أحملُ همَّ الدُّعاءِ كَما قالَ عُمرُ: ومنْ فتُحَ لهُ بابُ الدُّعاءِ فقدْ فُتِحَ لهُ أبوابُ الخيرِ، ولذلكَ ينْبغي لِلمؤْمِنَ في رَمضانَ وفي غيرِ رمضانَ، لكنْ في أيَّامِ البرِّ والعطاءِ والخيرِ ينبغِي أنْ يُضاعفَ الجهدُ، وأنْ يُشدَّ العزمُ في الاستكثارِ منَ السُّؤالِ والطَّلبِ، وَفِي السُّؤالِ منَ كُلِّ خيرٍ يرجوهُ، فإنَّ اللهَ تعالَى يُيسرَّ لِلعبدِ كُلَّ خيرٍ: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾[إبراهيم:34].
وقال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ﴾[النحل:53].
وبالتالي كل نعمة ترجوها فأسأله ممن بيده الفضل كما قال الله تعالى: ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾[النساء:32]، أمرَ اللهُ أنْ نسألهُ مِنْ فضلهِ، فينبغِي للمؤمنِ أنْ يسألَ اللهَ منْ فضلهِ، وإنَّ سؤالَ اللهِ وطلبهَ ودعاءهُ والتضرعَّ بينَ يديهِ أمرٌ عظيمٌ جليلٌ كبيرُ المنْزِلةِ، فاللهُ تعَالَى يكرمُ الدَّاعِي ولذلكَ لم يذكرْ قُرْبَ اللهِ لعبدِهِ إِلَّا في حالِ دُعائهِ، فقدْ قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾[البقرة:186].
هذه الحال حال الدعاء حال عظيمة شريفة عند الرب، ولذلك يجيب الله تعالى أعداءه ولهذا لعظيم كرمه، فالمشركون إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[يونس:22] فلما نجاهم، والله تعالى يقول: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾[النمل:62] فهو الذي يجيب المضطر جل في علاه مسلماً كان أو كافر، الدعاء له شأن عظيم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح في حديث أبي هريرة: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» لماذا؟ لأن السجود موطن الدعاء، ولهذا جاء في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم» أكثروا فيه من السؤال والطلب، والإلحاح على الله تعالى بألوان الخيرات خير الدنيا وخير الآخرة وخير الآخرة هو الأبقى والأنفع والذي تصلح به حال العبد، لذلك ينبغي أن يجتهد الإنسان في دعائه وسؤاله لربه، وليعلم أنه في حال دعائه هو قريب من الله جل في علاه، وإذا كنت قريب من الله تعالى فألح عليه في الدعاء.
ومن لطيف ما ذكر ابن الجوزي رحمه الله أنه قال: إذا كان الإنسان في مقام التضرع والمناجاة، وسؤال الله تعالى فليكن كالطفل. قيل له: كيف؟ قال: الطفل إذا منع ما يشتهي بكى حتى يعطى ما يريد، وأنت هكذا كن بين يدي الله جل في علاه، ألح عليه في الدعاء فإن الله يحب الملحين في الدعاء، فالله جل وعلا لا يحبس الجواب عجزاً سبحانه وبحمده فهو القوي العزيز، ولا يعجز ولا يحجزه ويؤخره بخلاً فهو الغني الحميد جل في علاه، لكن قد تقتضي الحكمة أن يؤخر الله تعالى عن العبد الجواب ليظهر عبوديته، ولهذا بعض السلف كان يقول: إذا مرت بي محنة وسألت الله تعالى ثم أجابني الله وددت أن الله لم يجب دعائي أو أخر جوابي لما فقدته من لذة المناجاة، هؤلاء قوم كان دعاؤهم على صورة من الاطراح بين يدي الله والتضرع ما يجعلهم يتلذذون بدعاء الله تعالى وسؤاله وطلبه والشكاية إليه، وإنزال الحاجات به فهو الصمد الذي ينزل الخلق كلهم في السماء والأرض حوائجهم بين يديه لا مانع لما أعطى ولما معطي لما منع.
الدعاء ينبغي على المؤمن أن يلاحظ أنه لن يتقبل إذا كان بإثم أو قطيعة رحم، فإن الله لا يستجيب الدعاء بإثم أو قطيعة رحم كما جاء في الحديث: «يستجاب للمسلم ما لم يدعو بإثم أو قطيعة رحم» في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وابن عمر وغيرهما.
كذلك يستجاب للعبد إذا تأدب بآداب الدعاء، ومن أعظم آداب الدعاء أن يتجنب الإنسان الاعتداء في الدعاء، الله تعالى يقول لعباده: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[الأعراف:55].
وفي قراءة: ﴿وخِيفة﴾.
اللهُ تعالَى ذكرَ صفةَ للدُّعاءِ، وذكرَ أَيْضاً في الآيةِ الحكيمةِ أنهُ لا يحبُّ المعتدينَ، ودلَّ هَذا علَى أنَّ في الدُّعاءِ اعْتداءً ينبغِي للمؤمنِ أنْ يتجنبهُ، وَلا فرْقَ في هَذا بيْنَ أنْ يدْعُوَ الإنسانُ فِيما بينهُ وَبينَ نفسهِ، أوْ أنْ يَدْعُوَ بجماعتهِ إِذا كانَ إِماماً يقْنُتْ، ينبغي أنْ يتحرَّى أنْ لا يكونَ في دعائهِ اعتْداءً، والاعتداءُ قدْ يكونُ بالمطلوبِ، فيسألُ ما لا يجوزُ لهُ أنْ يسألهُ، كأنْ يقولَ: اللهمَّ اجعلنْي نبِّياً مَثلاً، أوْ اللهُمَّ افعلْ كَذا وكَذا منَ المسْتحيلاتِ الكونيةِ، واللهُ علَى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وَلا يُعجِزهُ شيءٌ جَلَّ في عُلاهُ، لَكنْ جرَتْ العادةُ بأنَّهُ لا يكونُ هَذا، ولذلِكَ ينبغِي أَلا يعْتَدِيَ الإنسانُ في المطلُوبِ، ومنَ الاعْتداءِ في المطلوبِ أَنْ يدْعُو عَلَى غيرِ ظالمهِ بِدُعاءٍ فيهِ إِثْمٌ أَوْ قطيعةٌ رحمٍ كَما تقدَّمَ.
قدْ يكونُ الاعتداءُ في صيغةِ الدُّعاءِ ألفاظٌ الدُّعاءِ كأَنَّ يكُونَ الإنسانُ كثيرَ السجْعِ مُهْتماً بِاللَّفظِ غافِلاً عنِ المعْنَى، وَهَذا كثيرٌ في دُعاءِ النَّاسِ اليومَ.
أَيْضاً مِنْ صورِ الاعتداءِ في الدُّعاءِ: أَنْ يَسْألَ اللهَ تعالَى علَى حالٍ لا تقْتَضِي الإجابةَ، إِمَّا أنْ يَسْألَ وهُو غافلُ القلبِ وهُوَ لاهٍ عنْ ربِّهِ، أوْ أنهُ متلبِّسٌ بِما يمنعُ منْ إِجابةِ الدُّعاءِ، فإنَّهُ لا يُجابُ في هذهِ الحالِ، وَلِهذا الاعتداءِ يكونُ في الطَّلبِ، وَيكونُ في صِفَةِ القوْلِ، ويكونُ في أَشْياءَ كثيرةٍ، فينبغِي للمؤمنِ أنْ يتجنَّبَ ذلكَ ما استطاعَ، فليدْعُ بالأدعيةِ النبويَّةِ، وليحرصْ علَى أَلَّا يعتدَي في دُعائهِ بِرَفْعِ صَوْتٍ وإزْعاجٍ، فقدْ قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمِ: «أربْعُوا علَى أنفسكمْ، فإنكمْ لا تدعونَ أصمَّ ولا غائِباً، إنما تدعونَ سميعاً قريباً».
هذهِ الآدابُ ينبغي أنْ يُلاحظَها المؤمنُ في دعائهِ حتَّى تتحققَ لهُ الإجابةُ، وليجتنبِ الحرامَ فإنَّ ذاكَ الَّذي ذكرهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «مَطعمُهُ حرامٌ ومشربُهُ حرامٌ وملبسهُ حرامٌ وغُذيَ بِالحرامِ، يُطيلُ السفرَ أشْعثَ أغبرَ يا ربُّ يا ربُّ أنَّى يُستجابُ لذلكَ؟» لأنَّهُ قدْ تلبسَ بِما يمنعُ الإجابةَ.
أعظمُ ما ينبغِي أنْ يستصحبهُ الدَّاعِي أنْ يُحْسنَ الظنَّ بربِّهِ فقدْ قالَ اللهُ تعالَى في الحديثِ الإلهيِّ: «أنا عندَ ظنِّ عبدي بِي» فأحْسِنِ الظنَّ باللهِ، واعلمْ أنَّ اللهَ تعالَى كريمٌ، فَلا يمنعْكَ لبخْلٍ، وإِنَّ اللهَ قَويٌ فلا يمنعْكَ لعجزٍ أوْ عدمِ قدْرةٍ، بلْ هوَ الغنيُّ الحميدُ جلَّ في علاهُ.
لاحِظُوا هذهِ الآدابَ وتلذَّذُوا وتنعَّمُوا بِسُؤالِ اللهِ تَعالَى لكُمْ في رَسولِ اللهِ أسوةٌ حسنةٌ.
أسألُ اللهَ تعالَى أنْ يرزُقنا وإياكمْ ذِكرهُ وشكرَهُ وحسنَ عِبادتهِ، وأنْ يجعلَنا منْ حزبهِ وأوليائهِ.
وصَلَّى اللهُ وسلَّم علَى نبيِّنا محمدٍ.