(الحلقةُ الخامسةُ عشرُ)
الإِبَرُ العِلاجِيَّةُ في رَمَضانَ
الحمْدُ للهِ الَّذِي خلَقَ السَّماواتِ والأَرْضِ، وَجَعَلَ الظُّلماتِ وَالنُّورِ، أَحْمَدهُ جلَّ في عُلاهُ، لا أُحْصِي ثَناءً عليهِ كَما أَثْنَى عَلَى نفْسِهِ.
وَأشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ إِلَهُ الأوَّلينَ وَالآخرينَ ربُّ العالمينَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ لا إلهَ إِلَّا هُوَ العزيزُ الحكيمُ، وَأَشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، وخيرتهُ مِنْ خلقهِ، بعثهُ اللهُ بِالهدىَ ودينِ الحقِّ بَشيراً ونذِيراً فبلَّغَ الرِّسالةَ وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ الأُمَّةَ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ الجهادِ، حتَّى أتاهُ اليقينُ وهُوَ علَى ذلكَ، فَحقُّهُ أنْ نُصَلِّي علَيْهِ فصَلَّى اللهُ وعليْهِ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ بإحسانٍ إِلَى يوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بعْدُ:
فمرْحباً وأهْلاً بكمْ أَيُّها الإخوةُ وَالأخواتُ وأسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرْشِ الكريمِ أَلَّا يخيبَ لكُمْ سعْيٌ، وأَنْ يَرْزُقنِي وإيَّاكُمْ القبُولَ، وأنْ يرفَعَ لِي ولكُمْ الدَّرجاتِ، وَأَنْ يُعْلِيني وَلكمُ المنازِلَ، وأنْ يوفِّقَنا وإيَّاكمْ لِلصَّالحاتِ، وأنْ يسْتَعملِنا في الباقياتِ النَّافِعاتِ مِنْ سائرِ العملِ وَالقَوْلِ، وَإِنَّهُ لفَضْلٌ عظيمٌ أَنْ يَسْتَعملَ اللهُ تعالَى العَبْدَ فِيما يحبُّهُ وَيرضاهُ.
اللهمَّ استعملْنا في طاعتكَ، واسلُكْ بِنا سَبيلَ الهدَى والرَّشادِ يا ذا الجلالِ والإكرامِ.
أَيُّها الإِخْوةُ وَالأَخواتُ الملاحظُ لحالٍ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَالسامِعُ لِكَثِيرٍ مِنَ كلامِهِمْ يَجِدُ أَنَّ هُناكَ قَضايا فِقْهِيةً تتردَّدُ عَلَى ألسنتهِمْ، يَسأَلُونَ عنْها وَتَتكرَّرُ مُناقشاتهمْ فِيها، وَمِنَ المناسبِ أَنْ نُلْقِيَ الضَّوْءَ علَى بعضِ ما يَتَّصِلُ بِالصِّيامِ مِنْ تلكِ القَضايا كنوْعٍ منَ التَّبْصيرِ والإرشادِ، أَمَّا الحسنُ بِمعْنَى أنَّهُ قَوْلٌ فَصْلٌ، فَهذا لا يملكُهُ أَحدٌ، لأَنَّ مَسائِلَ الاجْتِهادِ مَسائلُ بَذْلِ وُسْعٍ لإِدْراكِ الصَّوابِ، والمجتهدُ في هَذا إِلَى أجرٍ وأجريْنِ، وَاللهُ تَعالَى أعلمُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ علِيمٌ.
مِنَ القَضايا الفِقْهِيَّةِ الَّتِي يسألُ عنْها كثيرٌ مِنَ النَّاسِ مِمَّا يَتَّصِلُ بِالصِّيامِ: ما يَتَّصِلُ بِالإبِرِ العِلاجِيِّةِ، هَلْ تُفَطَّرُ الصَّائِمَ أَوْ لا؟ الإِبرِ عُمُوماً يُمْكِنُ أَنْ نَقْسِمَها إِلَى قِسْمَيْنِ:
إِبراً عِلاجِيَّةً.
وَإِبَراً غِذائِيَّةً.
وَكِلاهُما يَحْصُلُ بِهِ في الحقيقةِ عَلاجٌ، لكنْ لِلتَّصْنِيفِ نَقْسِمُها إِلَى قِسْمَيْنِ: وَالمقْصُودُ بِالإبرِ العِلاجِيَّةِ هِيَ الإِبَرُ الَّتِي يَدْخُلُ فِيها إِلَى جِسْمِ المريضِ شيءٌ مِنَ العِلاجاتِ الَّتِي إِمَّا لِتَخْفِيفِ مَرَضٍ، وَإِمَّا لمعالجةِ مَرَضٍ، هَذا النَّوْعِ مِنَ الإِبَرِ قَوْلُ عامَّةِ عُلَماءِ العَصْرِ أنَّهُ لا يُفْطِرُ، وَالسَّبَبُ في هَذا: أَنَّ هَذا لَيْسَ أَكْلاً وَلا شُرْباً، وَلا يَقُومُ مَقامَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلا هُوَ في معْنَى الأَكْلِ والشُّرْبِ، وَبِالتَّالِي فإِنَّهُ لا دليلَ علىَ الفِطْرِ بهِ، فلوْ أَنَّ الإنسانَ احْتاجَ إِلَى إِبْرَةٍ في عَضَلٍ، أَوْ إِبْرَةٍ في وَريدٍ، أوْ إِبْرَةٍ في أَعْلَى بَدَنِهِ أَوْ أَسْفَلِ بَدَنِهِ لمعالجةٍ فإنَّهُ لا حرجَ عليْهِ في ذلِكَ، وَلا يَجْرَحُ صَوْمَهُ عَلَى الصَّحِيحِ.
طَبْعاً في الغالبِ لا يفعلُ هَذا تَشَهِّياً إِنَّما يَفْعَلُهُ الإنْسانُ لحاجةٍ مِثْلِ الَّذِينَ مَثلاً عندهمْ سُكَّرِي ويحتاجُونَ إِلَى إِبرٍ أَنَسُلِين، هذهِ الإبرُ ليْسَتْ مُفَطِّرةً لأَنَّها إِبَرٌ علاجِيَّةٌ الذَّينَ معَهُمْ حَرارةٌ وَيأْخُذُونَ إِبرَ، الَّذِينَ معهمْ نوعٌ منَ الأَمْراضِ الَّتي تَحْتاجُ إِلَى حُقَنٍ في الوَريدِ، كُلُّ هَذا علَى الرَّاجِحِ مِنْ قَوْلَيِ العُلَماءِ أنَّهُ لا يُفَطِّرُ وَهُوَ قَوْلُ عامَّةِ غالبِ أَكْثَرِ فُقهاءِ الأُمَّةِ. هَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَهُو ما يتَّصِلُ بِحِكْمِ الإبرِ العلاجِيَّةِ.
هُناكَ نَوْعٌ آخرُ مِنَ الِإبَرِ وهوَ الإبَرُ الغذائيَّةُ: وهِيَ الَّتي يُعْطاها مَنْ يحْتاجُ إِلَى تَعْويضِ ما فقدهُ مِنْ سَوائِلَ، أَوْ ما فقدهُ مِنْ طَعامٍ، أوْ ما فقدهُ مِنْ أَمْلاحٍ في بَدَنِهِ فَيُحْقَنُ عنْ طِريقِ المغذِّي، هَذا النَّوعُ مِنَ الإِبَرِ غالبُ وعامَّةُ فُقهاءِ الأُمَّةِ علَى أنَّهُ مُفَطِّرٌ.
وذهبتْ طائفةٌ مِنْ أَهْلِ العلمْ إِلَى أنَّهُ لَيْسَ بِمُفَطِّرٍ.
الَّذينَ قالُوا: إنَّهُ مفطِّرٌ قالُوا: إنَّ هذا ليْسَ أَكْلاً وَلا شُرْباً صحيحٌ، وَلا أحدَ يقولُ: عنْ هَذا أكْلٌ وشربٌ، لَكنْ هَذا يؤدِّي إِلَى ما يؤدِّي إِلَيْهِ الأَكْلُ وَالشُّرْبُ مِنْ حِفْظِ قوَّةِ البدَنِ، وَلِذَلِكَ قالُوا: هُوَ في معْنَى الأَكْلِ والشُّرْبِ، وبالتَّالِي يَأْخُذُ حُكْمَ الأَكْلِ والشُّربِ في أَنَّ الصَّائِمَ إِذا حُقِنَ بِإِبْرٍ غذائيةٍ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ، وَعَلَى هَذا عامَّةُ الفُقهاء، فلاينبغِي للمؤمنِ أنْ يبتعِدَ عَنْ هَذا، وإِذا احْتاجَ إِليْهِ فَهوَ مريضٌ يَدْخُلُ في قولِ اللهِ تعالَى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾[البقرة:184] يُفْطِرُ بِهذا، وَبِالأَكْلِ والشُّرْبِ، وَيُعَوِّضُ عَنْهُ يَوْماً آخَرَ إِنْ شاءَ اللهُ تَعالَى، هَذا ما يَتَّصِلُ بِالإبَرِ.
هُناكَ أَنْواعٌ مِنَ العلاجاتِ لا تَكُونُ بهذهِ الطَّريقةِ بِالحُقَنِ عنِ طريقِ الوريدِ أوِ العضَلِ، إِنَّما حُبُوبٌ تُوضَعُ تحتَ اللِّسانِ للذينَ يُعانونَ مِنْ ضِيقِ التنفُّسِ أَوْ ذَبْحاتِ صدْريةٍ، هَلْ هَذا يُفْطِرُ؟ الجوابُ: عامَّةُ فُقَهاءِ الأُمَّةِ لا يَروْنَ الفطْرَ بِهذا، لأَنَّ ما يُوضعُ تحْتَ اللِّسانِ يمتَصُّهُ البدنُ قبلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الجَوْفِ، وَهَذا لا يحصُلُ بِهِ الفِطْرُ، لأنَّهُ لَيْسَ أَكْلاً وَلا شُرْباً ولا في معنَى الأكلِ والشُّربِ.
هناكَ ما يُحْقَنُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرَجِ الدُّبُرِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ القُبُلِ في حالِ الذَّكَرِ أَوِ الأُنْثَى مِنَ التَّحامِيمِ ونحوِها، هلْ هَذِهِ تفطِّرْ؟
منَ العلماءِ مَنْ يَرى أنَّها مُفَطِّرَةٌ.
وهناكَ قولٌ بِأَنَّها لا تُفَطِّرْ.
والصَّوابُ مِنْ هَذيْنِ القولَيْنِ: أنَّهُ لا يُفْطِرُ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ. طَيَّبْ قدْ يقولُ قائِلٌ: ما الدَّلِيلُ عَلَى قَوْلِكُمْ أَنَّهُ لا يُفَطِّرْ؟ نَقولُ: لأَنَّ هَذا ليْسَ أَكْلاً وَلا شُرْباً، وَلا في مَعْنَى الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَبِالتَّالِي فإنَّهُ لا يُفْطِرْ وَلا يَأْخُذُ حُكْمَ الأَكْلِ والشُّرْبِ في إِفْسادِ الصَّوْمِ.
هذهِ جُمْلَةٌ مِنَ المسائِلِ الَّتِي يكثُرُ السُّؤالُ عَنْها.
أَيْضاً منَ المسائلِ المتصلةِ بالقضايا الطبِّيةِ، ويكثُرُ السؤالُ عنْها: خروجُ الدَّمِ بالتحليلِ، أوْ خروجُ الدمِ للتبرعِ علَى سبيلِ المثالِ، هلْ هذا يؤثِّرُ في صحَّةِ الصيامِ؟
منَ العلماءِ منْ يَرى أنَّ هَذا حكمهُ حكمُ الحجامةِ أَيْ: يجعلُ حكمَ هذهِ الإبَرَ الَّتي يسحبُ الدَّمَ فِيها لعلاجٍ أو لِتحليلٍ أوِ لِتبرعٍ هِيَ في حكمِ الحجامةِ، وبِالتالي يقولُونَ: أفطرَ الحاجمُ والمحجومُ، فهذهِ الإبرُ المفطرةُ.
وهنا قولٌ آخرُ وهوَ قولُ غالبِ عُلماءِ الأمةِ وأكثرِ فُقهاءِ العصرِ: أنَّ أخذَ الدمِ تبرعاً أوْ أخذَ الدَّمِ لِلتحليلِ ليسَ بِمفطرٍ، ولكنْ لا يفعلهُ الصائمُ إلَّا عندَ الحاجةِ إليهِ، وأمَّا في حالِ الاستغناءِ فإنهُ ينبغِي أنْ يتجنبَ هذا وَأَلا يأخذَ شيْئاً منْ دمهِ، لأَنَّ ذلكَ قدْ يؤدِّي إلى ضعفهِ، ويحملهُ علَى الفطْرِ وهُوَ مُستغنٍ عنهُ.
هُناكَ سؤالٌ عنِ الدَّمِ الذي يخرجُ منْ بدنِ الإنسانِ سواءً كانَ يخرجُ منَ اللثَةِ أوْ يخرجُ منَ الأنفِ بالرُّعافِ، أو يخرجُ منْ سائرِ أجزاءِ البدنِ، هَلْ هَذا يُفَطِّرُ أوْ لا؟ الجوابُ: لا يُفَطِّرُ، ليْسَ هُناكَ دليلٌ علَى أنْ خُرُوجَ الدَّمِ مُفَطِّرٌ، إنما هناكَ دليلٌ علَى أنَّ الحجامةَ تفطرُ في قولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في حديثِ ثوْبانَ وحديثِ شدَّادِ بْنِ أوْسٍ: «أفطَرَ الحاجِمُ والمحْجُومُ».
أمَّا ما يتَّصلُ بخروجِ الدَّمِ لجرحٍ أو لنزيفٍ أو لشيءٍ منْ هَذا فإنهُ لا يُفْطرُ، وَلا دليلَ علَى الفطرِ بمثلِ هَذا، ولوْ كانَ مفطِراً لبيَّنهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
ينبغِي أنْ يعلمَ فيما يتصلُ بما يسألُ عنهُ الناسُ استعمالُ المعاجينِ والمنظفاتِ، هلْ تفطرُ أوْ لا تفطرُ يكثرُ السؤالُ عنْها؟ الجوابُ: لا تفطِرُ.
هُناكَ منْ يسألُ عنْ البلغمِ وهوَ ما يجرِي في الجوفِ منْ شيءٍ غليظٍ يبتلعهُ الصائمُ أحْياناً، هلْ هَذا يؤثرُ علَى صحةِ صومهِ؟ الجوابُ: الراجحُ أنَّهُ ينبغي أنْ يتجنبَ الابتلاعَ، لكنْ لوِ ابتلعَ ذلكَ فإنَّ صيامهُ لا يجرحُ وصيامهُ صحيحٌ.
هذهِ مسائلُ يكثرُ السؤالُ عنها، وأنا أقولُ: ينبغِي للمؤمنِ أنْ يتفقهَ وأنْ يسألَ، لكنْ ينبغِي أنْ يعلمَ أنهُ لا يسألُ عنْ كلِّ ما شذَّ وكلَّما ذهبَ، وكُلِّ ما أَتى، الأصلُ أن المفطرات معلومة ومحدودة، فإذا اشتبه على الإنسان شيء من هذه الأمور فعند ذلك يقول الله تعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ))[النحل:43].
أسألُ اللهَ تعالَى أنْ يرزُقنِي وإياكمُ العلمَ النافعَ والعملَ الصالحَ، وأنْ يُبصِّرنا وإياكمْ بالصَّوابِ، واللهُ تعالَى أعلمُ.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ علَى نبِّينا محمدٍ.