(الحلقة السادسة عشر)
رمضان شهر القرآن
الحمد لله رب العالمين، أحمده جل في علاه، أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، أحمده لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله وخيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله وعليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات!
الله جل في علاه خص هذا الشهر المبارك بخصيصة قدرية شريعة عظمى، هذه الخصية وهذه الميزة بز بها هذا الشهر سائر هذا الشهور، وسمى بها بين أوقات الدهور، هذه الميزة وتلك الخاصية هي التي من أجلها شرع الله تعالى الصوم في هذا الشهر، فخصوصية اختيار الله تعالى للصوم في هذا الشهر هي أنه الشهر الذي أنزل الله به القرآن، قال الله جل في علاه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾[البقرة:185] وهذا كالتعليل والتبرير لتلك الفريضة، فإن الله خص هذا الشهر بالصيام لكونه الشهر الذي من الله تعالى على عباده بإنزال هذا القرآن.. هذا القرآن منّة عظيمة من رب العالمين، نعمة ليست خاصة بالمؤمنين، بل هي عامة للناس كلهم، ولذلك جاءت البشارة في كتاب الله تعالى للناس كافة: قل يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[يونس:57]، هذه البشارة من الله تعالى ليست خاصة بصنف من الناس، ولا بحقبة زمنية، بل هو بشرى وهي بشارة لكل الناس في كل زمان بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[يونس:57] * ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس:58].
أمر الله تعالى المؤمنين بأن يفرحوا بهذا الكتاب، وأن يستبشروا به، وأن يجعلوه محلاً للاجتهاد والسرور، كيف لا، وهذا هو رسالة رب العالمين للناس، هذا الحبل الذي بينك وبين الله جل في علاه، هذا الكلام كلام الله الذي له الأولى والآخرة، هذا كلام رب العالمين، فيفرح بذلك أولياؤه، ويسرون ويبتهجون وتنبهج كل أساريرهم بهجة وفرحة ولذة بسماع هذا القرآن وتلاوته، إن هذا القرآن ينبغي للمؤمن أن يعرف ما فيه من الأحكام، أن يبذل جهد في الوقوف على ما فيه من الأسرار، ولا سبيل للوصول إلى هذا إلا من خلال تلاوته، ولذلك أمر الله تعالى رسوله في أول مقام بعثه الله تعالى به، وأرسل إليه وأوحى إليه، أمره في مقام الوحي وابتداء الرسالة والنبوة بالقراءة: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[العلق:1] ماذا يقرأ؟ يقرأ كلام الله جل في علاه، فهو المفتاح لكل خير: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراء:9]، ثم إنه لم يكتف جل في علاه بالقراءة التي تكون عابرة، بل قراءة تحتاج إلى مكابدة، وإلى بذل جهد واصطفاء لوقت من أفضل الأوقات ليتطابق القلب واللسان فيتدبر الإنسان ما في هذا الكتاب من الحكم وبديع البيان.
الله جل في علاه يقول في محكم كتابه في ثاني أو ثالث سورة أنزلها جل في علاه لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾[المزمل:1] * ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾[المزمل:2] * ﴿نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا﴾[المزمل:3] * ﴿أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾[المزمل:4] * ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾[المزمل:5] هذا القول هو القرآن الكريم الكلام الذي نقرأه من كلام رب العالمين، ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾[المزمل:6].
إذاً نحن بحاجة إلى أن نقرأ هذا الكتاب حتى نقف على ما فيه من البهجة والخير.
النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن على كل أحيانه حتى إنه كان يقرأ القرآن ورأسه في حجر عائشة رضي الله عنها، وكان يقرأ القرآن قائماً وقاعداً على جنب، لم يكن يحجزه شيء من القرآن إلا الجنابة كما في السنن والمسند من حديث علي رضي الله عنه ما كان يمنعه شيء من القرآن، بل يقرأه في كل أحواله صلى الله عليه وسلم، وكان يسمعه من أصحابه كما جاء في سماعه صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن مسعود قرأ في سورة النساء حتى بلغ قوله جل وعلا: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾[النساء:41] يقول ابن مسعود: فقال لي: حسبك، فالتفت فإذا عيناه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم تذرفان تأثراً بهذا القرآن، واتعاظاً به، واعتبار مع كونه عليه أنزل وهو أعلم الناس به، لكنه معه هذا يسمعه من غيره، ويتأثر بسماعه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، قراءة القرآن لذة يجب على المؤمن أن لا يفوت نصيبه منها لا سيما في هذا الشهر، هذا الشهر هو شهر القرآن، هو الشهر الذي خصه الله بإنزال هذا الوحي المبين والنور العظيم، والهدى المستقيم، فينبغي لنا أن نحرص على قراءة القرآن، لكن انتبه فإن القراءة المقصودة التي يدرك بها الإنسان الفضائل والأجور، ويحصل بها سنة خير الأنام صلى الله عليه وسلم هي تلك التي يتدبر الإنسان فيها ما يقرأ، ويقف عند ما فيها من الحكم والأسرار، يبذل جهده في فهم كلام رب الأرض والسماء الملك الجبار سبحانه وبحمده، يبذل الجهد وليس هناك أحدٌ عاجز عن أن يفهم كلام الله تعالى ولو بالقدر اليسير، فالله تعالى قد قال: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾[القمر:17]، وإذا خفي عليك شيء: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾[النحل:43].
من المهم أن نتدبر القرآن، وهذا ينبغي أن نفهم أنه ليس بيننا وبين كلام الله حاجز، فكلام الله ميسر للفهم، الناس تتفاوت أفهامهم، وتتفاوت عقولهم في إدراك معاني هذا الكتاب المبين، ونصيب الناس يختلف باختلاف الفتوحات التي يفتح الله تعالى بها على الناس، لكن الجميع يستطيع أن يستفيد من هذا القرآن، ولهذا كان يسمعه المشركون ويعتبرون ويتعظون ويرون أنه كالصواعق في بعض الأحيان على رؤوسهم وعلى أسماعهم من شدة ما يجدون فيه من الحجج والبراهين، فإذا أصغى الإنسان إلى هذا القرآن واعتبر واتعظ، وتأمل وتفكر وجد نوراً مبيناً وهدى مستقيماً، لهذا ينبغي ألا نحرم أنفسنا لا سيما في هذه الأيام أن نقرأ القرآن فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن على وجه العموم والدوام، لكنه في رمضان كان يخصه بمدارسة، فكان يعرض القرآن على جبريل يعرضه في كل عام مرة، وفي العام الذي قبض فيه عرضه صلى الله عليه وسلم مرتين، وهذه المعارضة مدارسة وتوثيق وتثبيت من الألفاظ ومن المعاني، وهكذا كانت عنايته صلى الله عليه وسلم بكتاب الله جل وعلا.
وننبه هنا إلى أنه ينبغي ألا نحرص فقط على كثرة الختمات، بل ينبغي أن نحرص مع كثرة القراءة على التدبر وتفهم: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[ص:29].
والله تعالى يقول في محكم كتابه: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾[النساء:82].
فالله الله في تلاوة كتاب الله تعالى وقراءته وتدبره وتأمل معانيه ما استطاع الإنسان وما قدر وما فتح الله تعالى عليه:
فتلك مواهب الرحمن ليست تحصل باجتهاد أو بكسب
ولكن لا غنى عن بذل جهد بإخلاص وجد لا بلعب
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.