(الحلقة السابعة عشر)
وجوب تدبر القرآن
الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله وعليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره ولزم نهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات!
هذا خبر رواه البخاري في صحيحه من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال له: يا أبا عبد الرحمن! قرأت المفصل في ركعة.
المفصل هو قسم من القرآن يبتدئ من الحجرات إلى الناس، أو من ق إلى الناس على قولين لأهل العلم، والمسألة قريبة الفارق سورة إما من الحجرات إلى الناس، وإما من ق إلى الناس.
يقول هذا الرجل لعبد الله بن مسعود: قرأت المفصل في ركعة وهو مبتهج يذكر هذا على وجه السرور والتحدث بنعمة الله تعالى عليه، فقال له عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أهذاً كهذ الشعر. هذا التنبيه من عبد الله بن مسعود لفت نظر مهم لمن منّ الله تعالى عليه بقراءة القرآن أنه ينبغي للمؤمن أن يتدبر القرآن وألا يجعل القرآن كالشعر يلقى لا يوقف عند معانيه ولا يتدبر ولا يتأمل مضمونه، بل يجب على قارئ القرآن وتالي القرآن أن يتأدب بآداب تلاوة كلام رب الأرض والسماء، وهو أعظم كتاب أنزله الله والمعجزة العظمى والنور المبين الذي لم يؤته أحد من قبل يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا أتاه الله من الآيات» يعني البراهين والحجج والمعجزات «ما على مثله آمن البشر، وكان الذي أوتيته» يعني كانت الآية التي خصصت بها وميزت بها عن سائر النبيين: «وحي أوحاه الله إليّ» طبعاً الجميع أوحى الله إليهم، لكن الوحي الذي أوحاه الله إليه هو هذا الكتاب المبين، هذا النور القويم الذي جعل الله تعالى حجة على الأولين والآخرين: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾[فصلت:42].
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر:9].
هذا الكتاب العظيم لما يقرأه المؤمن يجب أن يتأدب بالآداب التي تحقق الفائدة من قراءة القرآن، فمن آداب تلاوة القرآن أن يتأمل معانيه، وأنا أبدأ بهذا مع أن هناك آداب سابقة، لكن هذا أول ما يكون من الآداب التي ينبغي أن تكون في بالنا حاضرة وهو أن نتدبر القرآن، وأن نتعظ بما فيه من الحكم والقصص والأخبار وأن نعرض أنفسنا على ما تضمنه من الأحكام حتى نرى ما الذي عندنا من الخير فنحمد الله عليه ونزيد منه ونتشبث به، وما الذي عندنا من النقص فنجاهد في إصلاح أنفسنا، فالقرآن إنما هو لإصلاح القلوب وتزكيتها وتطييبها وتطهيرها، وإذا صلحت وزكت صلح العمل كله، وصلح البدن كله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير في الصحيحين: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» إننا بحاجة أن نفهم معنى التدبر، ما هو معنى التدبر؟ معنى التدبر: أنك إذا قرأت قول الله تعالى تأمل فكر في هذا الكلام الذي تقرأه لما أقول وأنا في الصلاة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الفاتحة:2] يجور في خاطري وذهني ما الذي أحمد الله تعالى عليه أحمده على كل نعمة أحمده على كماله وجلاله أحمده على خلق أحمده على شرعه أحمده على أن النعم العامة والخاصة كل هذا مما يتضمنه هذا القول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الفاتحة:2]، ولما أقول: (رب العالمين) أتفكر وأقول: من العالم منهم العالمون؟ هم كل ما سوى الله، فهم عالم وأنا واحد من ذلك العالم، وأنا واحد منهم فالله ربي.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ﴾[الفاتحة:1] * ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾[الفاتحة:4] * ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5] هلم جر، يجير الإنسان فيها فكرة، ويعلم فيها ذهنه، ومرة يقف عند الحمد، ومرة يقف عند (الرحمن الرحيم) ومرة يقف عند (إياك نعبد وإياك نستعين) وهلم جر، وفي كل قراءة يجد أنه يزداد خيراً من هذا القرآن إذا تأمل وتدبر واتعظ وتفكر في معاني الآيات النبي صلى الله عليه وسلم نقل عنه كما في السنن أنه قام الليل كله بآية واحدة وهي قوله جل وعلا: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[المائدة:118].
آية واحدة يقيم بها صلى الله عليه وسلم الليل، وتظنون يا إخواني ويا أخواتي! أن قيام النبي صلى الله عليه وسلم كقيامنا ركعات أجزاء خفيفة تنتهي عجلا في وقت قصير؟ الجواب، لا، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتورم قدماه كما في حديث المغيرة في الصحيحين.
وفي حديث عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه.
وفي بعض الروايات: رجلاه. وهذا يدل على أنه كان يقوم قياماً طويلاً يردد آية واحدة يتأمل ويعتبر ويتعظ، وهكذا كل الصالحين ممن سار على طريق النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الحكايات والقصص ما يدل على تأملهم واتعاظهم واعتبارهم بما في الآيات وبما في الكتاب الحكيم من المواعظ، وما فيه من الأسرار، وما فيه من المعاني، وما فيه من الحكم، وما فيه من الأمور الباهرة التي إذا أعمل الإنسان فيها عقله تفتحت له خيرات كثيرة، وهذا ليس محصوراً على المتخصصين لأن بعض الناس يقول: التدبر هو عمل من الذين يعرفون اللغة العربية بإتقان، ويعرفون العلوم الشرعية بإتقان لا، التدبر يكون حتى من عامة الناس، وقد قص لي أحد الناس قصة فيها من العجب ما نقف معه يقول: كنت في مسجد وألاحظ شخصاً ليس عليه سيماء الصلاح إنما هو من المصلين يعني الذين يحضرون ويبكرون ويتأخرون، وكنت ألحظ منه خشوعاً وإخباتاً وإنابة لا تناسب ما أشاهده من مظهره، هذا حسب وصفه وحسب كلامه، يقول: فرقبته مرة وصليت وإذا بالرجل لما انصرف الناس يقرأ القرآن ويبكي يقرأ ويبكي يكرر قول الله تعالى: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[إبراهيم:10] يقول: فجئت إليه لما قضى قراءته وقلت: يا فلان! وفقك الله وثبتك وزادك من الخير: ما الذي هداك لهذا؟ وما الذي يسرك هذا؟ وما الذي يبكيك؟ يقول: فقص لي من حاله عجباً يقول: لا أملك قلبي إذا قرأت كلام ربي لا أملك نفسي إذا تأملت في آيات ربي، وكان يقرأ: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾ ويبكي ويقول: لا والله ما فيه شك، ويقرأ ويقول: لا والله ما فيه شك، هكذا يكرر هذه الآية ويتذوقها ويرى براهين في السماوات وفي الأرض وفي الأنفس وفيما يعرف، وفيما يدرك من الدلائل الدالة على أنه لاشك في رب العالمين في ربوبيته وإلهيته وكمال صفاته وبديع خلقه جل في علاه.
هذا الملحظ الذي انتبه إليه أخونا هذا كان في الحقيقة نتاج تأمل وتدبر، فلو وقف الإنسان مع آية من كتاب الله قد تصلح بها حاله، وتستقيم بها أموره، هذا أدب مهم وضروري، وأنا أدعو إخواني إلى أن يجربوه وسيجدوا من الفتوحات، بل سيجدوا من لذة قراءة القرآن ما لا يجدونه في غير هذه الملاحظة وفي غير هذا الأدب.
من آداب قراءة القرآن التي ينبغي أن يلاحظها: أن يبدأ بالاستعاذة كما قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾[النحل:98].
وينبغي أيضاً أن يقرأه على طهارة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، إذا كان يقرأه من المصحف ينبغي ألا يمس المصحف إلا وهو طاهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن حزم فيما كتبه لهم قال صلى الله عليه وسلم: «لا يمس القرآن إلا طاهر».
ينبغي أن يستقبل القبلة إذا تيسر له ذلك ففي البيهقي بإسناد لا بأس به: «خير المجالس ما استقبل به البيت» إن تيسر، وإلا فإنه يقرأ كيفما كان، النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأن ورأسه في حجر عائشة صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾[آل عمران:191]، فالقراءة تكون في كل الأحوال، وفي كل الأحيان، وفي الصحيح من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله في كل أحيانه.
هذه جملة من الآداب وهي على وجه الاختصار أهمها: ما استوعب الحديث في أكثر هذا اللقاء، وهو أن نتدبر القرآن الذي أمرنا الله بتدبره في قوله جل وعلا: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[محمد:24].
﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾[النساء:82].
اللهم افتح علينا فتوحاً عالياً في كتابك يا ذا الجلال والإكرام، واجعلنا من أهله الذين هم أهلك وخاصتك، وفقنا لفهمه والعمل به والدعوة إليه، ارزقنا تلاوته آناء الليل وآناء النهار على الوجه الذي ترضى به عنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.