(الحلقةُ الثامنةُ عشرُ)
فضلُ العمرةِ في رَمضانَ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أحمدُهُ جلَّ في علاهُ، وأُثْنِي عليهِ الخيرَ كُلَّهُ، وأشهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدُ اللهِ ورَسُولهُ، صَلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحْبهِ، ومنِ اتبعَ سُنتهُ بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّينِ.
أما بعدُ:
فمرحَباً بكمْ وأهلاً وسهلاً أيُّها الإِخْوةُ والأخواتُ
تَقبلَّ اللهُ منَّا ومنكمُ الصِّيامَ والقيامَ : اللهمَّ تقبلْ مِنَّا صالحَ الأَعْمالِ، وأعِنَّا علَى اغتنامِ ما بَقِيَ منَ اللَّيالِي والأيَّامِ يا ذا الجلالِ والإِكرامِ.
أَيُّها الإخوةُ والأخواتُ رَوَى الإمامُ البُخاريُّ ومسلمٌ في صحيْحِهِما مِنْ طريقِ عطاءٍ عنِ ابْنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لما رَجَعَ مِنْ حجةِ الوداعِ لَقِيَ امرأَةً فقالَ لَها: «ما منعكِ أنْ تحُجِّي معَنا؟» فقالتْ: لأَبِي ولدها ناضِحانِ، يعْنِي كانَ لزوجِها جملانِ، أمَّا أحدُهُما فحجَّ عليْهِ هُوَ وَوَلُدُهُ، وأَمَّا الآخَرُ فَكُنَّا نسْقِي عليهِ، فقالَ لَها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذا جاءَ رَمضانُ فاعْتمرِي فإِنَّ عُمْرَةً في رَمضانَ تعْدِلُ حَجَّةً».
وَفي رِوايَةٍ في البُخارِيِّ: «تقْضِي حَجَّةً».
وفي روايةٍ: «تقضِي حجَّةً مَعِي».
هَكذا بَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليْهِ وعلَى آلهِ وسلَّمَ لِهذهِ المرأَةِ فَضِيلَةَ العُمْرَةِ في رمضانَ، وأَنَّها تعدِلُ حَجَّةً أوْ تعْدِلُ حَجَّةً معهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وعلَى آلهِ وسَلَّمَ، هذا فضلٌ كبيرٌ، وخصٌوصِيَّةٌ عُظْمَى إِذا يسَّرَها اللهُ تعالَى لِلعبدِ، فإنَّ حَجَّةً معَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تعدِلُ خيْراً كثيراً، والحَجَّةُ إِذا كانتْ علَى هدْيهِ وسُنَّتهِ فهيَ تعدلُ خَيْراً كثيراً، ولو لمْ يكنْ ذلِكَ معهُ، فكيفَ إذا كانتْ معهُ؟
جاءَ في الصحيحِ مِنْ حديثِ أَبِي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ قالَ: «العمرةُ إِلَى العمرةِ كَفَّارةٌ لما بينهُما والحجُّ المبرُورُ لَيسَ لهُ جزاءٌ إلا الجنَّةُ».
وَهذا يبينُ فضيلةَ الحجِّ، وأنهُ ليسَ لهُ جزاءٌ إلا الجنةُ، فعمرةٌ في رمضانَ تعدلُ في الأجرِ والثوابِ أجرُ حجةٍ لما يترتبُ علَى الحجةِ منَ الأُجورِ والعطايا، نسألُ اللهَ منْ فضلهِ، واللهُ جلَّ في علاهُ لهُ الحكمةُ فيما يقضِي وفيما يختارُ: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[القصص:68].
فاللهُ تعالَى اصْطَفَى هَذا الزَّمانَ فجعلهُ مَحِلاً لقرباتٍ متنوعَةٍ، وألوانٍ منَ الصالحاتِ:
مِنها أنْ يقصدَ المؤمنُ هذهِ البقعةَ المباركةَ لتعظيمِها وإجْلالِها علَى الوجهِ الَّذي شرعهُ اللهُ تعالَى، وكانَ عليهِ هدْيُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ منَ الطوافِ والسعيِ والتقصيرِ رغبةً فيما عندَ اللهِ.
وقد توافرتْ الأحاديثِ في فضيلةِ العمرةِ فهيَ قرينةُ الحجِّ وهيَ الحجُّ الأصغرُ كما قالَ جماعةٌ منْ أهلِ العلْمِ، فقدْ قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في بيانِ فضيلتِها كَما في الصَّحيحِ مِنْ حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «العمرةُ إِلَى العمرةِ كَفَّارةٌ لما بينهُما».
وقدْ قالَ كَما في الترمذيِّ وغيرهِ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ: تابِعُوا بينَ الحجِّ والعمْرةِ فإنهُما ينْفيانِ الذُّنوبِ كَما تَنفِي النَّارُ خبثَ الحديدِ.
وهَذا يدلٌ علَى فضيلةِ هذهِ العبادةِ وجليلِ قَدْرِها، لكنْ ينبَغِي أنْ يعلَمَ أنَّ فضيلةَ العُمَرةِ في رَمضانَ فَضِيلةٌ ثابتةٌ بقولهِ، فلمْ يثْبتْ عنهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ قصدَ مكَّةَ في رَمضانَ لِلعُمرةِ إنَّما جاءَ لفتحِ مكَّةَ في العامِ الثَّامنِ ولمْ يعتمرْ صلَّى اللهُ وعليهِ وعلَى آلهِ وسلَّم، فلمْ يصحَّ عنهُ كَما ذكرَ جماعةُ منَ العُلَماءِ بالاتِّفاقِ لمْ يصحَّ عنهُ أنَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ اعْتَمَر في رمضانَ فهيَ سنةٌ ثابتةٌ بقولهِ، وَهَذا يوسِّعُ لأولئكَ الَّذِينَ قصُرتْ قدراتُهمْ عنْ أنَّ يذهبُوا إلَى مكَّةَ فإنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لم يذهبْ إِلى مكةَ للعمرةِ في رمضانَ، فمنْ لمْ يستطعْ فالنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ وهوَ خيرُ الخلقِ وأكرمهمْ عندَ اللهِ تعالَى شرعَ ذلكَ بقولهِ في حديثهِ لهذهِ المرأةِ، ولمْ يكنْ ذلكَ منْ فعلهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ معَ كونهِ مُسابقاً إلَى كلِّ خيرٍ.
فَلِهذا ينبغِي أنْ توضعَ الأعمالُ في إِطارِها، وأَلا يبالغَ بِها حتىَّ يظنَّ بعضُ الناسِ أنهُ إذا لمْ يعتمرْ في رَمضانَ فإنهُ لمْ يأتِ بِما ينبغي، أو أنهُ أخلَّ بما يجبُ أنْ يفعلَهُ، أوْ أنَّ رمضانَ ناقصٌ، أوْ ما إلَى ذلكَ منَ الأمورِ الَّتي تأتِي حقيقةً نتيجةَ اكْتسابِ الأمرِ عَلَى وجْهِ الاعتيادِ، وَهَذا غلطٌ كبيرٌ، كثيرٌ منَ الناسِ يذهبُ لمكَّةَ عادةً وليسَ عبادةً، وَهذا غلطٌ، لا شكَّ أنهُ علَى خيرٍ وعلَى بِرٍّ، وأرْجُو اللهَ تعالَى أَلَّا يحرمهُ الأجرَ، لكنْ ليسَ كذاكَ الَّذي يذهبُ متطوِّعاً متقرِّباً يستشعرُ في كلِّ خطْوةٍ أنهُ سائرٌ إلَى اللهِ تعالَى يرجُو ثوابَهُ، كَما أنَّهُ ينبغِي أنْ يعلمَ أنَّ العمرةَ الَّتي ثَبتَ فضلُها في رَمضانَ ليْسَ منْ لَوازِمها وَلا منْ مُقْتضياتِها أنْ يَبْقَى الإِنسانُ في مكَّةَ وتطولُ إقامتهُ أو يمتدَّ يَومٌ أوْ يوميْنِ، بلْ إِذا اعْتمرَ وخرجَ فقدْ أدركَ الفضيلةَ، فالفضيلةُ ليستْ في الإقامةِ في مكَّةَ، إِنَّما الفضيلَةُ في العمرةِ والإقامةِ في مكَّةَ هذهِ مسألةٌ أخْرىَ ترجعُ إِلَى قضيَّةِ المجاورةِ أَي البقاعُ أفضلُ في المجاورةِ: هلْ هيَ مكَّةُ، أوِ المدينةُ، أوْ غيرُ ذلكَ؟ العُلَماء لهُمْ أَقْوالٌ:
منهمْ منء يقولُ: المجاورَةِ في مكَّةَ أفْضلُ.
ومنهمْ منْ يقُولُ: المجاورةُ في المدينةِ أفْضلُ.
وَمنهمْ منْ يقولُ وهوَ الصحيحُ أنَّ الأفضلَ في المجاورةِ حيثُ كانَ الإنسانُ يزدادُ طاعةً وَإيماناً، فحيثُ ازْدادتْ طاعتُكَ وازْدادَ إِيمانُكَ فهُوَ الأَفضلُ، بغضِّ النظرِ عنِ البقعةِ، فإنَّ البُقعةَ لا تُقدَّسُ أَحَداً ما دامَ أنهُ لم يعملْ فيها بالصَّالحِ، فإنَّ الشَّاهدَ كُلَّ الشَّاهدِ في أنْ يعملَ الإِنسانُ بِالصَّالحِ، وَلهذا الَّذِينَ يتكلفُونَ بالاستئْجارِ في مكَّةِ بِأُجورٍ عاليةٍ قدْ يتدينُونَ وقدْ يَخْسرُونَ الشَّيءَ الكثيرَ، وقدْ لا يدْركُونَ لذَّةَ البقاءِ في تلْكَ البُقْعَةِ واسْتِشْعارِ العِبادةِ بسببِ الزَّحامِ واكْتظاظِ الناسِ نقولُ لهمْ: ابْقُوا في بلادكمْ، إِذا اعتمرتُمْ انْصرِفُوا إِلَى بُلدانكمْ، وبذلكَ تُدْرِكُونَ الأجرَ، فليسَ منْ لازمِ العمرةِ أنْ تُقيمَ في مكَّةَ وتُصَلِّي فِيها الصلواتِ المفروضَةَ والقيامَ وَما إلَى ذلكَ منَ الأعْمالِ الصَّالحةِ فإنَّ هَذا فضلٌ وخيرٌ إذا حصلَ فذاكَ، وإذا لمْ يحصلْ فإنَّ الإنسانَ لا يُفوِّتُ الفضيلةَ المتَّصلةَ بالعمرةِ، العمرةُ ليسَ لهَا وقْتٌ يحدِّدُها، بلْ هيَ عمرةٌ في رَمضانَ فتشملُ كلَّ أوْقاتِهِ: في الليْلِ، وفي النهارِ، وفي أولهِ، وفي آخرهِ، وفي ساعةٍ منْهُ، فإنهُ يدركُ هذهِ الفضيلَةَ الَّتي ذكرَها النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
وينبغِي أنْ يُوازِنَ الإنسانُ بيْنَ أُمُورِه: بَعْضُ النَّاسِ قدْ يُضَيِّعُ أوْلادهُ لِيأْخذَ عمرةً في رَمضانَ، ويضيِّعُ أُسرتهُ ليأْخذَ عُمرةً في رَمضانَ، يتحمَّلُ دُيوناً ليأْخُذَ عمرةً في رَمضانَ، يُخلُّ بوَظيفتهِ ليأخُذَ عمرةً في رَمضانَ، وما أشبهَ ذلكَ منْ أنواعِ الاخْتلالاتِ الَّتي تنتجَ عنْ عدمِ فقهِ أولويَّاتِ ومراتبِ العملِ، فَلا يقدَّمُ مسنونٌ مستحبٌّ علَى واجبٍ لازمٍ سواءٌ كانَ واجِباً في حقِّ اللهِ تَعالَى، أوْ كانَ واجِباً لحقِّ الخلْقِ، فينبغِي أنْ يَعْرفَ المؤمنُ أنهُ إذا قصدَ الخيرَ ولم يتمكَّنْ منهُ، فإنَّ اللهَ يبلغهُ ولوْ كانَ علَى فراشهِ، فمنْ سألَ الشَّهادةَ بِصدقٍ بلَّغهُ اللهُ منازلَ الشُّهداءِ وإنْ ماتَ علَى فراشهِ كَما في الصَّحيحِ.
وقد قالَ الشاعرُ:
يا ظاعِنينَ إِلَى البيت العتيقِ لقدْ سرتمْ جُسوماً وسرْنا نحنُ أرْواحا
وذكرَ في جملةِ ما ذكرَ أنهُ حَبسهُ العذرُ، والعذرُ كَما قالَ: فمنْ كانَ عنْ عذرٍ فَهوَ كمنْ راحَ، أيْ: منْ كانَ حَبْسُهُ وتأخُّرُهُ عنْ عذْرٍ فهوَ كَما لَوْ راحَ.
وجاءَ في الصَّحيحينِ منْ حديثِ أنسٍ ومنْ حديثِ جابرٍ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لما رَجَعَ منْ أشدِّ غزواتهِ وهي غزوةُ تبوكَ لما رجعَ قالَ لأصحابهِ وهوَ في طريقهِ: «إنَّ أَقواماً بالمدينةِ ما سِرتمْ مَسِيراً ولا قطعتمْ وَادِياً وَلا نزلتمْ منزِلاً إِلا شركُوكمْ في الأجرِ» قالُوا: وهمْ في المدينةِ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: «وهمْ في المدينةِ حبسهمُ العذْرُ».
وفي رِوايةٍ: «حبسهمْ المرضُ».
فهذا يدلُّ علَى أنَّ الإنسانَ إذا قامَ بِما يستطيعُ وبذلَ جهدهُ لإدراكِ الفضيلةِ، وحيلَ بينهُ وبينها بقدرٍ أو عذرٍ فإنَّ اللهَ تعالَى يبلِّغهُ ما يُؤمِّلُ مِنَ الخيرِ.
الشَّأنُ كُلُّ الشَّأْنِ فيما يتعلقُ يا إخوانِي بالقلبِ.. القلبُ إذا صلحَ وسارَ إلَى اللهِ وصدقَ معهُ فإنَّهُ يبلغُ منازلَ علياءَ:
قطْعُ المسافةِ بِالقلوبِ إليْكَ لا بالسَّيْرِ فوقَ مقاعدِ الركْبانِ
كما يقولُ ابنُ القيمِ.
فينبغِي لَنا أنْ نفْقهَ هَذا المعْنَى، وأنْ نفعلَهُ في حياتِنا أنْ نُصحِّحَ النَّوايا، وأنْ نُصَحِّحَ القُلُوبَ، ثُمَّ نبذُلُ جُهدَنا فِيما نستطيعُ مِنَ العَمَلِ، فَقدْ قالَ اللهُ تعالَى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16].
أسأْلَ اللهَ تَعالَى أنْ يرْزُقَنا وإِيَّاكُمُ الفِقْهِ في الدِّينِ، وأَنْ يُعلِّمَنا التأْوِيلَ، وأَنْ يسلُكَ بِنا سبيلَ الرَّشادِ، وأنْ يَجْعَلنا مِنْ حزبهِ وأولِيائهِ.
وصَلَّى اللهُ وسلَّمَ علَى نبِّينا محمدٍ.
والسَّلامُ عليكمْ ورحْمةُ اللهِ وَبركاتهُ.