(الحلقة التاسعة عشر)
عبادة الاعتكاف
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده جل في علاه، له الحمد كله أوله وآخره ظاهره وباطنه، لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين شهادة أرجو بها النجاة من النار، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله وعليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمرحباً وأهلاً وسهلاً بكم أيها الإخوة والأخوات!
الله جل وعلا في محكم كتابه يخاطب عباده وينادي أولياؤه المؤمنين فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الحج:77].
هذا النداء من الله جل وعلا نداءٌ ينبغي أن يحرك فينا القلوب، وأن يجذب منا الأسماع، فإن الله جل في علاه نادنا بوصف هو من أحب الأوصاف وأعلاها وأشرفها وهو وصف الإيمان، ثم ندبنا إلى فنون من ألوان الطاعة والإحسان: ﴿ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الحج:77].
وإن هذا الزمان زمانٌ نوع الله فيه الطرق الموصلة إليه من تلاوة، وعبادة، من زكاة وصوم وعمرة وقراءة ودعاء، وكذلك اعتكاف، هذه العبادة الخاصة التي ذكرها الله تعالى في آيات الصيام عبادة لها منزلة كبرى أمر الله خليله إبراهيم أن يطهر بيته للعاكفين، وأن يرفع البيت للعاكفين، وهذا بيان لعظيم منزلتهم وكبير مكانتهم إن الله يأمر من أشرف رسله وهو خليله إبراهيم عليه السلام يأمره بأن يطهر بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود، فمنهم العاكفون؟ هم أولئك الذين لزموا بيوت الله تعالى، الاعتكاف عبادة ذكرها الله في ثنايا آيات الصيام، فما هو الاعتكاف؟
الاعتكاف في اللغة: اللزوم. فإذا لزمت الشيء فقد عكفت عليه.
وأما في الاصطلاح أي: في كلام الله وكلام رسوله: فهو لزوم مسجدٍ طاعة لله تعالى. هذا التعريف الموجز المختصر، ولسنا في درس علمي، وإنما نحن في ذكرى وموعظة، لكن من المفيد أن نعرف أن هذا التعريف في الحقيقة يجمع معنى الاعتكاف ومقصده وسره وغايته، فمن المهم أن نقف عنده، لأن كثيراً من الناس يظن أن الاعتكاف هو أنك تبقى في هذه البقعة كيفما كنت باقياً على أي وجه كنت ماكثاً فأنت معتكفٌ، وهذا غلط، الاعتكاف الذي أثنى الله تعالى على أهله، وفرض لهم من الأحكام ما ذكره في كتابه: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾[البقرة:187] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله عبادة جليلة لها منزلة، ولها أهمية، فينبغي أن نعرف ما حقيقة الاعتكاف، حقيقة الاعتكاف تقوم بأمرين:
الأمر الأول: لزوم المسجد.
والأمر الثاني: النية والقصد بأن ينوي الاعتكاف ينوي اللزوم.
فعندنا فعل، وعندنا قصد، عندنا عمل جوارح وبدن، وعندنا عمل القلب، عمل القلب هو النية: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».
أما عمل الجوارح: فهو اللزوم بأن يمكث ويلزم هذا المسجد، ما هو المسجد الذي يشرع الاعتكاف فيه؟ ليس هناك تحديد لهذا المسجد، إنما هو كل مسجد بني لله تعالى تقام فيه الصلوات، هذا هو الأصل، واشتراط أن تقام فيه الصلوات لئلا يخرج المصلي ويتكرر خروجه في اليوم فيختل اعتكافه بسبب هذا الخروج والدخول، ولهذا اشترط عامة فقهاء الأمة أن يكون مسجداً تقام فيه الصلاة، واستحب بعضهم أن يكون جامعاً.
ومن أهل العلم من خص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة، وهذا قول مهجور قال به حذيفة رضي الله عنه، وخالفه فيه عبد الله بن مسعود حيث قال: لعلهم حفظوا ونسيت، وعلموا وجهلت، أو نحو ذلك مما رد به عليه، والآية دالة على ما ذهب إليه جماهير علماء الأمة من أن الاعتكاف يكون في المساجد وليس خاصاً بالمساجد الثلاثة: مكة، المدينة، والمسجد الأقصى، إنما يكون في المساجد كلها يقول الله تعالى: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾[البقرة:187].
اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأخيرة من رمضان استقرت سنته على الاعتكاف العشر الأواخر من رمضان، تقول عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، واعتكف حتى توفاه الله، واعتكف أزواجه من بعده، فهذه سنة نبوية لزمها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته، وعمل بها أزواجه وأصحابه من بعده، وعمل بها المؤمنون إلى يومنا هذا، فنسأل الله أن يتقبل منا ومنهم، هذا الاعتكاف له أحكام ينبغي أن يستشعرها المؤمن، وأن يحرص على امتثالها، أهم ما ينبغي أن ننطلق منه في معرفة أحكام الاعتكاف أن الاعتكاف حقيقته لزوم المسجد لطاعة الله تعالى، فليس للمحادثة ولا لمسامرة ولا لأي شيء آخر مما يقصده الناس في مكثهم واجتماعهم، إنما هو مكث ولزوم للمسجد تحقيقاً لطاعة الله تعالى رغبة فيما عند الله تعالى، ولماذا كان الاعتكاف النبوي في العشر الأواخر من رمضان واستقر على ذلك؟ الجواب: لأنها ليالي فاضلة، وفيها من الخير ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبذل قصارى جهده وغاية إمكانه صلى الله عليه وسلم في إدراك فضيلتها وموافقة ليلة القدر، فالعشر الأواخر فيها ليلة القدر التي هي أشرف ليالي الزمان، وقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم قال لأصحابه: «من اعتكف معنا فليعتكف العشر الأوسط، فإنما نطلب أمامنا» وهو ليلة القدر، ثم اعتكف العشر الأوسط حتى هم بالخروج وهم أصحابه بالخروج على رأس العشرين، فجاءه جبريل فقال: إنما تطلب أمامك، فلزم المسجد وأمر أصحابه الذين اعتكفوا معه أن يعتكفوا، وأخبرهم بأنه يصلي صبيحتها في ماء وطين، وكان ذلك في ليلة الواحد والعشرين من رمضان في تلك السنة، ومع هذا استمر النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً بقية العشر.
الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اعتكف لفضيلة هذه العشر، وفضيلة الاجتهاد فيها، فكان يبذل صلى الله عليه وسلم فيها من الخير ما يبذله ويسابق فيها إلى أن أنواع وألوان من البر ينبغي للمؤمن أن يحرص عليه وأن يجتهد فيه، وأنا أقول: إن واقع اعتكاف كثير من إخواننا لا يحقق هذا الغرض ولا هذا المقصد، فتجدهم يشتغلون بألوان من الأشغال من الحديث والذهاب والمجيء، والاشتغال بمصالح خارجة عن ما لزموا المسجد من أجله، ولذلك أقول: ينبغي أن نحرص على تحقيق الغاية والمقصود، فنجد إذا حرصنا على امتثال هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف سنجد لهذا الاعتكاف أثراً في أخلاقنا، في قلوبنا، في معاملاتنا في إيماننا وصلاحنا، ولذلك لنحرص على الاعتكاف الذي كان يعتكفه صلى الله عليه وسلم من قراءة وتدبر واختناب النفس يعرض فيها الإنسان نفسه على كتاب ربه يناجي الله تعالى يستمطر منه الخير يسأله من فضله، كل هذا من أنواع الخير الذي ينبغي أن يحرص عليه المعتكف، وألا يشتغل بذهاب ومجيء لا سيما في المساجد التي تقتض بالمعتكفين: كالحرمين، والمساجد والجوامع الكبيرة تجد أن المعتكف لا يتذوق طعم الاعتكاف في كثير من الأحيان إلا من منّ الله عليه ودبر أموره على وجه يبعد عن التشويش والانشغال، وإلا فالغالب تنصرف هممهم إلى أمر غير ما أوقفوا أنفسهم له.
الاعتكاف سنة للرجال والنساء فقد أعتكف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها، لكن ينبغي في اعتكاف المرأة أن تحرص على أن يكون في مكان آمن تأمن به على نفسها تأمن من أن تفتن أو أن تفتن، وهذا أمرٌ لابد منه، ولابد من ملاحظته حتى يكون الاعتكاف على الوجه المرضي.
ينبغي أن يعلم المعتكف أنه لا يخرج من المسجد إلا لما لابد منه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج إلا لحاجة الإنسان كما في الصحيحين، ولا يخرج إلا لما لابد له منه كقضاء حاجة أو طعام إذا لم يتيسر أن يأتيه الطعام، أو اغتسال أو وضوء أو نحو ذلك من المصالح.
بعض العلماء يذكر مسألة الاشتراط ويقول: إن للمعتكف أن يشترط، وهذا قال به جماعة من أهل العلم، لكن الصحيح ينبغي أن نضيق دائرة الاشتراط فإن الاشتراط في الحقيقة يوسع الدائرة على الإنسان ويجعله يمكن أن يخرج في كل لحظة، وبهذا يفقد معنى الاعتكاف الذي هو لزوم بيت الله تعالى سواء كان المسجد الحرام، أو المدينة، أو الأقصى، أو المساجد العامة في الأمصار والبلدان.
لذلك أقول: ينبغي أن تضيق دائرة الاشتراط قدر الإمكان، ولو قيل بعدم صحة الاشتراط لمنافاته الاعتكاف لكان هذا قولاً وجيهاً قد قال به جماعة من أهل العلم.
المهم أيها الإخوة والأخوات! أوصيكم يا من قصدتم الاعتكاف أن تحرصوا على هدي النبي صلى الله عليه وسلم والاعتكاف يبدأ من أول العشر وهو بغروب شمس يوم العشرين، وينتهي بإعلان نهاية الشهر إما برؤية الهلال والرؤيا في ليلة الثلاثين، أو بإكمال العدة بأن تغرب شمس يوم الثلاثين، وبهذا ينتهي الاعتكاف بعد ذلك للمعتكف أن يخرج، وأما قول بعض الفقهاء: إنه يبقى ويذهب إلى العيد بثياب معتكفه، هذا لا دليل عليه.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يعيننا وإياكم على الصالحات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.