(الحلقةُ العشرونَ)
اغتنامُ العشرِ الأواخرِ منْ رَمضانَ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أحمدهُ جلَّ في عُلاهُ حمْدَ الشاكرينَ، وأُثني عليهِ الخيرَ كلهُ ثناءَ المقرِّينَ بفضلهِ، وجليلِ إحسانِهِ وإنعامِهِ، لا أُحصِي ثناءً عليهِ كَما أَثْنىَ علىَ نفسهِ.
وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ إِلَهُ الأوَّلِينَ والآخرينَ، وأشْهدُ أنَّ محمَّداً عبدُ اللهِ ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وعلَى آلهِ وصحبهِ، ومنِ اتبعَ سُنتهُ بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
فمرحَباً وأهْلاً وسهْلاً بكمْ أيُّها الإخوةُ والأخواتُ حيَّاكمُ اللهُ وجعلَ اللهُ تعالَى أيامكُمْ وَلياليكمْ أيَّامَ سَعْدٍ ومَسَرَّاتٍ، أَيامَ خيرٍ وبِرٍّ تعْلُونَ بهِ في أَعْلَى المراتبِ والمنازلِ عنْدَ ربِّ الأرْضِ والبريِّاتِ.
أَيُّها الإخوةُ والأخواتُ رَوَى البخارِيُّ ومسلمٌ في صَحيحيْهِما عنْ عائِشَةَ رضِيَ اللهُ عنْها حِبِّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ وزوْجهِ أَنَّها قالتْ وَهِيَ تَصِفُ حالَ سَيِّدِ ولَدِ آدمَ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ في هذهِ الليالِي ليالِي العَشْرِ تقولُ: كانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إِذا دخلَ العشرُ تُرِيدُ العشْرَ الأواخِرَ مِنْ رَمضانَ شَدَّ المئزرَ وَأَحْيا ليلهُ وأيْقظَ أهلهُ.. هكَذا هيَ سنةُ الحبيبِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ، هكذا هيَ سُنَّةُ المصطفَى نَبِيِّنا محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
تأمَّلْ هذا الوصْفَ الجامعَ لخصالِ البرِّ المختصرِ للسعْيِ الراشدِ الَّذي كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم يفعلُهُ في هذهِ الليالِي والأيامِ:
فَطُوبَى لمنْ كانتْ التَّقْوى بِضاعتهُ في شَهْرِهِ وبحبْلِ اللهِ مُعْتَصِمٌ
يا لَها منْ بِضاعةٍ عظيمةٍ أمرَ اللهُ تعالَى بالتزوُّدِ إليهِ بِها فتزوَّدُوا يا إِخوانِي ويا أَخواتِي تزوَّدُوا هذهِ أَيَّامُ التَّزوُّدِ: «تَزَوَّدُوا فإنَّ خيرَ الزَّادِ التَّقْوَى» النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ كانَ يشُدُّ المئزرَ استعانةً بذلكَ علَى الطَّاعةِ والإحْسانِ علَى القيامِ والإخْباتِ علَى الإقبالِ عَلَى اللهِ جَلَّ في عُلاهُ وَهُوَ مَنْ هُوَ، هُوَ الَّذي قالَ اللهُ تَعالَى لهُ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾[الفتح:1] * ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾[الفتح:2]، غَفرَ اللهُ لهُ ما تقدَّمَ مِنْ ذنبهِ وما تأخَّرَ بشَّرَهُ بهذهِ البشارةِ في العامِ الثَّامنِ وهُوَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ علَى حالهِ لَمْ يتغيَّرْ في عُبودِيَّتِهِ لربهِ تقولُ عائشةُ: كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقومُ حتَّى تَنتفخَ قدماهُ.
وفي روايةٍ: رجلاهُ. فكنتُ أقولُ لهُ: أتفعلُ هَذا وقدْ غفرَ اللهُ لكَ ما تقدمَ مِنْ ذنبكَ وما تأخَّرَ؟ فكانَ يجيبُ جوابَ المقرِّ بفضلِ اللهِ وَإِنعامهِ: «أَفَلا أكونُ عبْداً شَكُوراً».
ومثلُهُ ما رواهُ المغيرةُ بنُ شعبةَ رضيَ اللهُ عنْهُ حيثُ قالَ: كانَ النبيُّ صلَّىَ اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُقيمُ الليلةَ حتَّى ترِمَ قدماهُ.
وفي رِوايةٍ: ساقاهُ. فقيلَ لهُ في ذلكَ؟ فقالَ: «أَفلا أكونُ عبْداً شكُوراً» إنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ كانَ في حياتِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ صاحبَ قيامٍ وصاحبَ عبادةٍ وصاحبَ طاعَةٍ وصاحبَ إِحْسانٍ، لم يكنْ فَقطْ في العَشْرِ الأواخرِ مِنْ رمضانَ، بلْ كانَ هَكَذا في كلِّ أيامهِ، ولذلكَ كانَ عملُهُ ديمةً صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وكانَ إذا عملَ شيئاً منَ الصالحاتِ أثبتَهُ حتَّى إنهُ تركَ في سنةٍ منَ السنواتِ الاعتكافَ في عامٍ منَ الأَعوامِ لعارضٍ فقضاهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ في شوَّالَ، وكانَ إذا نامَ عنْ حزبهِ منَ الليلِ لمرضٍ أو شُغلٍ قضاهُ منَ النهارِ ثنتْي عشرةَ ركْعةً، بأبِي هوَ وأُمي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، هذهِ حالهُ وهَذا عملهُ، معَ هَذا كانَ يُضاعفِ ُالجُهْدَ في هَذا الزمانِ المباركِ، فيزدادُ طاعةً وإحساناً وقُرْباً مِنَ اللهِ جلَّ وَعلا وتقَرُّباً إِليهِ بأنواعِ القُرباتِ منَ الصَّلاةِ من تلاوة القرآنِ من الدعاءِ منْ مُدارسةِ القرآنِ منَ الإحسانِ والجودِ مِنَ الصَّيامِ مِنْ كلِّ بابٍ منْ أبوابِ الخيرِ: «اتَّقُوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ، فمنْ لمْ يجدْ فبِكَلِمَةٍ طَيِّبةٍ» ليسَ بيْنَنا وبينَ اللهِ تعالَى حجابُ يَمنعُنا منَ التقرُّبِ إِلَيهِ، بل قدْ قالَ اللهُ تعالَى كَما في الحديثِ الإلهيِّ: «منْ تقرَّبَ إِليَّ شبْراً تقربّْتُ إليهِ ذِراعاً، ومنْ تقرَّبَ إليَّ ذِراعاً تقرَّبْتُ منهُ باعاً، ومنْ أتانِي يمشِي أتاهُ اللهُ جلَّ في علاهُ هرولةً» وهَذا منْ فضلهِ وكرمهِ وعظيمِ إحسانهِ وبرِّهِ لعبادهِ لذلكَ أقولُ: شمِّرُوا أيها الإخوةُ وأيَّتُها الأخواتُ، شَمِّرُوا في هذهِ الأيَّامِ اسأَلُوا اللهَ تعالَى منْ أنفُسكُمْ خيْراً:
فما هِيَ إلَّا ساعةٌ ثمَّ تَنقضِي ويصبحُ ذُو الأَعْمالِ فرحانَ جاذِلاً
ما هيَ إلا سُوْيعاتٌ وليالِيَ مَعدوداتٌ تنقضِي سريعاً لكنِّها تنقَضِي وَالنَّاسُ فِيها عَلَى حالَيْنِ: فائزٌ مبشَّرٌ يُهَنَّأُ بِفضلٍ منَ اللهِ وعطاءٍ كبيرٍ.
ومقصِّرٌ غافلٌ: ذاكَ الَّذي يقالُ لهُ: قدْ فاتكَ الخيرُ وإنكَ لمحرومٌ.
أيها الإخوةُ والأخواتُ، بادِرُوا إلَى الأعْمالِ الصالحةِ في هذهِ العشرِ الأخيرِ منْ رمضانَ، واعلمُوا أنَّ مِنَ الخيرِ الَّذِي ينْبَغِي ألا نغفلَ عنهُ أنْ نقُومَ علَى أهْلِينا بالتَّوْجيهِ والنُّصْحِ والحثِّ والإرْشادِ، وتأمَّلْ قَولَ عائشةَ كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا دخلَ العشرُ شدَّ المئزرَ، وأَحْيا. سهِرَ أكْثَرَ اللَّيْلَةِ لَكنْ في القِراءةِ والتِّلاوةِ والصَّلاةِ والتَّهجُّدِ والاستغفارِ والعبادةِ ليسَ في اللَّهوِ والذهابِ والمجيءِ إنَّما في الطَّاعةِ والإحسانِ.
ثُمَّ تقولُ: «وأيقظَ أهلهُ» فأينَ نحنُ عنْ أهِلينا، وَعنْ أولادِنا وأزْواجِنا، ومَنْ هُمْ تحْتَ أَيِدينا، إنَّ كثِيراً منَ الناسِ يشتغلُ بنفْسِهِ عنْ ما يَنبغِي أنْ يَعْتَنِيَ بهِ منْ نُصحِ أهلهِ وإرشادهِمْ والقيامِ عليهمْ، لما يُعينهمْ علَى الطاعةِ اللهُ تَعالَى يقولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[التحريم:6]هَذا في جانبِ الوقايةِ.
وفي جانبِ الحثِّ علَى الخَيْرِ: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾[طه:132].
إذاً مِنَ الضرورِيِّ أنْ نَنْتَبهَ لأهْلِينا في هَذهِ الأيَّامِ المبارَكَةِ، وفي هَذهِ اللَّيالِي الفاضِلةِ، وأنْ نحثَّهُمْ عَلَى الخيرِ وأنْ نُرغبهمْ فِيهِ كَما يقولُ كثيرٌ منَ الآباءِ والأُمَّهاتِ علَى أولادهمْ في أيامِ الاختباراتِ ويحثُّونَهُمْ عَلَى الاجْتهادِ والمثابرَةِ والمذاكَرَةِ والمراجعةِ ويُتابعونَهُمْ في ذلكَ، ينبغِي أنْ يتفقَّدُوا أولادهمْ في هذهِ العشرِ وفي رمضانَ عُموماً، وفي مواسمِ الخيرِ علَى وجْهِ العمومِ، كيفَ همْ؟ كَيْفَ طاعتُهُمْ؟ كيفْ إقبالُهُمْ علَى اللهِ؟ كيفَ اجتهادهُمْ في الخيْراتِ، كيفَ اجتهادهُمْ في أَداء الواجباتِ بأنَّ كثيراً منَ النَّاسِ يضيعُ الواجباتِ وقدْ يشتغلُ ببعضِ المستحبَّاتِ والنوافلِ، واللهُ تعالَى جاءَ عنهُ في الحديثِ الإلهِيِّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: «يقولُ اللهُ تعالَى: وما تقرَّبَ إِليَّ عبْدِي بشيءٍ أحبَّ إِليَّ مِمَّا افترضتهُ عليهِ، ولا يزالُ عبدِي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتَّى أحبَّهُ، فإذا أحببتُهُ كنْتُ سمعَهُ الَّذي يسمعُ بِهِ، وبصرهُ الَّذِي يبصرُ بهِ، ولئنْ استعاذنِي لأعيذنَّهُ، ولئِنَ اسْتَنصْرَنِي لأنصرُنَّهُ».
هَذا البيانُ منَ اللهِ تعالَى يُبيِّنُ لَنا أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ نهتمَّ بأداءِ الواجباتِ، كثيرٌ منَ النَّاسِ يقصِّرُ في الصَّلَواتِ المفروضةِ، كثيرٌ منَ النَّاسِ يُقصِّرُ في حُقُوقِ اللهِ في حقوقِ الخلْقِ مِنَ الوالديْنِ وَغَيرهمْ، فلذلكَ أقولُ: كَمِّلْ حقَّ اللهِ تعالَى واجتهدْ في الصالحاتِ وارقبِ الفضلَ مِمَّنْ بيدهِ الفضلُ، فاللهُ تعالَى كريمٌ جليلٌ عظيمٌ يعطِي عطاءً واسعاً بلْ يداهُ مبسوطَتانِ جلَّ في عُلاهُ ينفقُ كيفَ يشاءُ، ومنْ فضلهِ أنَّهُ يُعطي الجنَّةَ، والَّذي يُعْطِي الجنَّةَ لنْ يبخلَ بِما دُونَها، فاسْألِ اللهَ منْ فضلهِ واجتهِدْ في التقرُّبِ إليهِ بكلِّ بابِ برٍّ وخيرٍ، وستجدُ مِنَ اللهِ تعالَى ما تؤمَّلُ، أسألُ اللهَ جلَّ في عُلاهُ ألا يُخيبَ سعْينا، وأَنْ يَقبلَنا وإيَّاكُمْ، اللَّهمَّ وفِّقْنا لقيامِ ليلةِ القدْرِ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهمَّ وفِّقْنا لِقيامِ ليلةِ القدرِ وارزُقْنا فيهِ الصَّالحَ منَ العملِ، اللهمَّ اجْعلنا فيها منَ المقبولِينَ وأعِنَّا فِيها علَى الصَّالحاتِ يا ذا الجَلالِ والإِكْرامِ.
وصَلَّى اللهُ وسلَّمَ علَى نبِيِّنا محمدٍ.