(الحلقة الحادية والعشرون)
أثر الصيام على الإنسان
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه وبحمده، لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله وعليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزيكم الأجر الكبير والعطاء الوفير، وأن يبلغكم ما تؤمنون من المغفرة والرحمة والفوز والنجاة إنه سميع قريب مجيب.
أيها الإخوة والأخوات! الصوم عبادة جليلة من أجل العبادات التي تترك آثاراً في نفس الصائم، وتترك آثاراً حميدة في مسلكه وخلقه وسائر عمله، ولهذا جاءت النصوص في بيان أن الصوم الحقيقي هو ذاك الذي يكف فيه الإنسان نفسه عن ما يغضب الله جل وعلا، يقول النبي صلى الله وعليه وعلى آله وسم فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».
وهذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم يبين أهمية العناية بأثر هذه العبادة الجليلة، وأنه ينبغي أن يتلفت الإنسان وأن يبحث عن أثر هذه العبادة في قوله وفي قلبه وفي عمله وفي سائر شأنه لأن الصوم حجز للنفس عن المشتهيات، لهذا كان جزاؤه كجزاء الصوم، جزاء الصوم كجزاء الصبر، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[الزمر:10].
فأكبر ما يستفيده المؤمن من خلال الخير وخصال البر بصومه أن يتصبر وأن يتعود على الصبر، والصبر جاءت النصوص متوافرة ومتنوعة في بيان فضيلته، وجزيل أجره، وحميد عاقبة أهله، وجاءت آمرة به وحاثة عليه وناهية عن ضده، جاءت تبين أثره في مسلك الإنسان وعمله، ولهذا بلغ عدداً كبيراً في الذكر في آيات الله تعالى وقوله حتى إن الإمام أحمد رحمه الله قال: ذكر الله تعالى الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعاً، هذا لبيان أهميته وعظيم فضله وكبير منزلته، فنحن بحاجة إلى الصبر، بحاجة إلى الصبر لنحقق طاعة الله تعالى، ونمتثل أمره ونقوم بما فرض الله علينا من الفرائض، ونتقرب إليه بأنواع النوافل، بحاجة إلى الصبر لنمنع أنفسنا عن مشتهياتها وملذاتها، بحاجة إلى الصبر لنستعين به على تحمل ما ينزل بنا من مما لا نحب، ومما نكره، فإن الإنسان بحاجة إلى الصبر في هذه النواحي كلها:
صبر على طاعة الله تعالى.
صبر عن معصية الله جل في علاه.
صبر على أقدار الله المؤلمة، فإنه إذا لم يصبر كان ذلك موقعاً له في ألوان من الشر والفساد في أمر دينه انتهاكاً للمأمور، ووقوعاً في المحذور، وأيضاً عدم صبر على قضاء الله وقدره.
الصبر خلق مكتسب يستطيع الإنسان أن يكتسبه، ولذلك جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ومن يتصبر يصبره الله» نحن بحاجة إلى هذا الخلق في مسلكنا حتى في أمر دنيانا ونحن مثلاً في قضاء حوائجنا في الوصول إلى غايتنا الدنيوية نحتاج إلى صبر، الصبر به يدرك الإنسان فوز الدنيا ونجاة الآخرة لا سبيل لإدراك المطالب إلا بالصبر، الزارع يلقي البذر في الأرض، ثم يتعاهده ويصبر إلى أن يأتي النتاج من حصاد أو جني الثمار إذا كان شجراً يقوم عليه، هذا يدل على أن المسائل لا تأتي هكذا دون معالجة، ومصابرة حتى يدرك الإنسان غايته، لهذا من أجل فوائد الصوم أن يتربى الإنسان على الصبر، هذا خلف مكتسب رفيع جعل الله تعالى الفوز قرينه والبشارة لأهله فقال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾[البقرة:155].
بشر الصابرين بكل خير لم يذكر ما هي البشارة، هل هي بالجنة، هل هي بالسعادة، هل هي بفوز الدنيا، هل هي بالنجاة من المكروهات، البشارة تشمل كل ذلك فكله مما يبشر به الصابرون، والله تعالى أعطاهم أجراً لا حد له ولا منتهى وعواقب الصبر حميدة في هذه الدنيا قبل الآخرة.
الصبر مثل اسمه مرٌ مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
فذلك ينبغي أن نستفيد من هذه العبادة، وأن نربي أنفسنا على الصبر، وأن ننقل هذا ليس فقط في هذا الوقت من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، إن هذه فترة من المصابرة يصبرها المؤمن على طاعة الله تعالى ويصبر عن معصية الله هي نوع من التدريب للنفس، هي نوع من التصبر الذي يدرك الإنسان به الخير في بقية أيامه وفي سائر عمره.
واعلموا يا إخوتي ويا أخواتي، أنه ما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً ولا أوسع من الصبر.
والله تعالى أمر المؤمنين بل أمر المرسلين بل أمر أشرف خلقه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر فقال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾[الكهف:28].
﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾[الأحقاف:35] في آيات عديدة يوجه الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر لحاجته إليه في تبليغه رسالة ربه وفي القيام بما أمره الله تعالى أن يقوم به، ولأهمية الصبر أمر الله تعالى به مكرراً في ختم آيات آل عمران فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾[آل عمران:200] ثم قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[آل عمران:200] هذا النتاج، وهذه الثمرة، ولهذا ينبغي أن يكون لصيامنا أثرٌ على سلوكنا، ينبغي أن يكون لصيامنا زكاء في أعمالنا، الله تعالى ما شرع هذه العبادات ولا فرض هذه الشرائع، ولا طلب عباده أن يفعلوا ما يفعلون من الصالحات ويمتنعوا عن ما يمتنعون منه من السيئات إلا لغاية ومقصد وغرض ألا وهو تزكية النفوس، وتطييبها، ومن أجل ما تزكى به النفوس أن تتحلى بالصبر الذي هو رأس الأمر، وأعلى ما يكون في فضائل الأخلاق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد: «وما أعطي أحدٌ عطاء خيراً وأوسع من الصبر» فهو خير عطاء وأوسع عطاء لأن به يدرك كل خير في أمر دينه وأمر دنياه بخلاف ذاك الذي لا صبر له فإنه يطيش في قوله، ويخطئ في عمله، ويضجر في سعيه، ولا يتحمل ما يمكن أن يصيبه من المصائب وما ينزل به من البلايا، فتجده جزوعاً ضجوراً غضوباً منتهكاً للمحرمات ومفرطاً في الواجبات في حق الله وفي حق العباد، وإذا عود الإنسان نفسه على هذه الخلة اكتسب منه واجتمع له خصال عديدة من خصال الخير، وحصل بذلك كبيراً من الفضائل، فالصبر مفتاح الفضائل إذا وفق إليه، وهذا معنى ما قيل الصبر رأس الإيمان، فإنه لا إيمان لمن لا صبر له، وذلك أنه لا يتحقق الإيمان على وجه الكمال إلا بالصبر لأن الإيمان يحتاج إلى أن يصبر الإنسان نفسه عن ملذاته وشهواته، وإذا أطلق لنفسه العنان أدرك بذلك شيئاً من اللذة الحاضرة، ولكنه سيدرك سوء المنقلب وشؤم العاقبة: ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[الحجرات:11].
ولهذا أنا أقول: يا إخواني ويا أخواتي، لنحرص ولنبذل الجهد في غاية جهدنا في تزكية أنفسنا وتطييبها، وأن نلحظ هذا المعنى في صومنا أنه يزكي أخلاقنا، ويطيب أعمالنا، ويكسبنا أكبر الفضائل ألا وهو الصبر.
اللهم اجعلنا من عبادك الصابرين، وفقنا إلى خير الخِلال وأكملها، تقبلنا في عبادك وأوليائك وأعنا على الصالحين من الطاعات، واصرف عنا السيئات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.