(الحلقةُ الثانيةُ والعشرونَ)
المسابقةُ في فعلِ الخيراتِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، تفضلَّ علَى عبادهِ بِمواسمِ الخيراتِ، لهُ الحمدُ في الأُولَى والآخرةِ، ولهُ الحكمُ وإليهِ تُرجَعُونَ، أحمدُهُ حقَّ حمدهِ لا أُحْصِي ثناءً عليهِ كَما أَثْنَى علَى نفسِهِ.
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ إلهُ الأولينَ والآخرينَ ربِّ العالمينَ لا إلهَ إلَّا هُوَ الرَّحمنُ الرَّحِيمُ.
وأشهدُ أنْ مُحَمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، لمْ يتركْ خَيراً إِلَّا دلَّنا عليهِ وَلا شَرَّاً إِلَّا وحذَّرَنا منهُ فصَلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ ومنِ اتبعَ سُنتهُ بإِحسانٍ إلَى يومِ الدِّينِ.
أما بعدُ:
فمرحباً بكمْ وأهلاً وسهْلاً أيها الإخْوَةُ والأَخواتُ وأسأَلُ اللهَ العَظِيمَ ربَّ العرشِ الكريمِ أنْ يجعلني وإياكُمْ مِنَ المقْبولينَ، وأنْ يرزُقَنا وإياكُمْ عملَ الصالحينَ، وأنْ يختمَ لَنا وإياكُمْ بِالسَّعادةِ والشَّهادةِ إنّهُ ولِيُّ ذلكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعواتِ.
أيها الإخوة والأخوات! هذه العشر المباركة دوحة يتسابق فيها المتسابقون إلى الله تعالى:
وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم وعانق المجد من أوفى ومن صبرا
فضل الله واسع يبلغه قوم منّ الله عليهم بالصبر والمصابرة، والبذل والعطاء، والجهد في طاعة الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[العنكبوت:69].
فضائلُ عظيمةٌ وهِباتٌ كبيرةٌ وعطايا غزيرةٌ في ليالِي قصيرةٍ، وفي ليالي يسيرَةٍ، فاللهَ اللهَ اغْتَنِمُوا هذهِ العشْرَ فيما يرضِي اللهَ تعالَى عنكُمْ، فِيما تَبْيَضُّ بهِ وجوهُكُمْ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾[آل عمران:106] هذه الليالي ليالي سريعَةُ التَّقَضِّي إذا مضتْ لمْ تعُدْ، وَهَذا هُوَ شأْنُ الزَّمانِ، لكِنْ مواسمُ الخيراتِ يُشعرُ المؤمنَ بِفقدِها، وبتقضِّيها وذهابِها، وإنَّهُ يوَفَّى الصابرُونَ أجرَهُمْ لصبرهمْ وبلُوغهمْ طاعَةَ اللهِ تعالَى، فاصبِرُوا وتقدَّمُوا إلَى الطَّاعاتِ: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾[الحديد:21].
وَالمسارعةُ أمْرُ اللهِ تعالَى بِها في كتابهِ: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ﴾[آل عمران:133].
السيرُ إلَى اللهِ جلَّ في علاهُ سيرٌ حثيثٌ، سيرٌ ينبغِي أنْ يبذلَ الإنسانُ فيهِ جهدهُ، أنْ يُدْركَ الطاعاتِ وأنْ يستبِقَها: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[المائدة:48]استباقٌ بإدراكها قبل فواتها، وذهابها قبل أن يخسرها الإنسان، وإذا شعر المؤمن بأنه في مضمار سباق، وليس في مكان ركود، وأيام قعود إنما هي ليالي وأيام تتوالى تتقضى حتى يبلغ الكتاب أجله، وإذا بلغ الكتاب أجله عند ذلك: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[المنافقون:11].
فَينْبَغِي لَنا أنْ نغتنمَ هذهِ اللَّيالِي، وأنْ نَجْتَهِدَ فِيها بكلِّ خيرٍ نستطيعُهُ، وَهَذا يتفاوتُ فيهِ النَّاسُ، لكنِ اضْربْ بسهمٍ في كلِّ بابٍ منْ أبوابِ البرِّ فَلا تدرِي منْ أيِّ بابٍ تلجُ، ولا تدْري بأيِّ عَمَلٍ تُقبلُ، واللهُ جلَّ في علاهُ يُعطِي علَى القليلِ الكثيرَ، أدخلَ امرأةً النارَ في هرَّةٍ، وأدْخَلَ امرأةً الجنةَ في كلبٍ سقتهُ، ترجُو ثوابَ اللهِ وترحمُ هَذا الَّذي رأتْ منهُ مبْلَغاً عظيماً منَ العَطَشِ والرَّاحِمُونَ يرحمهمُ اللهُ.
فجاهِدُوا أنفسكمْ في كلِّ بابٍ منْ أبوابِ الخيرِ، هذهِ أيامٌّ وليالِي مباركةٌ يَتَقرَّبُ فِيها المتقرِّبُونَ إِلَى اللهِ تَعالَى بألوانِ الطَّاعاتِ منَ الاعتكافِ والقِيامِ والإحْسانِ وقراءةِ القُرْآنِ والدُّعاءِ وسائرِ صفاتِ البرِّ وأبوابِ الخيرِ، وإنَّ النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ كُلَّما تقضَّى زمانٌ منْ هذهِ اللَّيالِي ازدادَ جُهْداً في طاعةِ اللهِ، فَفِي المسندِ والسُّنَنِ منْ حديثِ أبِي ذرِّ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ صلَّى بأصحابهِ في سابعةٍ تبقَى ليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ، فصلَّى بهمْ شَيْئاً مِنَ اللَّيْلِ إلَى شطْرِ اللَّيْلِ، وصلَّى بهمْ في ليلةٍ ثانيةٍ فَزادَ قليلاً، وَهذا في خامسةٍ تبقَى وفي ثالثَةٍ تبقَى يقُولُ أبُو ذرٍّ: فصلَّى بِنا حتَّى خشِينا الفلاحَ يعْنِي خشِينا ألَّا نُدْرِكَ السُّحُورَ، وَهَذا معَ مُضِيِّ الوقتِ وتقضِي الزَّمانِ وَذَهابِ هذهِ الليالِي المبارَكةِ ينبغِي أنْ يَبذُلَ الإنسانُ جهدهُ، أنْتَ الآنَ لوْ كنتَ في مِضْمارِ سباقٍ وأشرفْتَ علَى بلوغِ الغايةِ وقاربتَ النهايةَ، كيفَ يكونُ سعيكَ أتتباطَأُ في السيرِ وتَتَلَكَّأُ في المشيِ، أمْ تبذُلُ كُلَّ طاعةٍ تستطيعُها، وكلَّ جَهْدٍ تؤتاهُ، وكلَّ عملٍ تستطيعهُ لإدراكِ الغايةِ والسبْقِ إِلَى الهدفِ الَّذِي تريدُهُ، نحْنُ نتسابقُ ونسيرُ في مضمارٍ فاللهَ اللهَ في السَّبْقِ إليهِ جلَّ في عُلاهُ، إمامُنا خَيرُ الخلقِ نبيِّنا محمدٍ صلَِّى اللهُ عليهِ وسلمَ كانَ إذا دَخَلَ العشرُ اجتهدَ فيها ما لا يجتهدُ في غيرِهِ، وكانَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقومُ حتَّى تتورمَ قدماهُ، وكانَ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا دخلَ العشْرُ أحْيا ليلهُ، وأيقَظَ أهلهُ، وشدَّ المئزرَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
هكَذا كانَ عملهُ معَ عظيمِ ما مَنَّ اللهُ عليهِ مِنْ مغفرةِ الذُّنُوبِ وحَطِّ السَّيئاتِ ورِفعةِ الدَّرجاتِ: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾[الشرح:1] * ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾[الشرح:2] * ﴿الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾[الشرح:3] * ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾[الشرح:4]، فأتاه الله فضائل كبيرة: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾[الفتح:1] * ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾[الفتح:2].
هَذا كانَ في غايةِ المسابقةِ والجهادِ والاجتهادِ في مرضاةِ اللهِ تعالَى فلنجاهدْ أنفَسنا علَى تلاوةِ كِتابِ اللهِ في هذهِ الليالِي المباركةِ علَى الإكثارِ منَ الطاعَةِ والإحسانِ في كلِّ أبوابِ الخيرِ لا سِيَّما القيامُ فإنَّ القِيامَ وتحرِّي ليلةَ القدْرِ في هذهِ اللَّيالِي منْ أجَلِّ الأعمالِ، وإنَّ ليلةَ القدرِ ليلةٌ شريفةٌ فاضلةٌ كبيرةٌ عظيمةُ المنزلةِ والقدْرِ تحَرَّاها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وتعلَّقَ بِها قلبهُ وقُلوبُ أصحابهِ، فينبغِي أنْ نجتهدَ في هذهِ الليالِي بِقراءةِ القُرآنِ وبالإحسانِ وبالقيامِ فإنَّهُ عِبادةٌ جليلةٌ: «منْ قامَ رمضانَ إيماناً واحْتساباً غُفِرَ لَهُ ما تقدمَ مِنْ ذنْبهِ».
«ومنْ قامَ ليلةَ القدْرِ إيماناً واحْتِساباً غُفِرَ لهُ ما تقَدَّمَ مِنْ ذنْبهِ».
الدعاءُ فإنهُ بابٌ عظيمٌ منْ أبوابِ الخيرِ، وقدْ حثَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمِ أصحابَهُ علَى الدُّعاءِ، وبيَّنَ لهمْ فضيلَةَ السُّؤالِ والطلبِ، وهُوَ بِأبِي هُوَ وَأُمِّي صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ كانَ إمامَ الدَّاعِينَ، فكانَ يدْعُو اللهَ تعالَى ويسألُهُ ويتضرعُ إليهِ، ويطيلُ في الدُّعاءِ لا سِيَّما في مقامِ طلبِ العفْوِ والمغفرةِ: اللَّهمَّ اغفرْ لِي ذنبي كلَّهُ، دِقَّهُ وجِلَّهُ، صغيرَهُ وكبيرَهُ، علانيتَهُ وسرَّهُ، أولَهُ وآخرَهُ، هَكَذا يطنِبُ ويُفَصِّلُ في مقامِ سؤالِ المغفرةِ وطلبِ العفْوِ والتجاوُزِ، وينبغِي أنْ نكونُ علَى هديِهِ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلمَ ولما قالَ لهُ صِدِّيقُ الأمةِ أبُو بكرٍ رضِيَ اللهُ عنهُ خيرُ النَّاسِ بعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وبعدَ النبيينَ لما قالَ لهُ: علِّمنِي دُعاءً أدعُو بهِ في صلاتِي، قالَ: «قلْ اللَّهُمَّ إِني ظلمتُ نفسِي ظُلماً كبيراً، وإنهُ لا يغفِرُ الذنوبَ إلا أنتَ فاغفِرْ لِي مَغْفِرةً مِنْ عندِكَ وارْحمني إنك أنتَ الغَفورُ الرَّحيمُ».
هكَذا يُعلمُ خيرُ الأنامِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ صِدِّيقَ الأُمَّةِ هذا الدُّعاءَ الَّذي فيهِ الذُّلُّ والانكسارُ والانخلاعُ مِنْ كُلِّ عُجْبٍ وكِبْرٍ، ينبغِي أنْ نُرَدِّدَهُ في أَدْعِيتِنا وصلاتِنا وسائِرِ شأْنِنا، وأنْ نَتَقرَّبَ إِلَى اللهِ فهذهِ فُرْصَةٌ لا تَدرِي هلْ تُدْرِكُها من عامٍ آخرَ أوْ لا، كلمةٌ تقرعُ أَسْماعَنا، وقدْ تؤثِّرُ في بعْضِنا، لكنَّ بعضَ الناسِ تمرُّ عليهمْ كأنَّها لا شيءٌ، والآجالُ عندَ اللهِ تعالَى فكمْ منْ إنسانٍ أدركَ أوَّلَ الشَّهرِ ولمْ يُدركْ آخِرَهُ، وكَمْ مِنْ إِنسانٍ أَمَّل إِدْراكَ الشَّهْرِ ولمْ يُدْركهُ، وكمْ وكمْ إِذا رأىَ الإنسانُ ممنْ حولهُ اعتبرَ واتعظَ، فينبغِي لَنا أنْ نُبادرَ وأنْ نبذُلَ الجهدَ في هذهِ الليالِي اليسيرةِ لعلَّ اللهَ أنْ يجعلكَ منَ المقْبولينَ.
اللهُمَّ إنَّا نسألُكَ بأسمائكَ الحسْنَى وصِفاتكَ العُلَى أنْ توفِّقَنا لِقيامِ ليلةِ القدْرِ، اللهُمَّ وفِّقْنا لِقيامِها، وأعِنَّا علَى الصَّالحِ منَ الأَعْمالِ يا ذا الجلالِ والإِكْرامِ، اللهُمَّ وفِّقْنا إِلَى ما تُحِبُّ وَتَرضَى خُذْ بِنواصِينا إلَى البِرِّ والتقْوَى، أصلحْ قُلُوبَنا وأقمْنا علَى سُنَّةِ نَبِيِّك وحبيبكَ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ، واسلُكْ بِنا سبيلَ الرَّشادِ يا ذا الجلالِ والإكرامِ.
وصَلَّى اللهُ وسلَّمَ علَى نبينا مُحَمَّدٍ وعلَى آلِهِ وأَصْحابِهِ أجمعينَ.