(الحلقةُ الرابعةُ والعشْرُونَ)
اغتنامُ العشرِ الأواخرِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أحمدهُ جلَّ في علاهُ، وأثْنِي عليهِ الخيرَ كلهُ، لهُ الخلقُ والأمرُ تباركَ اللهُ أحسنُ الخالقينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وربكَ يخلقُ ما يشاءُ ويختارُ ما كانَ لهمُ الخِيَرَةُ سبحانهُ وتعالَى عمَّا يشركونَ.
وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، صفيهُ وخليلُهُ، وخيرتُهُ مِنْ خَلقهِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبهِ ومنِ اتَّبعَ سُنَّتهُ بإحْسانٍ إلىَ يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
فأهْلاً وسهْلاً ومرحَباً بكمْ أيُّها الإخوةُ والأخَواتُ
وَأسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرشِ الكريمِ أنْ يجعلَني وَإِيَّاكمْ منَ المقبولِينَ، وأنْ يوفِّقنا إلَى صالحِ العملِ، وأنْ يُعينَنا علَى الصالحاتِ، وأَنْ يصرِفَ عَنَّا المعاصِي والسَّيِّئاتِ.
أيُّها الإخوةُ والأخواتُ ليلةُ القدرِ ليلةٌ تَخْفقُ لَها تَهْفُوا إليْها نفوسُ المؤْمنينَ، وتشرئِبُّ لَها قلوبُ العارفينَ الَّذينَ يرجونَ العطاءَ الكبيرَ والنوالَ العظيمَ إنَّهمْ يتطلعُونَ لهذهِ الليلةِّ، ويتشوَّفُونَ لإدراكِها، فهيَ همُّهمُ الَّذي يَشغلهُمْ، وَلِهذا كانتْ رُؤاهمْ رضيَ اللهُ عنهمْ في هذهِ الأَيَّامِ عنْ هذهِ القضِيَّةِ: مَتى لَيلةُ القدرِ؟ وقدْ تَواطأَتْ رُؤىَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهمْ أنَّها في السَّبْعِ الأواخرِ بِغَضِّ النظرِ عنِ التَّحْديدِ، لكنَّ الَّذي يهمُّنا هوَ اهْتمامهمْ فإِنَّ رُؤاهمْ هِيَ دليلُ ما شغلَ قلُوبهمْ وأهمَّهمْ وكانَ في أذْهانهمْ، فتواطأَتْ رُؤاهمْ عَلى السَّبْعِ الأواخرِ مِنْ رمضانَ، وقدِ اختلفَ العلماءُ رحمهمُ اللهُ في تعيينِ ليلةِ القدرِ:
فمنهمْ منْ قالَ: إنَّها في العامِ كلِّهِ، كَما جاءَ في الصَّحيحِ منْ حدِيثِ عبْدِ اللهِ بنِ مسعودٍ منْ قولهِ رضيَ اللهُ عنهُ: أنهُ منْ قامَ العامَ فقدْ قامَ ليلةَ القدْرِ.
وكان أُبي قدْ فقِهَ ما أرادهُ ابنُ مَسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ فقالَ: إنَّما أرادَ ألَّا يتَّكلَ الناسُ، لقدْ علمَ إِنَّها في رمَضانَ، وأَنَّها ليلَةَ سبعٍ وعشرينَ، هَذا رأْيُ أُبيٍّ رضيَ اللهُ عنهُ، فمنَ العلماءِ منْ قالَ: إنَّها في العامِ كلهِ.
ومنهمْ منْ قالَ: إِنَّها في ليلةِ سبعٍ وعشرينَ.
وهذا أوسَعُ الأقوالِ وهَذا أحصرُها وأضْيقُها، وأُبَيُّ بنُ كعبٍ رضيَ اللهُ عنهُ كانَ يقولُ: ليلةُ القدرِ ليلةُ سبعٍ وعشرينِ، ويحلفُ ولا يَستثنِي، وَلما قِيلَ لهُ: كيفَ عرفتَ؟ قالَ: عرفتُها بالعلامةِ، والعلامةُ هِيَ ما أخبرَ بهِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ منْ أنَّ الشَّمسَ تطلُعُ صبيحَتها لا شعاعَ لَها.
فكانَ رضيَ اللهُ عنهُ يحددُها، الَّذِي عليهِ عامَّةُ عُلماءِ الأُمَّة أنَّ ليلَةَ القَدْرِ في رَمَضانَ، وأَنَّها في العَشْرِ الأخيرِ منهُ، وأرْجَى ما تكونُ في العشرِ في ليلةِ سبعٍ وعشرينَ، وأرْجَى ما يكونُ منَ الليالِي ليالِي الأوتارِ، وأرْجَى ما يَكُونُ في السبعِ الأواخرِ منْ الأوتارِ، هَكذا تحدِيداً وتوْصِيفاً في كلامِ العُلماءِ، واستندُوا في ذلكَ إِلَى أدِلَّةٍ عنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ثبتَ في الصحيحينِ منْ حديثِ أبِي سعيدٍ أنَّها كانتْ ليلةَ واحدٍ وعشرينَ.
فدلَّ هذا علَى أَنَّها لا تَنحصرُ في ليلةٍ معينةٍ، فكانتْ في ليلةِ واحدٍ وعشرينَ في تلكَ السنةِ، وهيَ علَى الصحيحِ مُنتقلةٌ يعني تَكونُ في ليلةٍ في عامٍ في واحدٍ وعشرينَ، وفي عامٍ في ثلاثٍ وعشرينَ، وفي عامٍ في خمسٍ وعشرينَ، وهلُمَّ جَرَّ.
ولذلكَ أخْفَى اللهُ هذهِ الليلةَ حَتَّى تتحفزَّ النفوسُ لإِدراكِها، وَهذا شأنُ اللهِ تعالَى في كثيرٍ منَ الفضائلِ أنهُ يُخْفِي ليميزَّ الخبيثَ منَ الطَّيِّبِ، لِيُمَيِّزَ الصادقَ منَ الكُسُورِ، ليميزَ الراغبَ منْ غيرهِ، ولذلكَ ينبغِي أنْ نبذُلَ جهْدَنا والنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قدْ بذلَ جُهدهُ في طلبِ هذهِ الليلةِ، وإِنَّ الَّذِي ينبغِي أنْ نشتَغِلَ بهِ هُوَ العملُ الصالحُ علَى وجهِ العُمومِ، فينبغِي أنْ نشتغِلَ بِالأعمالِ الصالحةِ طاقَتَنا وجُهدَنا في هذهِ اللَّيالِي، ومنَ الأعمالِ الصَّالحةِ ما خُصَّتْ بهِ هذهِ الليلةُّ منَ النَّصِّ والخبرِ، ففِي الصحيحينِ قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ منْ حديثِ أبِي هريرةَ: «مَنْ قامَ ليلةَ القدْرِ إِيماناً غُفِرَ لهُ ما تقدَّمَ منْ ذنبهِ» هَذا فضلٌ كبيرٌ وعطاءٌ جزيلٌ منَ اللهِ تعالَى علَى هَذا العملِ وهُوَ أنْ يقومَ ليلةَ القدْرِ.
وقدْ كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يتحَرَّىَ ليلةَ القدرِ بِالصلاةِ والقيامِ حَتَّى قامَ بأصحابِهِ عدَداً مِنَ اللَّيالِي صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وكانَ يقومُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ هذهِ الليالِي المباركةَ بنحوِ ما كانَ يقومُ بهِ في غالبِ عملِهِ كانَ لا يزيدُ في رَمَضانَ ولا في غيرِهِ علَى إِحْدَى عشرةَ ركْعةً، كانَ يُصَلِّي أَرْبَعاً فَلا تَسْأَلْ عنْ حُسنهنِّ وَطُولهنَّ، ثُمَّ يصلِّي أرْبعاً فَلا تسأَلْ عنْ حُسنهنَّ وطُولهنَّ، ثُمَّ يُصلِّي ثَلاثاً.
فينبغِي الاجْتهادُ والنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ يُحْييِ الليلَ في قِراءةِ القُرْآنِ وفي الصَّلاةِ، والصلاةِ خُصُوصاً هيَ مِنَ الأعْمالِ الَّتي جاءَ النصُّ عليْها، هَلْ هناكَ عَملٌ آخرٌ نصَّ عليهِ في هذهِ الليلةِ، هلْ هناكَ عملٌ منَ الأعْمالِ الصالحةِ جاءَ النَّصُّ علَى فضيلتهِ في ليلةِ سَبْعٍ وعشرينَ؟ الجوابُ: نَعمْ الدُّعاءُ، وَهذا يُفهمُ منْ قولِ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنْها كَما في جامعِ الترمذِيِّ وغيرِهِ أَنَّها قالتْ: يا رَسُولَ اللهِ، ماذا أَقولُ؟ أرأَيْتَ إِنْ عَلمتَ أيَّ ليلةٍ ليلةَ القدرِ ماذا أقولُ؟ قالَ: «قولِي: اللهمَّ إنكَ عفوٌّ تحبُّ العفْوَ فاعفُ عَنِّي».
وفي رِوايةٍ: «اللهمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ كريمٌ تٌحِبُّ العفْوَ فاعْفُ عَنِّي».
فوجَّهَها إِلَى الدُّعاءِ، وإِلَى هَذا الدُّعاءِ عَلَى وجهِ الخُصُوصِ، فدلَّ هَذا علَى أَنَّ ليلَةَ القَدْرِ مِنْ ليالِي النَّوالِ والعطاءِ والسُّؤالِ والطَّلِبِ، فَينبغِي أَنْ يَجتهِدَ المؤمنَ بِسؤالِ اللهِ تعالَى، ويجتهدُ في طلبِ حاجاتِهِ، وَيُرغِّبُ إِلَى اللهِ جَلَّ في عُلاهُ، فكمْ منْ حاجةٍ تُقْضَى، وكمْ منْ عطاءٍ يُنالُ، وكمْ مِنْ هِباتٍ تُدركُ، وكمْ مِنْ فَضائلَ تَحصلُ، لكنْ لابدَّ منْ البذْلِ، لابدَّ مِنَ الجهدِ، لابدَّ منَ الإِخلاصِ والصِّدْقِ في طلبِ المرغوبِ، فإنَّهُ لا يُدْركُ ما يُؤمِّلُ إِلَّا منْ أوْفَى ومنْ صَبرَ، وعانقَ المجدَ مِنْ أوْفَى وَمَنْ صَبَرا.
واللهُ تعالَى قدْ قالَ في محكمِ كتابهِ: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[العنكبوت:69]، فجعلَ اللهُ تعالَى الهدايةَ نصيبَ المجاهِدينَ الَّذينَ جاهدُوا أنفسهمْ جاهدُوا أهْواءهُمْ جاهَدُوا أرواحهمْ حامِلاً علَى طاعةِ اللهِ، وكَفَّاً لَها عنْ معصِيةِ اللهِ، وَصَبراً علَى مُكابدةِ ما يَكْرهُ في سبيلِ إِدراكِ مرْضاةِ اللهِ تعالَى، هذهِ الَّليالِي ليالِي شَريفةٌ فاضلةٌ، هلْ تخصُّ منَ العملِ بِعملٍ دُونَ هَذا، بِمعْنَى: هلْ هُناكَ أَعْمالٌ خاصَّةٌ غيرُ الصَّلاةِ والدُّعاءِ جاءَ النَّصُّ عليْها؟ قراءةُ القُرآنُ عَملُ النبيِّ في سائرِ ليالِي رمضانَ، فإنَّ منَ الأعمالِ الصَّالحةِ الَّتي يرغبُ إلَى اللهِ تعالَى فِيها في هذهِ اللَّيالِي أنْ يَقرأَ الإنسانُ القُرآنَ فَقَدْ جاءَ في الصَّحيحيْنِ مِنْ حِديثِ ابْنِ عبَّاسٍ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ كانَ يدارسُ جبريلَ القرآنَ في رَمضانَ، وَذلِكَ كُلَّ ليلةَ.
فهذا في سائر الشهر، لكن في هذه الأيام ينبغي أن يضاعف ويزاد لأنها ليالي فضل وشرف وعطاء ومَن.
هلْ هُناكَ مِنَ الأعْمالِ ما يَخُصُّ في ليالِي العشرِ؟ نَعَمْ مِنَ الأَعْمالِ الصالحةِ الجودُ والعطاءُ والبذلُ، فينبغِي أنْ نَبذُلَ الخيرَ ما استطعْنا، دليلُ هذا الحديثِ الَّذِي ذكرناهُ في حديثِ ابنِ عباسٍ وهوَ ليسَ خاصَّاً بالعَشْرِ الأواخرِ، لكنَّ العشرَ الأواخرَ هِيَ صفوةُ هَذهِ الليالِي، فينبغِي أنْ يَكُونَ العملُ فِيها مُتْقناً مجتهداً فيهِ يقولُ: كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أجودَ الناسِ، وكانَ أجودَ ما يكونُ في رمضانَ حينَ يلقاهُ جبريلُ، وكانَ يُدارسهُ القُرْآنَ كُلَّ ليلةٍ فلرسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أجْودُ بِالخيرِ منَ الرِّيحِ المرسَلَةِ. يعْنِي حينَ يلقاهُ جبريلُ ويدارسُهُ القُرْآنِ.
فكانَ لَنا الآنَ منَ الأعمالِ الَّتِي ينبغِي أنْ تَشْغلَ بِها هذهِ الليالِي القِيامُ، الدُّعاءُ، قراءةُ القرآنِ، الإِحْسانُ والجودُ بصورهِ كُلِّها: الإحسانُ المالِيُّ، والإحسانُ المعنويُّ بِقَدْرِ ما يَستطيعُ، وإنهُ لمنْ تسويغِ الشيطانِ أَنْ يشغلَ الناسَ في هذهِ الليالِي بالضَّرْبِ في الأسواقِ، والذَّهابِ والمجيءِ فيما يشغلُهُم عنْ خيرِ الأعمالِ في هذهِ الأوقاتِ الفاضلةِ الَّتي هيَ مِنْ خيرِ أوقاتِ الزَّمانِ، فأَنا أقولُ: يا إِخْوانِي، ويا أخواتِي، اقضُوا حاجاتكُم في نهاركُمْ، واجعلُوا ليلكمْ مَحلاً للإخْباتِ والطَّاعَةِ والإحسانِ، وترقُّبِ الفضلِ منَ اللهِ جلَّ وعَلا، فإنَّهُ يُعْطِي على القليلِ الكثيرَ.
أسألُ اللهَ العظيمَ ربِّ العرشِ الكريمِ أنْ يوفقنِي وإياكُمْ لِقيامِ ليلةِ القدْرِ، وأنْ يمنَّ عليْنا فِيها بعظيمِ العطاءِ وجزيلِ الفضْلِ.
وصلَّى اللهُ وسَلَّم عَلَى نبِّينا مُحمدٍ وعَلَى آلهِ وأصحابهِ.