(الحلقةُ السَّادِسَةُ والعشرونَ)
وإنَّكَ لعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أحْمَدُهُ جَلَّ في علاهُ وأُثْنِي عليْهِ الخيرَ كُلهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وَأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، صفيِّهُ وخليلهُ وخيرتَهُ منْ خَلْقهِ، أَدَّبهُ اللهُ فأحسنَ تأديبَهُ، صَلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحْبهِ ومَنِ اتبعَ سنتَهُ بإِحسانٍ إلَى يوْمِ الدِّينِ.
أمَّا بَعدُ: فأَهْلاً وسهْلاً ومَرْحباً بكمْ أيُّها الإخوَةُ والأخواتُ, اللهُ جلَّ في علاهُ يَقولُ في محكمِ كتابهِ: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الأحزاب:21] نبينا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ هُو الأُسوةُ والقدوةُ لكلِّ مَنْ أرادَ أنْ يصلَ إلَى سعادَةِ الدُّنْيا وفوْزِ الآخرةِ، فَإِنَّهُ لا سبيلَ وَلا طَرِيقَ يُدْرِكُ بهِ الإنسانُ السَّعادةَ في الدُّنْيا وَلا الفوزَ في الآخرةِ إلا مِنْ طريقِ هَذا النبيِّ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسلَّمَ، لذلكَ كانَ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَدْ جمعَ اللهُ لهُ الكمالاتِ، فحلَّاهُ بِطيِّبِ الخِصالِ وَجِمِيلِ الفِعالِ حتىَّ كانَ في غايَةِ الأدَبِ وذُروةِ كمالِ الشيمِ، يَقولُ اللهُ جلَّ في عُلاهِ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم:4].
فقدْ شَهِدَ اللهُ لَهُ وَهُوَ العَلِيمُ الخَبِيرُ، شَهِدَ لَهُ بِكَمالِ الخَلْقِ وَسُمُوِّ الشِّيَمِ، وَقَدْ بَعَثَهُ اللهُ مُتَمِّماً لِصالِحِ الأَخْلاقِ كَما فِي المسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأَخْلاقِ» وَالأَخْلاقُ لَها أُصُولٌ، وَلَها قَواعِدُ عَنْها تَنْبَثِقُ الفَضائِلُ، وَمِنْها تَصْدُرُ خِصالُ البِرِّ، وَمَنْ أَعْظَمِ تِلْكَ القواعِدِ وَأَجْمَعِ تِلْكَ الخِصالِ الَّتِي يَجْتَمِعُ بِها كَمالُ مَحاسِنِ الأَخْلاقِ، وَتَمامِ طِيبِ الفِعالِ الجُودُ واَلجُودُ هُوَ غايَةُ الكَرَمِ: وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ الإِنْسانُ ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الإِحْسانِ، هَكَذا يُمْكِنُ أَنْ نُعَرِّفَ الجُودَ، فالجُودُ هُوَ بَذْلُ الإِحْسانِ المسْتَطاعِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾[الطلاق:7] هَكَذا جَعَلَ اللهُ تَعالَى الإِحْسانَ مَشاعاً بَيْنَ الخَلْقِ، فَلَيْسَ هُوَ حِكْراً وَلا حَدَّاً وَلا حَصْراً عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ مِنَ القُدْرَةِ وَالمالِ ما يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُنْفِقُوا، فَالجُودُ وَالإِحْسانُ لا يَقْتَصِرُ فَقَطُ عَلَى الإنفاقِ الماديِّ، بلْ إنَّ الجودَ والإحسانَ مُتنوِّعٌ، فَمنهُ جودٌ قوْليُّ، وهوَ الذي قالَ فيهِ تَعالَى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾[البقرة:83]، ومنهُ جودٌ بدنِيٌّ، وهوَ أنْ يبذلَ الإنسانُ منْ نفسِهِ ما يستطيعُ في الإحسانِ والبِرِّ، وَلَوْ كانَ هَذا بأَقَلِّ ما يَكونُ.
ومِنَ الإِحْسانِ والجُودِ: أنْ يبذُلَ الإنسانُ النفعَ للناسِ بمالهِ أوْ بِجاههِ، أوْ بشفاعتهِ، أو بغيرِ ذلكَ مِنْ وسائلِ الجودِ، كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أَجْودَ النَّاسِ في كلِّ أبوابِ الجودِ: الجودُ القولِيُّ، والعَمَلِيُّ، والجودُ البدنيُّ، بلْ والجودُ بالأمانِي، وصِدْقِ الرَّغْبَةِ في إيصالِ الخيرِ إلَى الناسِ، فلمْ يَتْرُكْ خَيْراً إِلَّا دلَّ الأمَّةَ عليهِ، وَلا شَراً إِلَّا حذَّرها منهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كانَ أجودَ النَّاسِ كَما يَقولُ ابنُ عباسٍ في الصَّحيحينِ، فما شأنهُ في رمضانَ وَكانَ أَجْودَ ما يكونُ في رَمضانَ، وَهذا بيانٌ أنْ هَذا الشَّهْرَ لهُ مِنْ خاصيَّةِ الجُودِ والبَذْلِ والإحْسانِ ما ليسَ لغيرهِ منَ الأشهُرِ، وَهذا بسببِ ما فيهِ منَ الطَّاعاتِ والإحسانِ، فالطَّاعَةُ والإحسانُ يتزكَّىَ بِها القلبُ ويطيبُ ويستقيمُ وَيصلحُ ويلينُ، وَلهذا ينبغي أنْ نَتفقَّدَ إِحْسانَنا، وأنْ ننظرَ آثارَ عِبادتِنا في أَعْمالنا، وأنْ لا يكونَ فقطْ الواحدُ مِنَّا همُّهُ أنْ يُبرِّئَ ذمتهُ بأداءِ الواجبِ دُونَ أَنْ يكونَ لهذا الواجِبِ الَّذِي غَرَضُهُ ومقصودُهُ التَّزْكِيةُ والإصلاحُ أَنْ يَكُونَ لِهذا أَثرٌ في مَسلكهِ، أثرٌ في خلقهِ، أثرٌ في عملهِ، استمعْ لقولِ ابنِ عباسٍ: وكانَ أَجودَ ما يكونُ في رمضانَ حينَ يلقاهُ جبريلُ، وكانَ يلقاهُ في كلِّ لَيْلَةٍ يُدارِسُهُ القُرآنَ، فلرسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ أجودَ بالخيرِ منَ الريحِ المرسلةِ.
يعنِي في هذا الجوِّ الإيمانيِّ، والأثرِ القُرآنِيّ، والفضلِ الزمانِيِّ كانَ رسولُ اللهِ في غايَةِ الجُودِ هوَ أجودُ بالخيرِ منَ الرِّيحِ المرسلةِ، والرِّيحُ المرسلةُ لما تأتِي في آخرِهِ رحمةٌ لا تخصُّ زيدَاً عنْ عمرٍو، ولا تصيبُ أرْضاً دونَ أخْرىَ، بلْ إنها تعُمُّ كُلَّ منْ مرتْ عليهِ، وتصيبُ كُلَّ مَنْ لاقتهُ، ولهذا ينبغِي أنْ نُفتِّشَ عنْ هَذا الأثَرِ في أعمالِنا وأخْلاقِنا، رمضانُ شهرُ الجُودِ وَالجُودُ لا ينْحَصِرُ في وجْهٍ منَ الوُجوهِ، بلْ في كُلِّ بابٍ منْ أبوابِ إِيصالِ البِرِّ وَالخَيْرِ إِلَى النَّاسِ: «اتَّقُوا النَّارَ ولوْ بشقِّ تمرةٍ» كَما يقولُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ في حديثِ جريرِ بْنِ عبدِ اللهِ: «فمنْ لمْ يجدْ فبكلمةٍ طيبةٍ» بالكلمةِ الطيبةِ «تبسمكَ في وجهِ أخيكَ صدقةٌ» كلُّ هذه منْ أبوابِ البِرِّ الَّتي يتَقرَّبُ بِها الإنسانُ، ينبغِي أنْ تَكْثُرَ، وأنْ تنمُوا وأنْ تزيدَ في هَذا الشَّهْرِ، وأنْ يَكونَ هَذا الشهرُ زاداً لَنا في تزكيةِ أخلاقنِا، وأعظمُ ما ينبغِي أن يهتمَّ بهِ منَ الجُودِ هُوَ بذْلُ ما يجبُ علَى الإنسانِ منَ الحقوقِ والواجِباتِ، فَإِنَّ مِنض النَّاسِ منْ تُجُودُ نفْسُهُ وَتسخُو يدُهُ بألْوانٍ منَ الإنفاقِ الَّذِي يندرجُ تحْتَ نفقةِ التَّطوعِ، أو تحتَ إِحْسانِ التطوعِ، لكنهُ يشحُّ ويبخلُ عنْ ما وجبَ عليهِ، فتجدهُ لا يفتشُ فيما يجبُ عليهِ منْ حقوقِ أولادهِ من النفقةِ، لا يفتشُ فيما يجبُ عليهِ منْ حقوقِ زوجاتهِ منَ النفقةِ، لا يبالِي بحقوقِ الخلقِ منْ وفاءِ الحقوقِ والديونِ وما أشبهَ ذلكَ، لا يقومُ بما يجبُ عليهِ من الواجباتِ التي ثبتتْ في ذمتهِ للناسِ، فتجدهُ مقصِّراً في هذهِ الأمورِ كلِّها، ومعَ هذا قد يدِّعي جُوداً، وَهذا غلطٌ، فمِنَ النَّاسِ مَنْ تجدُهُ نشيطاً في الجُود الذي يندَرِجُ تَحْتَهُ صُور الإحسانِ والبذلِ، لكنَّهُ يغفلُ عنْ أنَّ هَذا الجوُدَ مَراتِبٌ، وَأَولَى وأوجبُ ما ينبَغِي أنْ يَهْتمَّ بهِ هُوَ ما وجبَ عليهِ منَ الإِنفاقِ، فالنفقةُ الواجبةُ للأَولادِ، النَّفقةُ الواجبةُ للِزوجاتِ، النفقةُ الواجبةُ للأقاربِ، العطاءُ الواجبُ لأصحابِ الحقوقِ منْ إيفاءِ الأُجراءِ والعاملينَ أُجُورهمْ، منَ أَداءِ ما ثبتَ في ذمةِ الإنسانِ منْ حقوقِ الناسِ، كلُّ هَذا منَ الأمرِ الَّذي يَدخلُ في الجودِ الواجبِ الَّذي يجبُ علىَ الإنسانِ ألا يُفرِّطَ فيهِ، وألا يَغفلَ عنهُ، فإنَّ الغفلةَ عنهُ سببٌ لتفريطِ ما يجبُ عليهِ، وقدْ تجدُ منَ الناسِ منْ ينشطُ في الإنفاقِ الخيرِيِّ، أوْ الإنفاقِ التَّطوعِيِّ، لكنهُ يقصرُ في حقِّ منْ يجبُ عليهِ أنْ يُنفقُ عليهمْ، وَهذا اخْتِلالٌ في فقهِ مراتبِ الأعمالِ، وَالنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قد قالَ كما في الحديثِ الإلهيِّ فيما رواهُ البخاريُّ منْ حديثِ أبِي هُريرةَ: «وما تقربَ إليّ عبدِي بشيءٍ أحبُّ إليَّ ممَّا افترضْتُهُ عَليهِ، وَلا يزالُ عبدي يتقرُّبُ إليَّ بالنوافِلِ» فأحبُّ ما تَتقرَّبُ بهِ إلَى اللهِ منَ الجُودِ أَداءِ الواجِباتِ منَ النَّفقاتِ، وَسدادِ الحقوقِ، وَوَفاءُ الالْتزاماتِ فإنَّهُ مِمَّا تَدْخُلُ فِيهِ في الحَسناتُ، وَتدْخلُ في الجُودِ المأمورِ بهِ، ثُم بعدَ ذلكَ يُسارعُ في بابِ الخَيْرِ منَ الصَّدَقةِ والإحسانِ والعطاءِ وَالبرِّ، ولا تُحْصَرُ هَذا في زمانِ، فالإنسانُ في ظِلِّ صَدقتِهِ يومَ القِيامَةِ.
أسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرشِ الكريمِ أَنْ يتقبلَنا وإياكمْ، وأنْ يرزُقَنا أنْفُساً سخيَّةً، وأنْ يُعطِينا منْ فضْلِهِ قُلُوباً تجودُ بِكلِّ خيْرٍ وإحسانٍ.
أسألُ اللهَ تعالَى أن يَسْلُكَ بِنا سبيلَ الرَّشادِ، وأنْ يتقبَّلَ منَّا ومِنكمْ والمسْلمينَ.
وصَلَّى اللهُ وسلمَ علَى نبيِّنا محمَّدٍ.