الحمد لله رب العالمين له الحمد على إحسانه لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
فيقول الله –جل وعلا-بعد الآيات التي ذكر فيها ما يتصل بفرض الصيام وما إلى ذلك من الأحكام ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[البقرة: 185] هذه تعليلات ثلاث ختم الله –جل وعلا-بها ما تقدم من فرض الصيام الذي هو ركن من أركان الإسلام.
قوله جل في علاه: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ [البقرة: 185] أي أكملوا العدة كما قال بعض أهل العلم، فاللام هنا لتقوية الأمر كذلك قوله –جل وعلا-: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾ [الصف: 8] هكذا قال جماعة من أهل العلم، وقال آخرون اللام هنا للتعليل ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ [البقرة: 185] ينظر: البحر المحيط في التفسير(2/202)أي شرع لكم ما شرع وأمركم بما أمر لتكملوا العدة ما هي العدة التي أمر الله تعالى بإكمالها؟
إنها صيام الشهر الذي فرضه الله –جل وعلا-في قوله جل في علاه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185] فلئلا يتوهم أحد أن الواجب صوم بعضه، أو أن الواجب صومه في وقته فإذا فات لعذر من مرض أو سفر، فإنه لا يجب الإتمام والإكمال قال –جل وعلا-: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ [البقرة: 185] إن إكمال العدة يكون بإتمام الشهر وذلك برؤيته هلال شوال أو إكمال عدة الشهر ثلاثين يومًا كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»البخاري(1909), ومسلم(1081) وكما في الصحيحين من حديث ابن عمر «لا تَصُومُوا حتَّى تَرَوْهُ، ولا تُفْطِرُوا حتَّى تَرَوْهُ»البخاري(1907), ومسلم(1080) بهذا تكمل العدة إن الله –جل وعلا-شرع للمؤمنين بعد فراغهم من عباداتهم وما ندبهم إليه من صالح الأعمال أن يكبروه جل في علاه ومن ذلك ما أمر الله تعالى به في هذه الآية الكريمة حيث قال: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 185] أي ولأجل أن تكبروا الله وتعظموه وتجلوه بما هو أهله جل في علاه من الكلام الذي يعظم به الرب ويجل ويقدس به –سبحانه وبحمده-﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 185] أي لأجل ما هداكم، فالتكبير هنا هو شكر لله تعالى على نعمته وهي أعظم النعم وأجلها وهي الهداية إلى الصراط المستقيم الهداية إلى الحق الذي ضل عنه كثيرون إنها نعمة عظيمة لا يقدر قدرها ولا يعرف مكانتها ولا يتصور منزلتها إلا من فقد تلك النعمة وهي هداية القلب إن النعم تعرف بأضدادها والضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء.
الله –جل وعلا-يقول: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ [الأنعام: 122] إذا أردت أن تعرف عظيم ما أنعم الله تعالى به عليك، فانظر إلى من فقد هذه النعمة.
ولهذا قال بكر بن عبد الله المزني :"يَا ابْنَ آدَمَ، إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ قَدْرَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَغَمِّضْ عَيْنَيْكَ" أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر(182) إنها عملية يسيرة لإدراك نعمة البصر وما فيها من الخيرات لتدرك هذه النعمة أغمض عينيك حتى يتبين لك ما أنت فيه من خير فالإنسان يغفل مع كثرة ما تتوالى عليه من النعم وكثرة ما يشتغل به من العمل يغفل عن النعم التي تتابعت عليه لكن الله تعالى أمره وذكر بنعمه عليه ليقوم بحقه فقال: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 185] وقد قال جماعة من أهل العلم إن التكبير المأمور به في هذه الآية هو التكبير الذي يكون يوم العيد والتكبير الذي يكون في الأضحى. ينظر: تفسير الطبري(3/479).
وعلى كل حال لا شك أن التكبير في هذه الآية أول ما يدخل به هو التكبير في عيد الفطر، لأن الآية في سياق ما يتصل بالصيام وقد قال الله –جل وعلا-: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 185] بعد أن فرغ من ذكر إكمال العدة في قوله: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ [البقرة: 185] أن نكبره بقلوبنا وأن نجهر بذلك بألسنتنا ولهذا شرع للمسلمين أن يكبروا الله –جل وعلا-في ختم شهرهم.
فمن أهل العلم من يقول: إن التكبير يبتدأ بدخول شهر شوال وذلك إما برؤية هلال شوال، أو بإكمال العدة ثلاثين يومًا يعني من غروب شمس يوم الثلاثين إذا كمل الشهر يبتدأ التكبير ليلة العيد ولا ينقضي إلا بشهود الصلاة وفعلها.
هكذا قال جماعة من أهل العلم, وذهب جمهور العلماء إلى أن التكبير المشروع إنما يكون من فجر يوم العيد إلى الصلاة وهما قولان ينظر: بداية المجتهد(1/232) والمسألة قريبة كبر من غروب شمس آخر يوم من أيام رمضان أو من فجر يوم العيد الأمر في هذا قريب واسع والمطلوب هو أن ندرك لماذا أمرنا الله تعالى بالتكبير؟
أمرنا الله تعالى بتكبيره لتطيب قلوبنا، ولنقوم بشيء من حقه –جل وعلا-ولذلك قال: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185] كل هذا المتقدم من المندوبات والمشروعات إنما شرعه الله –جل وعلا-من أجل شكره جل في علاه، وشكره لا يقتصر فقط على قول اللسان.
ولهذا شكره يكون بالقلب ويكون بالجوارح ويكون بذكر اللسان وقد تقدم من الأعمال ما يكون للقلب وما يكون للبدن وما يكون للسان، فالتقوى التي من أجلها شرع الصوم عبادة قلبية في أصلها ومبعثها التقوى هاهنا التقوى هاهنا التقوى هاهنا، والصوم حبس للنفس وللبدن عن المشتهيات والمفطرات.
وأما الذكر فذاك في قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 185] فبهذا كله بعمل القلب، بعمل الجوارح، بعمل اللسان يتحقق شكر الله –جل وعلا-وهو تمام عبوديته التي قال فيها –جل وعلا-: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13] أفادتكم النعماء مني ثلاثة؛ يدي، ولساني، والضمير المحجبا. إن الشكر الحقيقي لا يتحقق فقط بقول اللسان، بل لابد أن يقترن معه عمل قلبي وترجمة عملية بامتثال أمر الله –جل وعلا-.
وإنني أنبه إخواني إلى ملاحظة أمر تكرر فيما شرعه الله تعالى من العبادات كثيرًا ما يأمر الله –جل وعلا-بذكره وتكبيره وتعظيمه بعد المشروعات من العبادات، فالصلاة عامود الإسلام قال فيها –جل وعلا-: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 10] هكذا يأمر الله تعالى بالذكر بعد الذكر، بالذكر بعد العبادة، وفي الصوم يقول الله –جل وعلا-: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 185] ، وفي الزكاة يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: 14-15]، وفي الحج يقول: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 198] هكذا يأمر الله تعالى عباده بذكره، لأن التيسير من العبادات من صلاة ومن زكاة ومن صوم ومن حج ومن سائر صور التقربات وألوان العبادات كلها في الحقيقة من نعمة الله تعالى على العبد التي تستوجب شكرًا وثناء وإجلالًا لله تعالى.
ولهذا ينبغي للمؤمن أن يحرص على الإكثار من ذكر الله –جل وعلا-فقد أمر الله تعالى به قبل العبادات وأمر به في العبادات وجعله خاتمة لها، فالمحروم من حرم لذة الذكر وحيل بينه وبين ما يكون من أسباب طيب قلبه وذكائه ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28] إن الله –جل وعلا-شرع لنا من الأعمال ما تزكو به قلوبنا وما تصلح به أعمالنا، ولذلك ينبغي لأهل الإيمان أن يستكثروا من الخيرات وأن يستبقوا المبرات فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جازلًا, الله أكبر بالأمس القريب كان الناس يتباشرون بقدوم الشهر وها هم اليوم يودعونه وهكذا هي أيامنا، هكذا هي أعمارنا، هكذا هي آجالنا نقبل على الشيء ونحن نستبطأ انقضائه وسرعان ما تتصرم الأيام وتنقضي الليالي وتمر الساعات ويخزن فيها ما يكون من الأعمال ثم تنقضي وتزول كما قال –جل وعلا-في وصفه لحال الناس يوم يبعثون ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ [النازعات: 46] إنها أيام قليلة وساعات محدودة هي أعمارنا وآجالنا، فما هي إلا أنفاس تتردد إذا بلغ الأجل كتابه انتهى.
لهذا ينبغي أن نبادر إلى كل مبرة إلى كل صالح إلى كل عمل، وأن نشهد مع هذا كله منة الله تعالى علينا فيما وفقنا إليه من الأعمال، اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعلنا من عبادك المقبولين ومن حزبك المفلحين ومن أوليائك الصالحين، اللهم اختم لنا بالصالحات وتقبل منا يا ذا الجلال والإكرام، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.