الحمد لله رب العالمين أحمده جل في علاه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صفيه وخليله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
فإن الله –جل وعلا-يقول في محكم كتابه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾[الأعلى: 14-15] تلك الآيتان المباركتان اللتان بين الله تعالى فيهما سببًا من أسباب الفلاح ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: 14-15] فجعل ذلك في أمرين في الجملة وهما ثلاثة في الذكر؛ التزكي, وذكر اسم الله تعالى, والصلاة, ومعلوم أن الصلاة لا تخلو من ذكر فهي ذكر لله تعالى، وإنما خصها بالذكر والنص عليها لأنها أعظم ما يذكر به الله –جل وعلا-إذ يجتمع فيها ذكر القلب وذكر اللسان وذكر الجوارح قيامًا وركوعًا وسجودًا وقيامًا كل ذلك من الذكر لله جل في علاه إن الله –جل وعلا-في هذه الآية حكم وقضى ولا معقب لحكمه إن الله تعالى في هذه الآية قضى بأن الفلاح للمتقين.
إن الله –جل وعلا-في هذه الآية قضى بأنه من اتصف بهذه الصفات فقد أفلح فما هو الفلاح؟
الفلاح من أوسع الكلمات الدالة على النجاح ولهذا قال جماعة من أهل العلم في تعريف الفلاح بأنه السعادة وقيل: بأنه البقاء وقيل: بأنه الأمن وقيل: غير ذلك وأجمع ما قيل في معنى الفلاح أنه إدراك ما يحبه الإنسان ويطلبه وأمنه مما يخافه ويرهبه ومع ذلك الإدراك وذلك الأمن وصف ثالث به يكمل النعيم ألا وهو بقاء هذه الحال أي بقاء الإدراك للمطالب وبقاء الأمن مما يكره ويحذر من الشر. ينظر: تفسير الطبري(1/250), زاد المسير(1/29).
هكذا يكون الإنسان مفلحًا ولهذا حكم الله تعالى وقضى بالفلاح لمن أطاعه وأقبل عليه وحقق العبودية له كما أنه قضى بعدم الفلاح على كل من خالف أمره وعلى كل من خرج عن حدود شرعه والله تعالى يقول في هذه الآية ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى: 14-15] فما معنى قوله تعالى: ﴿مَنْ تَزَكَّى﴾؟
التزكي في كلام العرب يطلق على التطهر من الأرجاس والأدناس وهذا ليس فقط في طهارة الثياب والأبدان، بل هو في ذلك وما هو وراءه وما هو أعظم منه ألا وهو طهارة القلوب من الفساد طهارة القلوب أولا من الشرك, طهارة القلوب من النفاق، طهارة القلوب من الآفات والأمراض، بهذا يتحقق للمرء التزكي وقد قال الله تعالى فيما قصه –جل وعلا-وتكلم به في كتابه في خبره عن النفس ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7-10] قد أفلح من هذبها قد أفلح من طهرها قد أفلح من اعتنى بها رقيًا وإصلاحًا وتهذيبًا وتربية على الصالحات والخيرات.
وقد خاب أي قد خسر من دساها أي من طمرها ولم يقم بما تحتاجه من التزكية والتطييب والتطهير فمن أفلح من تزكي أفلح لكونه أمن من غوائل نفسه ومن شرورها التي هي سبب لكل شر في الدنيا ولكل شر في الآخرة ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30] إن الله –جل وعلا-في هذه الآية يبين لنا جملة من الأسباب التي تحصل بها زكاة النفس وقد فسر بعض أهل العلم قوله –جل وعلا-: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الشمس: 9] أي من أدى زكاة الفطر وهذا لا ريب أنه داخل في المعنى العام للتزكي لكن الآية لا تنحصر في هذه السورة، لا تنحصر فقط بزكاة الفطر، فزكاة الفطر هي وسيلة وسبب وعمل من الأعمال التي تزكو بها النفوس وتطيب.
ولذلك جاء في السنن من حديث ابن عباس رضي الله عنه في بيان علة زكاة الفطر أن زكاة الفطر«طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ»أخرجه: أبو داود (1609)، وابن ماجه (1827)وهذا التعليل النبوي لهذه الزكاة إنما هو بيان لما يحصل به من تطهير النفس فهي في الجملة داخلة في قول الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى: 14] ولكنها ليست هي المعنى الوحيد للآية، بل المعنى أشمل من ذلك فيشمل التزكي والتطهير للنفس والتطييب لها بكل طاعة يتقرب بها العبد إلى الله –جل وعلا-وأعظم ذلك ما ذكره جل في علاه ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: 15] فإن الصلاة والذكر من أعظم ما تزكو به النفوس وتطيب ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28] والصلاة مناجاة يناجي فيها العبد ربه ويذل فيها لمولاه، ولذلك كانت من أعظم أسباب الزكاة.
زكاة الفطر مما شرعه الله تعالى للمؤمنين وفرضه على أهل الإسلام كما في الصحيحين من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم-فرض زكاة الفطر على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين. البخاري(1503), ومسلم(1511), و(984).
هكذا فرضها رسول الله –صلى الله عليه وسلم-على العموم، وقد فرضها صاعا من تمر أو صاعًا من شعير كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه وهذا نموذج من الأعمال التي تزكو بها النفوس وتطيب وقد فرضها النبي –صلى الله عليه وسلم-في آخر هذا الشهر كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه وكان يأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة البخاري(1503), ومسلم(1511), و(984)، فدل ذلك على أنها تكون بعد الفراغ من تلك الأعمال المباركة في هذا الشهر العظيم من الصيام والقيام وتلاوة القرآن وأوجه الإحسان المتنوعة المتعددة التي بها يقرب الناس إلى ربهم، فتزكو أعمالهم فيختمون ذلك بطاعة وتقرب إلى الله تعالى من أموالهم يخرجون به ما تطيب به نفوسهم وتزكو وما يحصل به إغناء إخوانهم، فقد جاء في حديث ابن عمر عند البيهقي بإسناد فيه ضعف أنه قال: «أغْنُوهُمْ عَنْ طَوَافِ هَذَا الْيَوْمِ» السنن الكبرى للبيهقي(7739) أي أغنوا الفقراء عن السؤال هذا اليوم، ويشير بهذا اليوم إلى يوم العيد، ولذلك كان أفضل أوقات إخراج زكاة الفطر إنما هو بعد صلاة الفجر يوم العيد وقبل الصلاة.
وقد أذنت الشريعة أن يتقدم الإخراج ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنه: "فكانوا يخرجونها قبل العيد بيوم أو يومين" البخاري(1503), ومسلم(1511), و(984). وعلى هذا جمهور العلماء أنه يجوز أن تقدم زكاة الفطر بيوم أو يومين على العيد وهذا من التوسعة حتى لا يضيق الأمر على من يشتغل بما يشغله في ذلك اليوم، فلا يجد وقتا أو لا يجد فقيرًا فيعطيه فلهذا لا حرج في أن تتقدم في إخراجها عن يوم العيد بيوم أو يومين.
على أن من أهل العلم من يرى أنه لابد من إخراجها في هذا الوقت وهو قول الظاهرية، وهناك من أهل العلم من وسع فأجاز إخراجها من أول الشهر وأقرب هذه الأقوال لظاهر السنة وعمل الصحابة رضي الله عنهم أنه يجوز إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين ينظر: المغني(3/89), المجموع(6/142), فتح الباري(3/376) وأفضل أوقات إخراجها هو بعد صلاة الفجر إلى صلاة الفجر فإن آخرها بعد ذلك فجمهور العلماء على أن تأخيرها جائز لكن لا يجوز أن يتجاوز يوم العيد وذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، بل يجب إخراجها فلو فوتها أخرجها بقية اليوم.
وينبغي ألا يؤخر الإنسان بل يبادر لإبراء ذمته وقد فرضها الله تعالى صاعًا من طعام البلد هذا أولى ما تخرج به زكاة الفطر وفي حال عدم وجود الفقراء أو في حال عدم وجود من يقبلها عند ذلك ذهب جماعة من أهل العلم كما هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-أنه يجوز إخراجها من النقود ينظر: مجموع الفتاوى (25/ 80 - 82)، لكن ليس هذا من الأصل، الأصل أن تخرج من الطعام كما في حديث أبي سعيد أنه قال: كنا نخرجها على عهد النبي –صلى الله عليه وسلم-صاعًا من تمر، صاعًا من بر، صاعًا من شعير، صاعًا من أقط، صاعًا من زبيبالبخاري(1508), ومسلم(985) هكذا كانوا يخرجونها على عهد النبي –صلى الله عليه وسلم-وهذا الذي عليه غالب علماء الأمة أنها تخرج من الطعامينظر: المدونة (1/ 258)، والمجموع (5/ 428 - 429)، والمغنى (2/ 565).
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقني وإياكم القبول، وأن يجعل عملنا كله خالصًا وأن يجعله صالحًا وألا يجعل لأحد فيه نصيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.