الحمد لله رب العالمين أحمده جل في علاه وأثني عليه الخير كله, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صفيه وخليله وخيرته من خلقه أتقى العباد لربه أعلمهم به جل في علاه هو الذي بعثه الله تعالى بين يدي الساعة بالحق بشيرًا ونذيرًا، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
فالله –جل وعلا-أمر عباده بتقواه في آيات عديدة وهذا الأمر لم يكن خاصًا بفئة من الناس، بل هو شامل لكل أحد فالأمر بالتقوى أمر به الأنبياء وأمر به عامة الناس فلم يكن أحد إلا وهو مأمور بالتقوى بل إن التقوى هي ما أوصى الله تعالى به الأولين والآخرين يقول الله في محكم كتابه ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾[النساء: 131] فهي وصية الله للعالمين، لا عجب ولا غروة بأن تكون التقوى بهذه المنزلة، فالتقوى هي مفتاح الجنة، والتقوى هي باب السعادة، والتقوى به يدرك الناس النجاة في الدنيا والآخرة الله –جل وعلا-يقول: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[الزمر: 61] والله –جل وعلا-يقول: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾[يونس: 62-63] والله –جل وعلا-يقول: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾[النبأ: 31] نكره لعظم ما يفوز به المتقون، فالتنكير للتعظيم والتفخيم.
والله –جل وعلا-يقول: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾[الطلاق: 2-3]، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾[الطلاق: 5]، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾[الطلاق: 4] آيات كثيرات في كتاب الله تعالى تأمر بالتقوى وتبين فضل المتقين وما يفوزون به ليس فقط في الآخرة بل ما يفوزون به في دنياهم وفي أخراهم.
فسؤال كبير يطرح نفسه أين نحن؟ أين أنا وأنت من هذه الخصال؟ ما هي منزلتنا؟ ما هو نصيبنا من تقوى الله –جل وعلا-؟ هل نحن ممن اتصفوا بخصال التقوى؟ هل نحن ممن فازوا بها مسلكًا ظاهرًا وباطنًا؟ إن هذا السؤال يحتاج إلى جواب ولم يجيب عنه إلا أنت.
ولذلك من الضروري أن يسأل الواحد منا نفسه عن ما هي الصفات التي فاز بها من صفات المتقين؟ وما هي الصفات التي أخل بها من صفات المتقين؟ وبهذا يمكن أن يجري الإنسان موازنة بين ما فاز وما خسر، ما كسب وما فاته من صفات المتقين، فيثبت ما فاز به وكسبه من تلك الصفات والخصال ويتخفف من تلك الخصال والصفات التي فوت بها صفات المتقين.
إننا بحاجة إلى هذه الموازنة لاسيما وإننا في شهر ندبنا الله تعالى فيه إلى الصيام وجعله مفروضًا على الأنام لأجل تحقيق التقوى يقول الله جل في علاه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 183] فلا بد من مراجعة النفس في هذا الشهر وفي سائر الأعوام وفي سائر الأيام وفي سائر الأحوال، نراجع أنفسنا ونسأل ما هو نصيبنا من التقوى إن التقوى التي أمر الله تعالى بها ليست أمرًا غامضًا وليست أمرًا مبهمًا لم يأتي بيانه في الكتاب والسنة، بل إنها أمر جلي واضح بين الله تعالى صفات التقوى وبين خصال أهلها حتى أصبحت كالشمس وضوحًا وجلاء فالتقوى تكون بأن يكون الإنسان قائمًا بما أمره الله تعالى به ظاهرًا وباطنًا يرجو ثواب الله ويخشى عقابه يؤمل عطائه ويخشى سخطه بهذا يحقق العبد التقوى.
التقوى ليست أمرًا عسيرًا ولا صعبًا في المفهوم، إنها أن نسابق إلى طاعة الله تعالى أن نقوم بما أمرنا الله –جل وعلا-أن نجتنب ما نهانا الله تعالى عنه، ولكن ليس هذا فقط بالظواهر مع غياب القلب بل لا بد في ذلك من حضور القلب وشهوده حتى يتحقق للمؤمن وصف التقوى.
إن النبي –صلى الله عليه وسلم-بين أن التقوى في حقيقتها في القلب فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-«التَّقوى هاهنا»مسلم(2564) يُشير إلى صدره ثلاثا –صلى الله عليه وسلم-وما ذاك لكون التقوى أمرًا لا يظهر أثره على الجوارح والمسالك والأخلاق والأعمال، بل هو إشارة وتنبيه إلى إنه أول ما ينبغي أن نعتني به في تحقيق خصال التقوى والعمل بصفات أهلها أن نجتهد في تزكية القلوب واستقامتها.
والله تعالى أول من ذكر ممن أثنى عليهم بعد أهل الصراط المستقيم في محكم الكتاب الكريم ذكر –جل وعلا-المتقين فقال –سبحانه وبحمده-: ﴿الم ذلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾[البقرة: 1-2] من هم؟ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة﴾[البقرة: 3] فابتدأ أول ما ذكر من خصال التقوى أمرًا قلبيًا، وهذا يبين السر في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-«التَّقوى هاهنا، التَّقوى هاهنا، التَّقوى هاهنا»مسلم(2564) تأكيد لكون أول ما يتحقق به تقوى العبد هو أن يذل قلبه أن تعمر خصال التقوى وخلالها قلب العبد، فيمتلئ قلبه بتقوى الله –جل وعلا-إن تقوى الله –سبحانه وبحمده-تترجم في مسالك العملية.
ولذلك ينبغي للمؤمن ألا يبخس نصيبه من إظهار معالم التقوى في مسلكه وفي مقاله وفي حاله وفي سائر شأنه وبهذا يفوز فوزًا عظيمًا ويسبق سبقًا كبيرًا فالسبق الحقيقي أول ما يكون سبق القلوب لله –جل وعلا-فالسير إليه –سبحانه وبحمده-ليس على المراكب ولا على الأقدام إنما السير إليه سير القلوب، فالقلوب إذا صارت إلى ربها بتقوى الله –جل وعلا-انقادت الجوارح ولهذا جاء في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ألَا وإنَّ في الجسَدِ مُضْغةً إذا صلَحَت صلَحَ الجسَدُ كلُّه، وإذا فَسَدَت فَسَدَ الجسَدُ كلُّه» أتدرون ما هي؟ قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ألَا وهي القلْبُ»البخاري(52), ومسلم(1599)إنه القلب الذي إذا صلح انقادت الجوارح وإذا فسد أدبرت الجوارح.
ولذلك ينبغي أن تبحث وأن تبحثي عن خصال التقوى في قلبك وذلك بتعظيم الله وإجلاله ومحبته والانجذاب إليه –سبحانه وبحمده-بهذا تتحقق لنا خصال التقوى هذه الأعمال الطيبة والجهود المباركة التي يقوم بها العابدون من صلاة وصيام وزكاة وحج وإحسان وسائر ما يتقربون به إلى الله تعالى من صالح العمل.
لابد أن يفتش عن أثر ذلك في المسلك والسير إلى الله تعالى، لابد أن يفتش عن أثر ذلك في القلوب هل زكت القلوب وطابت؟ هل استقامت وصلحت؟ هل عمرت بمحبة الله وإجلاله وتعظيمه؟ إننا بحاجة إلى أن نتزود إلى الله تعالى في سيرنا إليه بالتقوى ظاهرًا وباطنًا الله تعالى يقول: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾[البقرة: 197] والنبي –صلى الله عليه وسلم-يقول: «اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ» الترمذي(1987)فالتقوى ليست محصورة في زمان ولا في مكان، إنما حارس يقوم في الضمير يحمله على امتثال ما أمر الله تعالى به ويحمله على ترك ما نهى الله تعالى عنه رغبة ورهبة.
هكذا تتحقق التقوى في المسلك والعمل، وبه يفوز العبد إن التقوى التي أمرنا بالتزود بها هي مطايانا التي نسير فيها إلى الله تعالى في الدنيا وهي مطايانا التي ننجو بها يوم القيامة، إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولقيت يوم الحشر من قد تزود ندمت على ألا تكون كمثله وإنك لم ترصد ـ أي لم تعد ـ وإنك لم ترصد كما كان أرصد.
لذلك يجب أن نغتنم الفرصة وأن نهتبل الزمن وهي منحة الله تعالى منحنا إياها وهبة وهبنا الله تعالى إياها العمر فرصة للمسابقة في ميدان الطاعات وتحقيق خصال المتقين الذين ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[البقرة: 62] الذين قال الله تعالى لهم وبشرهم قال: ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[الأعراف: 128] العاقبة أي ما يعقب أعمالهم من ثواب وظفر وسعادة وربح هي للمتقين ملكًا وللمتقين استحقاقًا وللمتقين فضلًا من رب يعطي على القليل الكثير.
قبل أن ينصرف الشهر وقبل أن تنقضي أيامه وقبل أن تودع لياليه أقول يا إخواني ويا أخواتي نحن بحاجة بعد هذه الأيام المتوالية أن نسأل أنفسنا أين نحن من خصال المتقين.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين ومن حزبك المفلحين ومن أوليائك الصالحين، اللهم اسلك بنا سبيل الرشاد وأعنا من نزغات الشياطين, وصلى الله وسلم على نبينا الكريم نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.