الحمد لله مالك الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير, أحمده جل في علاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
يقول الله –جل وعلا-في سورة النصر بسم الله الرحمن الرحيم ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾[النصر: 1-3] نعم ما أحق ربنا جل في علاه أن يمجد ويعظم على جليل إحسانه وكبر إنعامه وواسع فضله الذي شهده أوليائه على مر العصور وتعاقب الدهور سبحانك اللهم وبحمدك لا نحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك نستغفرك ونتوب إليك لا إله إلا أنت إن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-أظهره الله –جل وعلا-على كل من خاصمه وعاداه فالعاقبة للمتقين ولقد تحققت للرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم-﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾[الكوثر: 3] خرج بأبي هو وأمي –صلى الله عليه وسلم-من مكة طريدًا يتبعه أهلها يحيقون يدعون الجوائز على الظفر به حيًا أو ميتًا هو وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه خرج من مكة في تلك الحال خائفًا طريدًا يبحث عمن يأويه وينصره يبلغ كلمة الله –جل وعلا-يدعو إلى الله ويبصر الناس لما فيه خيرهم في دنياهم وآخراهم، فكتب الله تعالى له من التوفيق فأواه أهل المدينة من الأنصار رضي الله عنهم ونصروه حتى كتب الله تعالى له العزة والثناء وجاءت الأيام وتوالت الليالي وتعاقبت الأعوام فإذا برسول الله –صلى الله عليه وسلم-على مشارف مكة إنه على مشارفها فاتحًا معه جحافل الإيمان ومعاشر المجاهدين في سبيل الله لا قوام لأحد في مقابلتهم ليس فقط لكثرة عدتهم، بل لأمر أعظم من ذلك وهو لقوة إيمانهم ورسوخ يقينهم وترقب به لنصر الله تعالى الذي وعدهم به.
إن النبي –صلى الله عليه وسلم-في تلك الحال وقد أحدق به أصحابه وأنصاره من كل مكان وجاءوه من كل صوب أي من جميع قبائل العرب ينصرونه ويأزرونه ويحمونه حتى أنه غلب –صلى الله عليه وسلم-ما كان يفعله الناس في عظمائهم كما قال ذلك عروة بن مسعود لقد دخلت على كسرى وقيصر فلم أرى أصحابهم يفعلون ما يفعله أصحاب محمد معه –صلى الله عليه وسلم-ورضي الله عنهم.ابن هشام في سيره (2/172)وهو صحيح مرسلا رواه ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا..
إن النبي –صلى الله عليه وسلم-دخل مكة في السنة الثامنة من الهجرة ظاهرًا منتصرًا، وقد بين للعالم كله كيف يكون نصر المؤمنين إنه نصر لله –جل وعلا-نصر للحق كما قال –جل وعلا-وهو يطوف في بيت الله معظما له فقد بدأ أول ما بدأ باستلام الحجر ثم طاف حول البيت ومعه عصا –صلى الله عليه وسلم-كان يسقط بها تلك الأوثان ويزيل بها تلك العبودية لغير رب الأرض والسماء ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا الله أكبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-يعطي درسًا للعالم كله كيف يكون النصر؟
إن المنتصرين في غالب الأحوال ينتفشون ويعلون بنصرهم ويظلمون ويبطشون، لكن خير الخلق دخل مكة يقول أنس وقد وضع ذقنه –صلى الله عليه وسلم-على رحله قد حنا ظهره ذلا لله تعالى وهذا ذل تواضع وخشوع لله تعالى؛ لأنه المنعم بهذا النصر.
دخل مكة –صلى الله عليه وسلم-وهو يتلو آيات الكتاب الحكيم كما في الصحيح من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه دخل رسول الله –صلى الله عليه وسلم-مكة وهو يقرأ سورة الفتح ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًالِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾[الفتح: 1-2] الله أكبر إنه خشوع وذل وتبتل لله تعالى، بل لما بلغ أن أحد أصحابه قال: اليَوْمَ يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الكَعْبَةُ أمر بعزله –صلى الله عليه وسلم- وقال: اليوم يوم المرحمة اليوم تعظم الكعبة وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الكَعْبَةُ البخاري(4280)هكذا يبين النبي –صلى الله عليه وسلم-كيف النصر؟ كيف ينتصر الإنسان على نفسه قبل أن ينتصر على أعدائه؟ ينتصر على علوه وعلى كبريائه قبل أن ينتصر على غيره ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا﴾[القصص: 83].
لقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم-في الذروة من التواضع حالًا ومقالًا ومعاملة –صلى الله عليه وسلم-فدخل على تلك الصفة قد حنا ظهره ذلا لله –جل وعلا-ولما سمع تلك المقالة قال هذا القول لذلك الرجل ثم لما دخل البيت دخل معظمًا له وقد طالب شيئًا من الماء ليمسح تلك الصور لما فرغ من طوافه دخل البيت –صلى الله عليه وسلم-وأغلق عليه وبدأ يذكر الله –جل وعلا-ويمجد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده نصر عبده وعز جنده وهزم الأحزاب وحده هكذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-يبين للعالم كله أنه لم يتنصر لنفسه –صلى الله عليه وسلم-ولم يقم –صلى الله عليه وسلم-بالثأر ممن طردوه، ممن أذوه، ممن حاربوه بل كان –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-في غاية الرحمة والشفقة فلما قال له الناس ما تظنون إني فاعل بكم فقالوا: أخ كريم فقال لهم مقولة يوسف عليه السلام في نهار الشفقة والرحمة قال –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم مستدرك الحاكم(11234), وقال فيما ذكره أصحاب السير: اذهبوا فأنتم الطلقاء دلائل النبوة للبيهقي (5/ 58), سيرة ابن هشام (4/ 61) ، بل في دخوله –صلى الله عليه وسلم-قال: من دخل المسجد فهو آمن، من أغلق عليه بابه فهو آمن، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن مسلم(1780)كل هذا لتعظيم الله –جل وعلا-وبيان أنه لم يأتي أشرًا ولا بطرًا ولا يأتي منتقمًا أو سائرًا لنفسه فذلك كله قد اضمحل وزال ولم يبقى إلا نصر الله تعالى ونصر الحق الذي جاء به –صلى الله عليه وسلم-جاء محققًا لما قاله الله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء: 107].
إن النبي –صلى الله عليه وسلم-في هذه السورة التي أذن الله تعالى فيها بمجيء الفتح والنصر هذه السورة المباركة التي فيها هذا الفضل الكبير الله تعالى يأمره بالتعبد ليقطع كل هاجس يتسلل إلى النفس بالظهور والسنان والعلو والارتفاع على الخلق، من تواضع لله رفعه وبهذا تتحقق العبودية وقد جاء النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-في هذه المعاني بأوضح ما يكون قولًا وعملًا ذلك اليوم العظيم الذي أظهر الله تعالى فيه الدين إنه كان في شهر مبارك في الشهر الذي أنزل الله تعالى فيه القرآن، في الشهر الذي جعله الله تعالى من خير أيام الزمان.
كان ذلك الفتح في أيام رمضان وقد أقبل النبي بأصحابه وهو صائم حتى إذا اقترب قال: «لعلكم تفطرون فإنه أقوى لكم» لما اقترب أكثر قال: «إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَأَفْطِرُوا» مسلم(1120) وأفطر صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهكذا ظهر الإسلام بالنصر والفخر والعلو، ولكنه نصر وعلو للإسلام ذاته، لا لأشخاصه بل الله تعالى أعلى هذا الدين الإسلام يعلو ولا يعلى عليه .
وقد كان علو للحق واضح؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم-أول ما دخل فعل ما ذكرت ثم إنه ذهب لما ذهب إلى بيته ليستريح اغتسل ثم صلى -صلى الله عليه وسلم-ثماني ركعات هذه الركعات كما في الصحيح من حديث أم هانئ البخاري(357), ومسلم(336)قيل: إنها صلاة الفتح، وقيل: إنها صلاة الضحى وعلى كل حال هي صلاة شكر لله تعالى، هي صلاة ذل لرب الأرض والسماء على ما مكن وفتح للمؤمنين في هذه الأيام المباركة.
إنني أدعو نفسي وإخواني إلى أن نستثمر الصيام الذي هو خير الأعمال أجر وثوابًا أو من خير الأعمال أجرًا وثوابًا عند الله تعالى أن نستثمره في تزكية نفوسنا ولهذا تجد أن شهر رمضان شهر الصيام هو الشهر الذي كتب الله تعالى فيه الفتح المبين لأهل الإيمان في بدر كتب الله تعالى الفتح المبين لأهل الإيمان يوم الفتح في فتح مكة وتطهيرها من الأدناس والأوثان كتب الله تعالى فيه النصر في مواطن عديدة على مر العصور وتعاقب الدهور، وذلك لأن الصيام ينتصر فيه الإنسان على نفسه وإذا انتصر الإنسان على شهواته ورغباته وعلى مرادته وعلى هواه عند ذلك يتحقق النصر المبين.
ولهذا هناك رابط ومناسبة جلية في كون هذا الشهر شهر النصر الذي أظهر الله تعالى فيه الدين، إنه إيذان بأننا إذا انتصرنا على أنفسنا، انتصرنا على رغباتنا وشهواتنا وملاذنا ومحبانا واستقمنا لله تعالى طاعة وذلًا، انكسارًا ومحبة وتعظيمًا له –جل وعلا-عند ذلك نحقق النصر في كل الميادين وليس ذلك على الله بعزيز، فالنبي –صلى الله عليه وسلم-يوم بدر كان في قلة قليلة من أصحابه ويوم الفتح كان في جماعة عظيمة من أصحابه لكن الجامع بين النصرين في ذلك اليوم الذي كانوا فيه قلة وفي ذلك اليوم الذي كانوا فيه كثرة هو أنهم أعلوا الحق وجعلوه إمامًا لهم قائدًا لهم نفوسهم تصبو إلى تعظيمه وتحقيقه والعمل به في كل المجالات وهكذا ينبغي أن نستثمر الصيام نفوسنا تحتاج إلى تزكية وتطييب ومن خير ما يزكي النفوس ومن خير ما يطيبها الصوم فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «الصوم جنة»يتقي به الإنسان الرذائل ولهذا قال في الصحيحين من حديث أبي هريرة «فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» البخاري(1904), ومسلم(1151) هكذا يتحقق للإنسان علو المنزلة وعلو المقام والترفع عن الاشتغال بسفاسف الأمور وبه ينتصر وقد قال الله تعالى: ﴿إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[محمد: 7] ما أحوجنا إلى النصر وما أحوجنا إلى أن نفهم ما هو النصر الحقيقي وما أحوجنا أن نفهم كيف نكون منتصرين ونتعلم ذلك من سيرة خير النبيين محمد –صلى الله عليه وسلم-فقد علمنا مدرسة نكون فيها على أكمل الأحوال البشرية إذا ارتسمنا ذلك خلقًا عندما نظفر أو ننتصر فإن النفوس تنتفش وتضخم وتكبر وتعلو، لكن عندما تعلم أن النصر ليس للأشخاص، إنما النصر للحق الذي يحملون تصغر النفوس لله تعالى وتذل وبذلك يتحقق الفوز.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن ينصر الإسلام وأهله وأن يقر أعيننا بنصر ديننا وعلو كعب أهل الإسلام في كل مقام وأن يذل الكفر وأهله وأن يقينا كل ذي شر هو أخذ بناصيته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.