الحمد لله رب العالمين أحمده جل في علاه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صفيه وخليله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
فإن الله –جل وعلا-خلق الخلق في هذه الدنيا ليعبدوه ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 56] فالله –سبحانه وبحمده-جعل المقصد الأسمى والغاية العظمى من إيجاد الخلق هو تحقيق العبودية لله تعالى ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك: 2] فهذه الدنيا ميدان يتسابق فيه الناس إلى تحقيق هذه الغاية، من الناس من نام وغفل، ومنهم من تولى وأعرض، ومنهم من مشى مشيًا يسيرًا، ومنهم الراكب ومنهم المسابق الساعي فيما يرضي الله –جل وعلا-.
هذه أحوال الناس في هذا الميدان الذي كلهم فيه، لكنهم مختلفون في سعيهم كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾[الليل: 4] أي متفرق مختلف وهذا في سائر الناس على اختلاف عقائدهم وأديانهم وفي سيرهم إلى الله تعالى أيضًا هم مختلفون، فالذين من الله عليهم بالاصطفاء وسلك بهم سبيل الهداية ليسوا على درجة واحدة في السعي، بل قد قال –جل وعلا-: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾[فاطر: 32] إن أعلى المراتب وأشرف المنازل أن يسير العبد إلى ربه –جل وعلا-كما أمره جل في علاه فيما قال في كتابه: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[البقرة: 148] فإن استباق الخيرات هو أمر زائد على الإتيان بها، فالاستباق هو بذل وسعي وحث للنفوس أن تبادر إلى كل ما فيه خير بشغف ونهم، بقوة نفس وحرص على ألا يفوت الإنسان الخير أو أن يفوته ما يؤمل من المبرات والخيرات.
إن الله –جل وعلا-أمرنا بالاستباق فقد: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[البقرة: 148] وهاتان الكلمتان التي جاء بها الأمر بالمبادرة ينطويان على معان كبيرة إن الله –جل وعلا-في الاستباق أمر بالمسارعة وأمر بالسبق كما قال –جل وعلا-: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ﴾[آل عمران: 133] وكذلك قال: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾[الحديد: 21] كل هذا يبين أن السير إلى الله تعالى ينبغي ألا يكون سيرًا وانيًا، ألا يكون سيرًا متلكأ، بل ينبغي أن يكون سير يقبل فيه القلب بكليته ويقبل فيه البدن إلى الله تعالى بكل ما يستطيع فاتقوا الله ما استطعتم وهذا يتطلب بذل غاية الجهد في تحقيق التقوى لله –جل وعلا-وهذا أحد المعنيين في هذه الآية.
إن كثيرًا من الناس يستدلون بهذه الآية على أن افعل ما تستطيع وهو استدلال صحيح، لكن ينبغي أن نعرف أن المطلوب هو غاية الجهد، أن المطلوب هو منتهى الوسع الذي أتاك الله تعالى إياه في سيرك إلى الله تعالى وفي سفرك إليك –جل وعلا-إذا غمرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم.
ينبغي أن يبذل الإنسان ما يستطيع للسبق بالخيرات، وإن من رحمة الله تعالى أن فتح أزمنة وأحوالًا يندب فيها المسارعة إلى كل خير وشحذ النفوس إلى مزيد من العطاء والبذل ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتسابقون في سائر أعمالهم وفي سائر أيامهم وفي كل الفرص التي تسنح لهم فيما رواه الترمذي من حديث عمر رضي الله عنه أن الله تعالى أتاه مالًا فقال: سأسبق اليوم أبا بكر. وذلك لكونهم يشعرون بالمنافسة في فضل الله تعالى المسابقة في مرضاته –جل وعلا-. فأتى النبي –صلى الله عليه وسلم-فقال: يا رسول الله هذا صدقة لله –جل وعلا-. وقد تصدق بنصف ماله فقال له النبي –صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟»قال: أبقيت مثله أي نصف هذا المال مثل الذي أعطيتك يعني نصف المال تصدق به ونصف المال أبقاه لأهله، فجاء أبو بكر رضي الله عنه وأعطى النبي –صلى الله عليه وسلم-صدقة فقال: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر: فما طمعت أن أسبق أبا بكر رضي الله عنه في فضله. الترمذي(3675).
هكذا يكون المتسابقون في سائر أحوالهم، فإذا فتحت لهم الأبواب وندبوا إلى مزيد عطاء وإلى مزيد بذل وإلى مزيد عمل كان هذا من الفرص التي ينبغي أن تهتبل، الفرص التي ينبغي أن تغتنم، الفرص التي ينبغي ألا تفوت ولا تضيع فإن هذه الميادين الخارج منها خاسر إذا لم يتقرب إلى الله تعالى بخير وفضل وسبق وبر.
ولهذا جاء في الحديث «وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ» الترمذي(3545)إذًا هي فرصة الخارج منها إما رابح، وإما خاسر، فليس هناك حال يمكن أن يكون الإنسان فيها متوسطًا بين لا خسار ولا ربح، إنما هو ربح وخسار، فينبغي أن يبادر إلى أن يكون رابحًا بأعلى ما يستطيع وأكبر ما يمكنه من الخيرات والمبرات والفوز وإن من أعظم ما يعين الإنسان على ذلك أن يستدرك وأن يعلم إن هذه الدنيا ليست ممتدة إلى ما لا نهاية إنه قد قال: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾[الرعد: 38]، ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾[الزمر: 30] فنحن نسير إلى آجال هذه الآجال لابد أن تنقضي مهما طالت وامتدت وحسنت وزانت لابد أن تنتهي لأن هذه الآجال سيكون بعدها جزاء ولذلك قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[المائدة: 48].
إذًا لابد أن نهيأ لذلك المرجع ما نُسر به ونزدان به أمام الله –جل وعلا-ونفرح بلقياه عند الله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، إنه من المهم أن يعرف الإنسان أن لهذا الأجل منتهى ونحن نسير إلى الله تعالى ينبغي أن نتذكر النعم التي نحن فيها وأن نستغلها؛ ولهذا جاء عند الحاكم وغيره بإسناد لا بأس به أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال:«اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ» هناك غنيمة وخسار صحتك قبل مرضك، شبابك قبل هرمك، فراغك قبل شغلك، غناك قبل فقرك، حياتك قبل موتك، مستدرك الحاكم(7846) إنها غنيمة أن تسلم من أضدادك في هذه الأحوال، وقد فقه ذلك صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-ففي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم-أوصاه قال: «كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»البخاري(6416) هكذا يكون الإنسان في مسيره إلى الله تعالى متطلع إلى الآخرة، متطلع إلى ما عد الله تعالى لأوليائه وعباده ينفذ ببصره وبصيرته إلى ما وراء هذه الدار، إلى الأمور التي هي يضمن روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار إلى ما وراء ذلك يوم يقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا ليس معهم شيء ﴿وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾[الأنعام: 94] لا يأتي الإنسان يوم القيامة إلا عمله فإنه ينظر أيمن منه فلا يرى إلا النار، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا النار وفي بعض الروايات: ينظر أيمن منه فيرى عمله، وينظر أشأم منه فيرى عمله ثم بين يديه النار. ينظر: البخاري(7512), ومسلم(1016)، والترمذي (2581) و (2582), وابن ماجه (185) و (1843) ، ومسند أحمد (18246)، وصحيح ابن حبان (473) و (7365)..
هكذا لا يفك الإنسان يوم القيامة إلا عمله، ولهذا يأتي العبد يوم القيامة في ظل صدقته، يأتي العبد يوم القيامة مطاياه ومراكبه التي يسير عليها ليست المراكب الفارغة والأشياء الجميلة التي كان يركبها في الدنيا، إنما هي الأعمال هي مطايا الخلق يوم العرض على الله –جل وعلا-.
لذلك ينبغي أن يستطيب الإنسان ذلك المركب الذي يركبه يوم يكون أحوج ما يكون إلى ما يرتفع به ويعلو ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾[الواقعة: 10] السابقون إلى الطاعات في هذه الدنيا والمبرات والخيرات في هذه الدنيا هم السابقون يوم القيامة إلى فضل وجنة عرضها السماوات والأرض.
إن أعظم ما يحصل به السبق يوم القيامة هو العمل الصالح ليس هناك ما يسبق به الناس، لا بأنسابهم ولا بأموالهم ولا بما كانوا عليه من جمال وبهاء «إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأَمْوالِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأَعْمالِكُمْ» مسلم(2564) لذلك من الضروري لكل مؤمن أن يغتنم الفرص وقد ضرب لنا النبي –صلى الله عليه وسلم-مثلًا عاليًا لهذا مع كونه –صلى الله عليه وسلم-قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكنه كان حريصًا على القيام بالخيرات والمسابقة إليها، فكان إذا دخل العشر كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة :«شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ, وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» البخاري(2024), ومسلم(1174).ماذا يريد؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
قال النبي –صلى الله عليه وسلم-لما قيل له من طول القيام تورمت قدماه فقيل له: لما تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا» البخاري(4837) العبد بحاجة إلى التعبد لله تعالى وتذوق هذه اللذة وشهود هذه المنة وهذا الطعن فيما يتصل بالتقرب إلى الله تعالى والعبودية له حتى لو ضمنت له الجنة.
وهذا معنى قوله –صلى الله عليه وسلم-: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا»إن المسابقة إلى الله تعالى بالخيرات تتضمن السبق إلى كل بر والبر ينقسم إلى قسمين؛ إما فرض، وإما نفل إذا كان كذلك فينبغي أن نتبدأ أولًا بالفرائض تجويدًا وتطيبًا فإنه أحب ما تقرب إلى الله تعالى من الأعمال ما كان فرضًا.
في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-يقول الله: «مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ» ثم يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-في الطريق الذي تحصل به الولاية ويدرك به هذه المنزلة العالية «مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ» يقول الله تعالى: «ما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها» ثم انظر الخيرات بعد هذه المعية التي تقتضي الحفظ والتأييد والنصر والظهور «وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» البخاري(6502) هذا كله نتاج ما يمكن أن يدركه الإنسان من قيامه ومسابقته إلى الواجبات وبعد ذلك إلى المبرات من النوافل والتطوعات.
إنها فرصة أن نعود أنفسنا المسابقة إلى الله تعالى، ليالي معدودة هي التي يعيشها المسلمون في هذه الأيام في أيام الشهر المبارك ينبغي أن يحرصوا على الاستكثار من الخيرات والمسابقة إلى المبرات والنظر إلى أولئك القوم الذين كانوا يطيلون القيام حتى خافوا ألا يدركوا الفلاح كما جاء في حديث النعمان بن بشيرأخرجه أبو داود (1375)، والترمذي (806)، والنسائي (3/ 202)، وابن ماجه (1327) وكان بعض الصحابة رضي الله عنهم يستعين على طول القيام بالاعتماد على العصي ونحن نصلي صلوات ـ الله أعلم بها ـ في قصر وقتها وفي عدم إتقانها وجودتها, ينبغي أن نبادر إلى كل خير وأن نعلم أنما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله, ما نقدم لأنفسنا إنما نقدمه لنفرح به ونلقاه يوم تقوم القيامة ويوم يعرض الناس على الله تعالى فيجزي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تسلك بنا طريق الرشاد وأن تعينا على طاعتك وأن تجعلنا من حزبك وأوليائك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.