الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، أحمده جل في علاه لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين لا إله إلا هو الرحمن الرحيم, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صفيه وخليله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
فإن الله –جل وعلا-خلق هذا الكون بأرضه وسمائه، بليله ونهاره، بإنسه وجنه، خلقهم –جل وعلا-واصطفى منهم ما يشاء ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[القصص: 68]، وكان مما اصطفاه من الزمان تلك الليلة الشريفة الكريمة، الليلة التي خصها الله تعالى بإنزال خاتم الكتب على خاتم الرسل، الليلة التي أشرقت بها الأرض بعد ظلماتها إنها ليلة القدر تلك الليلة الشريفة الكبيرة المكان ورفيعة المنزلة التي قال فيها ربنا –جل وعلا-: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: 1-3] ثم ذكر من أوصافها ما يبين عظيم قدرها وجليل رفعتها وأنها قد بلغت بين الليالي غاية الفضل ومنتهى الكرم ليلة القدر ليلة بلغت السنام بين الليالي، بلغت الذروة في الفضل والعطاء والاصطفاء بين سائر ليالي الزمان في ليلة القدر كم قد حل من شرف إنه شرف كبير وفضل عظيم يبينه قول الله –جل وعلا-لنبيه –صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 2] أي: أي شيء أعلمك بفضلها وأي شيء يبين لك ما حوته من الخير والبر والبركة وجزيل العطاء يقول الله –جل وعلا-: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 3-4] ليلة القدر سميت بهذا الاسم لعلو مكانها وشرف زمانها وما حدث فيها من أعظم الأحداث الكونية وهو إنزال هذا الكتاب المبين، فهي ليلة قدر ليلة شرف ليلة رفعة ليلة مكانة كما أنها سميت بهذا الاسم لأنه الوقت الذي يقضي الله تعالى فيه من أقداره وأقضيته وأحكامه الكونية ما يقضيه –جل وعلا-فقد توافق إنزال الحكم الشرعي مع القضاء الكوني في هذه الليلة المباركة، فأنزل القرآن وهو كلام ربنا وحكمه الشرعي كما أن الله تعالى يقضي فيها ما يشاء من الأقضية والأقدار في الآجال والأرزاق، في الحياة والممات، في الولادة وغيرها من حوادث الزمان.
قال –جل وعلا-﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 4] أي: أمر محكم يحكمه من هو الحكيم الخبير الذي أحسن كل شيء صنعه –سبحانه وبحمده-إن المؤمن يفرح في هذه الليلة ويجد انشراحًا وبهجة لإدراكها والنشاط فيها.
ولهذا اعتكف النبي –صلى الله عليه وسلم-شهرًا كاملًا في سنة من السنوات يطلب ليلة القدر في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم-اعتكف ومعه أصحابه في العشر الأول من رمضان فقال في انقضاء العشر "إن الذي تطلبونه أمامكم" والذي يطلبونه هو ليلة القدر فاعتكف الصحابة رضي الله عنهم العشر الأوسط، فلما هم النبي بالخروج مع أصحابه جاءه جبريل فقال: "إن الذي تطلب أمامك" فبقي النبي –صلى الله عليه وسلم-وبقي أصحابه وأخبرهم بعلامة رؤية ليلة القدر في ذلك العام وكانت ليلة إحدى وعشرين. البخاري(813), ومسلم(1167) بمعناه .
هكذا طلب النبي –صلى الله عليه وسلم-ليلة القدر في كل رمضان وهذا يدل على نفاستها وعلو قدرها، إنها كما قال الله تعالى خير من ألف شهر في فضلها وثوابها، خير من ألف شهر فيما يكون فيها من العمل الصالح الذي تعلو به الدرجات وترتفع به المقامات، خير من ألف شهر في كل ما يكون من الخيرية فينبغي أن يجتهد الإنسان في نيلها والفوز بها وتطلبها، فهي ليلة العمر من وفق إليها وفق إلى خير كثير.
وقد كان هم الصحابة رضي الله عنهم أن يدركوا تلك الليلة، ولذلك كانوا يرونها حتى في منامتهم ولذلك في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم-يقول لأصحابه «أرَى رُؤْيَاكُمْ قدْ تَوَاطَأَتْ في السَّبْعِ الأوَاخِرِ، فمَن كانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا في السَّبْعِ الأوَاخِرِ» البخاري(2015), ومسلم(1165) من رمضان هكذا أصبحت همًا لذلك المجتمع, ولتلك الصفوة من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم-لكونها من أعلى وأنفس ما يدركه الإنسان من الخير في هذه الدنيا إن ليلة القدر فيها من الخيرات والعطايا والبركة والفضل ما بينه قوله –صلى الله عليه وسلم-كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة «مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ» البخاري (2014), ومسلم(760) وهذا أعظم عمل يعمر به الإنسان هذه الليالي التي منها ليلة القدر إنه القيام ذاك الذي أثنى الله تعالى على أهله ووصفهم بالعلم فقال: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9] إن أولئك الذين قاموا واجتهدوا هم أهل العلم هم أهل البصيرة هم الذين يتأسى بهم ويقتدى، إمامهم النبي –صلى الله عليه وسلم-فكان إذا دخل العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وشد المآزر –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-في طلب ماذا؟
في طلب فضل تلك الليلة في طلب النوال من الرب الذي يعطي على القليل الكثير، إن النبي –صلى الله عليه وسلم-كما قالت عائشة في الصحيحين:«كان يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها» مسلم(1175) وما ذلك إلا لطلب هذه الليلة الفاضلة الشريفة.
فلذلك ينبغي أن نجتهد في ألوان الطاعة والبر في هذه الليلة أعظم ذلك الصلاة، القيام فقد قام النبي –صلى الله عليه وسلم-بأصحابه في هذه الليالي في ليلة ثلاث وعشرين وفي ليلة خمس وعشرين وفي ليلة سبع وعشرين وذلك موافقة وإلا فالنبي –صلى الله عليه وسلم-كان يقيم العشرة كلها، لكن وافقه أصحابه في تلك الليالي فصلوا بصلاته فكان أن صلى بهم ليلة ثلث الليل، وفي التي تليها شطر الليل، وفي التي تليها حتى مضى أكثر الليل يقول النعمان بن بشير رضي الله عنه: :"حتى خشينا ألا ندرك الفلاح"مسند أحمد(18402) أي من طول قيام النبي –صلى الله عليه وسلم-خافوا ألا يتمكنوا من السحور.
وهذا يدل على أن النبي –صلى الله عليه وسلم-كان شديد العناية بإدراك هذه الليلة والاجتهاد فيها حتى أمضى مع أصحابه غالب الليل في القيام وذلك في تدرج واضح في طلب الخير والمسابقة إلى البر خلافًا لما يفعله كثير من الناس من الاجتهاد في أول الشهر ثم القعود في آخره.
ولذلك من الحكمة أن كانت ليلة القدر في آخر الشهر ليبلغها المشمرون ويصل إليها العاملون المجتهدون، أما أولئك المنقطعون الذين يبذلون ليلة أو ليلتين ثم يعودون إلى سالف عهدهم من الغفلة واللهو، فإنهم لن يدركوا تلك الليلة إن قيام رمضان يحصل بأن يوافق المأموم الأئمة في صلواتهم حتى ينصرفوا كما جاء ذلك في حديث أبي ذرالترمذي(806), وقال:"حسن صحيح". ولذلك قالوا للنبي –صلى الله عليه وسلم-لو نفلنا بقية ليلتنا فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «من قام مع الإمامِ حتى ينصرفَ كتب اللهُ له قيامَ ليلةٍ»الترمذي(806), وقال:"حسن صحيح"، فقيام العشر الأواخر على أقل أحواله هو أن تبقى مع الأئمة حتى ينصرفوا، فإن ذلك سواء طالت صلاتهم أو قصرت فإنه من حقق ذلك فاز بنصيب من قيام ليلة القدر لكن ينبغي أن يعلم أن الناس في هذا ليسوا على سواء، فمن فاز بقيامها والاجتهاد فيها في غالبها وأكثرها ليس بمن فاز بقيام بعضها وإن كان من جملة القائمين فيها، إن مما يشرع في هذه الليلة الكريمة أن يزرع الإنسان بالدعاء والسؤال ويجتهد بطرح المسائل على الرب الكريم جل في علاه.
في الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-«أرأيْتَ إنْ عَلِمتُ أيَّ ليلةٍ لَيلةُ القدْرِ ما أقولُ فِيها؟ قال: قُولي: اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ، تُحِبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي» سنن الترمذي(3513), وقال:"هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ". وهذا أكبر وأعلى ما يأمنه السائل أن يعفو عنه رب الأرض والسماء.
ولهذا وجه إليه النبي –صلى الله عليه وسلم-في هذه الليلة التي يرجى فيها إجابة السؤال وإعطاء من رغب ودعا وطلب وتضرع ما سأل الله –جل وعلا-لذلك ينبغي أن نجتهد في الدعاء، أما ما يفعله بعض الناس من تخصيص ليلة القدر أو ما يظن أنه ليلة القدر بعبادة كالعمرة مثلا فهذا ليس عليه أصل يدل عليه سوى أن العمرة في رمضان تعدل حجة.
مما ينبغي أن ينبه إليه أنه لا يسوغ الإسراف فيما يتصل بالرؤى، فكثير من الناس يجزم بأن هذه الليلة هي ليلة القدر، بأن هذه الليلة هي الليلة التي رؤية فيها ليلة القدر، وما أشبه ذلك وهذا لا دليل عليه، إنما النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «أرَى رُؤْيَاكُمْ قدْ تَوَاطَأَتْ»البخاري(1158), ومسلم(2478) وكلهم صحابة، فالرؤية لا تجزم بأن الليلة الفلانية هي ليلة القدر، إنما هي من المظنة التي يرجى فيها الموافقة.
ولنعلم أن أبرز علامة لليلة القدر لا تكون إلا بعد انقضائها كما دل على ذلك حديث أبي بن كعب رضي الله عنه في صحيح الإمام مسلم:" أن الشمس تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها"مسلم(762)، فدل هذا على أن ليلة القدر ليس لها علامة خاصة فما يذكر من انشقاق السماء وسقوط الأشجار وما يذكر من رؤية الأنوار ليس هذا علامة عامة، إنما العلامة العامة هي ما ذكرها النبي –صلى الله عليه وسلم-.
وهذه قد يراها بعض الناس وقد ذكر هذا جملة من العلماء، لكن هذا لا يصلح أن يكون مما يستدل به على ليلة القدر بعمومه لأن أكثر الناس يشاهدون هذا.
وعلى كل حال الذي ينبغي للإنسان أن يجتهد في العمل في هذه الليالي، والذي نرجوه من كرم الله تعالى وعظيم إحسانه وبره أن من قام هذه العشر راهبًا واجتهد فيها بالأعمال الصالحة، فإنه سيوفق لليلة القدر علم ذلك بالعلامات أم لم يعلم, فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وأن يبلغنا فضل هذه الليلة الكريمة وأن يرزقنا فيها العمل الذي يرضى به عنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.